د. حسن مدن -
عندما نكون في منتصف رواية نقرأها لا نعود كما كنا في بدايتها، ولسنا كما سنكون عند نهايتها. في مطالع الرواية نحاول الإمساك بالخيوط الأولى لها، لأحداثها وشخصياتها. كل شيء بالنسبة لنا غامض ومبهم ومحير، فنحن في طور الاستكشاف، لكن عندما نستوي إلى منتصف الرواية، نكون قد كوَّنا فكرة عن مسارها، وأقمنا علاقة مع أبطالها. إنهم، بمعنى من المعاني، باتوا أصدقاء لنا: ربما نحبهم، ربما نتعاطف معهم، ربما نشفق عليهم، ربما نحسدهم أو نغبطهم، وربما نكرههم أيضاً، لكننا نصبح أسرى الشعور بأن هؤلاء باتوا «أصحابا» لنا أو معارف على الأقل، فلقد تقصينا بعضا من تفاصيل حياتهم في المشوار الذي قطعناه منذ أن باشرنا قراءة الصفحات الأولى في الرواية حتى بلغنا منتصفها، وننشغل بالتوقعات والتساؤلات: ما الذي سيحدث لهم، أية أقدار تتهيأ لهم، وننشغل أيضا بالأمنيات، كأن نرسم نحن أنفسنا نهايات أو مصائر نشتهيها لهؤلاء الشخوص، كأنهم أصدقاؤنا وأحبتنا الذين لا نريد لهم أن يموتوا مثلا أو يرحلوا، وحتى عندما يوحي لنا كاتب الرواية بمقدمات مصائر صعبة أو حزينة أو مؤلمة، فإننا نجهد لئلا نصدق هذه التكهنات أو نتجاهلها، ونتمنى في قرارة أنفسنا نهايات سعيدة لهؤلاء الأبطال.
أقصى درجات الإثارة والتوتر في الرواية تأتي عند منتصفها. المخيلة في حال كهذه تنشط لإطلاق توقعاتها بعد أن أمسكنا بالمفاصل الرئيسية التي تدلنا على مجاهيل العالم الذي تعيشه هذه الشخوص، ويمكن لكاتب الرواية أن يخاتلنا ويخدعنا ويجعل منا ضحايا وهمٍ يوحيه لنا بمكر وإتقان، على نحو ما تفعل نجمة الروايات البوليسية الشهيرة آغاثا كريستي، التي تصدمنا في نهاية الرواية بنتيجة أو خلاصة غير متوقعة على الإطلاق، بعد أن تكون هيأتنا في اتجاه آخر، حيث تذهب ظنوننا نحو افتراض«قاتل» اخر غير القاتل الحقيقي الذي ستكشف عن هويته في الصفحة الأخيرة لروايتها أو ما قبلها بقليل، لكن في الغالب الأعم فإن الكاتب يُمهد للنهايات بصورة تدريجية، لكنه يضعنا دائما في الحيز القلق من الترقب والحيرة والسؤال.
في منتصف الرواية، إذا كانت رواية جيدة، نكون في منطقة اللاعودة، ليس بوسعنا أن نركن الرواية جانباً. إننا محمولون على أن نذهب معها وبها إلى صفحاتها الأخيرة لنشبع فضولاً كبيراً استحوذ علينا حول المآل الذي ستؤول إليه الأمور، وهو مآل نحن بالغوه بقليلٍ من الصبر لأنه مدون في ما تبقى من الصفحات.
منتصف الحياة مثل منتصف الرواية، إننا في منتصف الحياة نكون قد أمسكنا بالخيوط الأولى لمسار هذه الحياة، وخلفنا وراءنا من الأحداث والذكريات والوجوه ما يشبه ما يخلفه وراءه قارئ لأحداث رواية. وفي منتصف الحياة نكون كما نحن في منتصف الرواية نترقب الآتي من هذه الحياة التي انتصفت مع فارق يبدو بسيطا لكنه جوهري، هو أن ما تبقى من أحداث الرواية مدون فيما تبقى من صفحاتها، أما ما تبقى من منتصف الحياة فعلمه في الغيب.
في منتصف الحياة بوسع الناس التأمل برويّة في أنفسهم ليكتشفوا كم هم محمولون على ارتداء العديد من الأقنعة، وكلما أزاحوا قناعاً ظهر قناع آخر خلفه، كأن الأقنعة تشكّل حاجزاً سميكاً بين ذاتهم الأصلية، الحقيقية، وبين الصورة أو الصور، التي يقدمون بها أنفسهم إلى الناس، أو التي يعرفهم الناس من خلالها.
قليلون، لا بل نادرون هم أولئك البشر الذين ينبذون الأقنعة ويتصرفون كما تقتضي السليقة أو الفطرة، لأننا منذ الصغر ننشأ أو نُربى على ضرورة ارتداء القناع، أن نتكتم على مشاكلنا وعلى ما نعانيه وأن ندفنه بعيداً في أعمق الأعماق حتى لا يعرفه أحد، وكي نفعل ذلك بإتقان فليس سوى ارتداء الأقنعة لحجب حقيقة ما نعاني، ولكي نظهر أمام الآخرين في أحسن حال.
«إيدا لوشان» وهي طبيبة نفسانية أمريكية شهيرة، في كتابها القيم: «أزمة منتصف العمر الرائعة»، أفردت فصلاً مهماً لهذا الموضوع، واختارت له العنوان التالي: «عبء الأقنعة التي نتعامل بها»، وفيه تحرّضنا الكاتبة ضد الأقنعة التي نرتديها سواء كنا مكرهين على ذلك أو حتى باختيارنا .
تعتقد المرأة أننا نشعر بوطأة التكتم الشديد ولا نريد التضحية بالخصوصية مقابل الراحة في أن يشاركنا أحد أحزاننا، أي أننا نحرص أو نرغب في إخفاء معاناتنا عن الآخرين وإظهار أنفسنا وشركائنا في أحسن حال، ولكن إذا كان إخفاء المشاعر عن الآخرين عبئا أساسيا واضحا، «فإن المشكلة الأعمق هي أننا نخفي مشاعرنا عن أنفسنا» .
وهي تنصحنا بألا نرتدي أقنعتنا طوال الوقت، وألا نجعلها محكمة حتى نظن نحن أنفسنا أن كل شيء عظيم. وهناك سبل عديدة للتواصل مع الذات، ويمكن أن نحقق ذلك عن طريق التأمل أو عبر تطوير ثقافتنا أو أدائنا المهني لنصل إلى تلك اللحظات التي نتصرف فيها على حقيقتنا الداخلية التي تؤدي إلى تدفق كبير في نمونا.
منتصف الحياة فرصة لنا كي نرفع أقنعتنا، ونعود «حقيقيين»، وأن نحاول إيجاد التوازن الصحي والضروري بين فرحنا وحزننا، بين شعورنا بالخيبة أحيانا وميلنا إلى التحليق عاليا أحيانا أخرى .هذا التوازن لا يتحقق إلا إذا كففنا عن الكذب على أنفسنا، بأن نطلق العنان لسجيتنا قدر ما نستطيع، وبالنظر إلى الداخل سنشعر بصدق بإمكان إزاحة القناع أو الأقنعة عن أنفسنا، بإمكان أن نعيش ذاتنا بأكبر قدر ممكن ولأطول وقت ممكن.
منتصف العمر المنقضي منا يوفر لنا هذه الفرصة، حيث نكون قد امتلكنا من الخبرات ما يكفي ومن النضج ما يجعلنا نحرر ذواتنا من أغلالها، كي نعيش النصف المتبقي وقد استعدنا هذه الذوات التي حجبتها الأقنعة، وأن نبادل الحياة ما تستحقه من حب.
في بداية ستينيات القرن العشرين قصد الدكتور محمد مندور مدينة الأقصر في زيارة أراد منها التعرف على ما تضمنه المدينة من كنوز أثرية تعطي فكرة عن عظمة ورقي الحضارة الفرعونية.
استوقفت الدكتور مندور في تلك الجولة السياحية المعابد وما فيها من غابات الأعمدة الضخمة التي تدهش العقل، وضخامة التماثيل التي نحتها الفراعنة، ويقول إنه شاهد هناك تمثال محطم لرمسيس الثاني خيل له أن الكتلة التي يتكون منها الرأس وحده تكفي لبناء بيت.
لكنه عبر عن خشيته من أن يأخذنا الانبهار بهذا الجبروت إلى أن نغفل عن النقوش البارزة والغائرة المرسومة على جدران المعابد وأعمدتها، والتي صور فيها الفراعنة معتقداتهم الروحية ونظرتهم إلى الحياة، بما فيها الحياة بعد الموت.
في هذه النقوش يبرز شغف المصريين القدماء بحب الحياة والتعلق بها وتذوقها، وهو ما كان دافعهم إلى نحت التماثيل لملوكهم وهم في نضارة الشباب دائما، وثمة نقوش تظهر تعميد الآلهة للفراعنة بالماء المقدس كي يعودوا إلى مطلع الشباب النضير وكان هذا التعميد يتجدد كل سنة كي تتجدد النضارة.
شعور مثل هذا بمحبة الحياة والتعلق بها كان في أساس الإحساس بالتفاؤل الدائم وتشييد ذلك العمران المبهر الذي قاوم الزمن وما يزال، ولو أن ما هيمن عليهم يومها كان شعور نقيض بالتشاؤم وعبثية الحياة لما كانوا بنوا حضارةً ولما تركوا أثرا، بما فيها تلك الآثار التي تظهر ولعا بالفنون والجمال.
التنشئة على كراهية ما في الحياة من جمال، بارتداء الأقنعة التي تقمع فطرة البشر السوية، تخلق أفرادا مشبعين بالتعصب والانغلاق والعنف الكامن الذي قد يفصح عن نفسه بأبشع الصور دموية، والانصراف عن الانخراط في الحياة، نحو فرض الصرامة والتجهم، فيما التنشئة النقيضة تخلق أفرادا مفعمين بالحياة والأمل والعطاء.