د. حسن مدن -
المعركة التي تخاض اليوم ضد الظلامية والتطرف والتعصب والعنف وضد «الداعشية»، فكرا وسلوكا ومنابع، لن تجد أفضل من ابن رشد ومؤلفاته معينا لها، في تحصين الأدمغة ضد التكفير وتسويغ القتل، هو الذي مثَّل ذروة من ذرى الجهد الفلسفي العربي القديم في انتصاره للعقل، وفي المثاقفة العميقة مع المنجز الفلسفي الإنساني، خاصة لدى الإغريق، لا للوقوف عنده، وإنما للمضي به نحو مدارج أعلى ومضامين واستنتاجات أعمق.
نقول ذلك، انطلاقا من رأينا بأنه كي ندرك بعض جذور محنتي الفكرية والحضارية الراهنة، علينا العودة إلى صفحات من تاريخنا، أقصيت مع سابق الإصرار والتعمد، هي بالذات الصفحات التي كان يمكن أن تمهد لحالٍ من التنوير، الذي لو سلكناه، ما وجدنا أنفسنا في الدرك الأسفل الذي نحن فيه اليوم، بالقياس لما بلغته الأمم الراقية التي استلت من تراثنا هذه الصفحات المضيئة وأحسنت توظيفها في تجديد ذاتها.
ابن رشد الذي أنكره أهله، على نحو ما فعلنا ونفعل حتى اليوم مع أدمغتنا اللامعة التي ترى أبعد مما نرى، استفادت منه الحضارة الغربية أيما استفادة، حين ترجمت مؤلفاته إلى اللاتينية، ويقال إن ذلك تمَّ حين نصح مساعدو الإمبراطور فريدريك الثاني بأن يفعل ذلك، لأن تلك المؤلفات ستكون خير عون له في معركته ضد التزمت الثيوقراطي.
لقد ترافق ذلك مع تحولات اجتماعية واقتصادية كبرى فراجت التجارة وظهرت طبقة من أصحاب الحرف في المدن الأوروبية وانتعشت الآراء التي ترفض الحكومات الثيوقراطية والخضوع الى روما، حيث أدرك الإمبراطور أن صون تلك التحولات وتقويتها يستلزم توفر العدة الفكرية والعقلية لمقاومة التزمت والتعصب، بالإعلاء من دور العقل وحرية التفكير.
وما انتصف القرن الثالث عشر إلا وأصبحت مؤلفات إبن رشد منقولة من أصلها العربي الى اللغة اللاتينية. وأطلق الأوروبيون على ابن رشد لقب الشارح، قاصدين أنه خير من شرح فلسفة أرسطو ويسَّر انتشارها، لأنه عاد الى أصولها وحررها مما لحق بها من تشويهات على أيدي من أتوا بعده، ولكن في الاكتفاء بوصف ابن رشد بالشارح غبن للرجل، ذلك أن شروحاته عن أرسطو كما يعرف دارسو الفلسفة الكبار كانت إضافة للتراث الفلسفي الإنساني.
ولم تكن معركة ابن رشد في أوروبا، بعد ترجمته إليها، بأقل ضراوة من معركته في عصره مع قومه، فكما حرقت كتبه في زمنه، وتم نفيه من قرطبة، وتكالب المتكالبون على تراثه لمحوه من الذاكرة، فإن محاكم التفتيش في القرون الوسطى تصدت لأفكاره لأنها تدرك بالغريزة رحابة الآفاق التي تفتحها تلك المؤلفات، والتي تؤدي مع الوقت إلى تقويض الأفكار الرجعية، لكن أفكار إبن رشد ربحت، في النهاية، تلك المعركة في أوروبا، التي تظل مدينة، في نهضتها الفكرية والفلسفية بالكثير لهذا الرجل.
نصيب ابن رشد في بيئته العربية الإسلامية كان النقيض، ففضلاً عما تعرض له من اضطهاد ومن حرق لكتبه في حياته ومن ثم نفيه، فانه جرى تعمد إسقاط اسمه من قبل الرواة الذين أتوا بعده بغية محو تراثه من الذاكرة الفكرية العربية، فلم تكن ملاحقة الرجل وأفكاره في حياته وحدها، وإنما استمرت بعد مماته، وما زال القائمون على منظومتنا التعليمية حتى اللحظة يستهدفون هذه الأفكار بالإقصاء، جهلا بقيمتها في بعض الأحيان، وتجاهلا مع سبق الإصرار والتعمد في الغالب.
في القرن الخامس عشر، حين شعرت أوروبا أنها أخذت من الحضارة العربية ما يمكن أن يؤخذ، راح الأوروبيون يحذفون ما يظهر أي تأثير للعرب فيهم، لا بل راحوا ينكرون أن أسلافهم نقلوا الكثير من المعارف من هؤلاء العرب.
كانت تلك إشارة مدوية إلى أن القوي لا يعود يأبه بالضعيف حتى لو كان هذا الضعيف هو معلمه في الأصل. وستتمادى أوروبا في نكران الجميل، حيث ينقل هاشم صالح في كتابه: «مدخل إلى التنوير الأوروبي» عن أحد المفكرين الغربيين الذي عكس الآية تماما، في معرض جحدانه لتأثير العرب في أوروبا، قوله: إن ابن رشد لم يقرأ أرسطو في نسخته الأصلية، وإنما اطلع عليه من خلال النسخة اللاتينية المترجمة إلى العربية، فيما مؤرخو الفلسفة يعرفون أن اللاتين هم من أخذ عن العرب وليس العكس.
لكن علينا أن نفهم أن هذه النظرة لابن رشد الذي عرفته أوروبا والعالم بوصفه من أكبر شراح أرسطو والمضيفين إليه لم تحدث إلا عندما تعرض الرجل للإذلال بين قومه، وكما يؤكد هاشم صالح، أن الفلسفة اختفت من البلاد الإسلامية بوفاة ابن رشد بعد القرن الثاني عشر الميلادي. وسنلاحظ هنا أيضا أن سقوط غرناطة في القرن الخامس عشر كان علامة فاصلة على القطيعة التي تمت بين أوروبا والعالم العربي، فبعد سبع سنوات فقط من سقوط المدينة في يد الفرنجة دشن في إحدى الجامعات الإيطالية أول كرسي لتعليم أرسطو مباشرة من النص اليوناني.
أحد الباحثين الأوروبيين في مجرى تقييمه لهذا الحدث كاد يقول: لقد استعدنا أرسطو من أيدي العرب، في إشارة إلى سقوط دور الناقل أو الوسيط الذي اضطلع به الفلاسفة العرب مديدا في هذا المجال.
سيواصل هذا الباحث القول: بين سقوط غرناطة واسترجاع أرسطو اليوناني الأصلي هناك نقطة مشتركة هي أن العربي كإنسان ولغة قد أصبح مطرودا من التراث الأوروبي ولم يعد له وجود.
لن يقف الأمر عند تلك النقطة التاريخية، فهي بالأحرى كانت بداية الحقبة الممتدة حتى اليوم التي نكرت فيها مساهمة العرب في الحضارة الإنسانية، لا بل يمكن القول إنها طمست، أو كادت، ليس لأسباب الخصومة الحضارية فقط، وإنما أيضاً لأن جذوة الاجتهاد والعطاء في ثقافتنا قد ذوت.
وفي مطلق الأحوال كيف لأوروبا أن تنكر تأثير أفكار ابن رشد ومجمل التراث الفلسفي العقلاني العربي عليها، في الفترة السابقة لما تزعم أنها استعادت فيه أرسطو من العرب، وهي فترة حاسمة في نهضتها الفكرية والحضارية؟
لكن أمر ابن رشد يعنينا اليوم أكثر مما يعني أوروبا، ففي معركتنا الراهنة ضد الظلامية يتعين الالتفات إلى قامات التنوير والعقلانية في تراثنا، وإرشاد الأجيال الجديدة إلى أعمالها، بجهود يجب أن تتواصل وتتطور في كافة أرجاء العالم العربي، وأن تتحول إلى خطة، أو استراتيجية، الغاية منها نفض الغبار عن مؤلفات هذه القامات، وإعادتها إلى حياتنا المعاصرة، في المناهج والمقررات الدراسية والبرامج التعليمية وأنشطة الجامعات ومعاهد ومراكز البحث، ليس فقط لأنها تمثل الجزء الأكثر إشراقا في تراثنا، وإنما أيضا لأن معركة ابن رشد وسواه ضد الظلامية هي ذاتها معركتنا اليوم ضدها.
كي تنجح معركة التنوير العربية، علينا استعادة ابن رشد.