معركة تهافت الفلاسفة وتهافت التهافت -
عبد الله العليان -
اهتم المفكر د. محمد عمارة بالفلسفة، وتتبع نتاجات الفلاسفة الفكرية، منذ بداية حياته ككاتب ومؤلف، واحتل فكر ابن رشد وفلسفته من ضمن اهتمامه، وكذلك فكر الإمام الغزالي في مرحلة لاحقة ورؤيتهم في الفلسفة، وقد جرى بين الإمام أبو حامد الغزالي، والفيلسوف ابن رشد سجالات ومناقشات عبر المؤلفات، من خلال رؤيتهم للفلسفة في قضاياها الفكرية، وقصة كتابي (تهافت الفلاسفة)، للإمام الغزالي الذي هاجم في هذا الكتاب،الفلاسفة اليونانيين، ومن شايعهم من فلاسفة المسلمين في رؤيتهم الفلسفية، وكتاب (تهافت التهافت)،لأبن رشد الذي رد على الغزالي في هذا الكتاب، ودافع عن الفلسفة والفلاسفة، وناقش د. محمد عمارة هذه السجالات الفلسفية والفكرية بينهما..
ففي كتابه (ابن رشد فقيه الفلاسفة..وفيلسوف الفقهاء)، طرح د.عمارة قصة الخلاف بينهما، وكيف تم السجال، على الرغم أنهما لم يلتقيا، بحكم أن الإمام الغزالي توفى قبل أن يولد ابن رشد بخمسة عشر عاماً، فمع إبداع الغزالي في ميادين العقلانية الإسلامية الخالصة، كما تجلت في علم الكلام، وعلم أصول الدين، وعلم أصول الفقه، أراد توجيه النقد لتجليات الفلسفة اليونانية في المحيط الإسلامي، تلك التي تحررت عقلانيتها من (النقل) والوحي، فكان كتابه [تهافت الفلاسفة] نقدا للنظريات الفلسفية، ذات الأصول اليونانية، التي تبناها بعض فلاسفة الإسلام وخاصة الفارابي (260 339 هـ 874 950 م) وابن سينا (428 ه 980 1037م)، فاقتصر النقد في هذا الكتاب (على إبطال ما اختاراه ورأياه الصحيح من مذاهب رؤسائهم) من الفلاسفة القدماء أي اليونانيين. وإذا كانت العقلانية الإسلامية كما فهمها الغزالي، ودافع عنها، وحبذها هي العقلانية المؤمنة، التي تؤاخي بين (نور العقل) و(نور الشرع)، والتي رآها (الوسطية الإسلامية الجامعة) بين النورين، والمتميزة، عن غلو بعض الفلاسفة. وهي عقلانية (وسطية، من خلال الذين تحققوا أن لا معاندة بين الشرع المنقول والحق المعقول، وهو في كتابه [تهافت الفلاسفة ] يرد على «الفلاسفة القدماء- أي الإغريق- وعلى «المقلدين لهم».. وهو لا يكفّر الفلاسفة بتعميم وإطلاق - فلقد كان من أكثر العلماء تحرجا من التكفير-.. وإنما رأيناه يتحدث عن هؤلاء الفلاسفة فيقول: «إنهم مؤمنون بالله، ومصدقون لرسله، ولكنهم اختبطوا في تفاصيل بعد هذه الأصول، قد زلوا فيها، فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل» فلقد اتفق كل مرموق من الأوائل والأواخر على الإيمان بالله واليوم الآخر..
والاختلافات راجعة إلى تفاصيل خارجة عن هذين القطبين، اللذين لأجلهما بعث الأنبياء المؤيّدون بالمعجزات، ولم يذهب إلى إنكارهما إلا شرذمة يسيرة..لا يؤبه بهم» .. فهو لا يصنف عموم الفلاسفة في خانة القلة الدهرية، الذين كفروا بالله واليوم الآخر..
فالخلاف مع هذه القلة في الأصول، بينما الخلاف في التفاصيل مع الفلاسفة الذين توجه إليهم بالنقد ص(149،148). وحديث الغزالي أيضا كما يقول د. محمد عمارة في مقدمة هذا الكتاب، ناقش فكر الفلاسفة اليونانيين، ومن تبعهم من اشتغلوا بالفلسفة اليونانية،أنه طرح فكرتهم، وناقشها مناقشة علمية من وجهة نظره، وكان ملمًا بهذه الفلسفة وأطروحاتها، فهو «يعالج ذات القضية الحديثة التي تبنتها الفلسفة الوضعية الغربية، وفلاسفة التنوير الغربي منذ عصر النهضة الأوروبية عندما أرادوا تطبيق مناهج العلوم الطبيعية الدقيقة والمحايدة على العلوم الاجتماعية علوم النفس والسياسة والاجتماع والاقتصاد، بل والفنون والفلسفات والآداب مضيفين على نظرياتهم في العلوم الاجتماعية والإنسانية وعلى مقولاتهم الفلسفية يقين حقائق العلوم الطبيعية وقوانينها، الأمر الذي يختلف معهم فيه الكثيرون.
والغزالي هو الذي صاغ في تراثنا عبارة: (إنه لا مشاحة في الألفاظ والمصطلحات). هو الذي نبه على ضرورة تحديد المراد والمفهوم والمضمون من المصطلحات، كشرط من شروط صحة الجدال مع الفلاسفة، وجدوى الحوار مع الخصوم، فإذا كان (المنطق) هو (آلة الفكر) في المعقولات، فلا بد من الاستعانة على فهم الفلاسفة بفهم مصطلحاتهم المنطقية، وطرائقهم في النظر. ولذلك، وجدناه في [تهافت الفلاسفة] ينبه على ضرورة الاطلاع على كتابه [معيار العلم]، الذي تناول فيه ما يسميه الفلاسفة علم المنطق، وصولًا إلى تحرير وتحديد المفاهيم، كشرط لموضوعية الحوار والجدال ص(151 - 153).
***
أما الفيلسوف والعلامة والفقيه أبو الوليد، ابن رشد، فان د/ محمد يراه في كتابه (تهافت التهافت)، مدافعا قويا عن الفلسفة، وكرس جهده في الرد على أبي حامد الغزالي في كتابه (تهافت الفلاسفة)، وابن رشد كما يقول محمد عمارة «قد جمع بين الإبداع الإسلامي، في الفقه والفلسفة والكلام، وبين تقديمه لأكبر مشروعات الفلسفة اليونانية- فلسفة أرسطو- فلقد وضع منهاجا عادلا لتفاعل الأفكار بين الحضارات المختلفة، وبين المتقدمين واللاحقين..
فالعدالة مع ((الذات)) تقتضي العدالة مع ((الآخرين)).. «وقد يجب علينا إن ألفينا لمن تقدم من الأمم السابقة نظرا في الموجودات، واعتبارا لها، بحسب ما اقتضته شرائط البرهان، أن ننظر في الذي قالوه من ذلك، وما أثبتوه في كتبهم، فما كان منها موافقا للحق قبلناه منهم، وسررنا به، وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق، نبهنا عليه، وحذرنا منه، وعذرناهم». وابن رشد الذي آمن- ككل فلاسفة الإسلام- بوحدة الحقيقة، قد رأى أن أساليب التعبير عن الحقيقة متفاوتة بتفاوت مراتب المتكلمين ومراتب المخاطبين في صناعة الفلسفة والبرهان..
فهناك الجمهور الذين لا دُربة لهم على صناعة الفلسفة، ولا طاقة لهم بفقه مصطلحاتها ومفاهيمها..
ولهذا الجمهور الأساليب الخطابية والوعظية والشعرية، التي يحصّلون بها يقينا مناسبا لمستوياتهم في الإدراك. ولما كان الغزالي- في كتابه (تهافت الفلاسفة)- يجادل الفلاسفة، في مقولات فلسفية، فلقد عرض ابن رشد الأقاويل التي نسبها الغزالي لهم على ما رآه المعايير البرهانية، ليكشف لقرائه حظها من اليقين..
فرأيناه يفتتح كتابه - (تهافت التهافت)- ببيان هذا الغرض من تأليفه له..«فان الغرض من هذا القول ان بين مراتب الأقاويل المثبتة في كتاب (التهافت) في التصديق والإقناع، وقصور أكثرها على مرتبة اليقين والبرهان.لأن هذا هو منهاج ابن رشد، في كتابه هذا، رأيناه في الكثير من المسائل لا يختلف مع مقاصد الغزالي، بقدر ما كان خلافه مع الفهم الذي فهمه الغزالي من كلام الفلاسفة، وجاراهم في هذا الفهم صاحب (تهافت الفلاسفة)، فالمنطلقات الإسلامية الثوابت قد جمعت بين الغزالي وابن رشد، فلم تكن المواجهة بينهما- في كتابيهما هذين- خلافا في العقائد الإسلامية، بل ولا في التصورات الأساسية لهذه العقائد، بل ولا حتى في التأويلات، فابن رشد لا يختلف مع الغزالي في قواعد وضوابط التأويل، بل لقد كان أكثر تحرجا في استخدام التأويل.. بقدر ما كانت المواجهة بين هذا الذي فهمه الغزالي مما هو منسوب إلى الفلاسفة، وبين ما كشف عنه ابن رشد من خطأ في هذا الفهم، وتبيان حقيقة مقولات الفلاسفة ومقاصدهم. لقد رأى ابن رشد أن الغزالي قد وجه انتقاداته إلى التصورات التي قدمها الفارابي (260-339هـ / 874-950هـ) وابن سينا (370-428/980-1037م) لمقالات الفلاسفة القدماء.. ولما كانت مقالات الفارابي وابن سينا، في هذه التصورات – برأي ابن رشد- لا صحة لها، فإن «التهافت» إنما هو فيما فهماه، ونسباه للفلاسفة، وليس للفلسفة ذاتها، «فأبو نصر وابن سينا وغيرهما، الذين غيروا مذهب القوم في العلم الإلهي حتى صار ظنيا، من جنس الأقاويل الظنية.. التي لا تبلغ مرتبة الإقناع الخُطبي، فضلا عن الجدلي، وذلك لقلة تحصيلهم لمذهب القدماء..
ولذلك يحق ما يقول أبو حامد في غير موضع من كتبه: إن علومهم الإلهية ظنية ص(158،157). وقد قدم ابن رشد، كما يقول د/ محمد عمارة، فلسفة أرسطو إلى الناطقين بالعربية تقديما يصلح غايتها التي أفسدها المترجمون، ويضبط معانيها المفسرون، نهض ابن رشد بهذه المهمة؛ فقدم لأعمال أرسطو أوفى الشروح وأدق التفسيرات، حتى لقد عُدّ الشارح الأكبر لأرسطو على النطاق العالمي..
بل ويسّر هذه الفلسفة للمستويات المختلفة من القراء، وذلك عندما قدم لكل كتاب من كتبها ثلاثة شروح- المطول.. والمتوسط.. والموجز- مع إضافات وانتقادات. وكان لابد لمن يقدم أعمال أرسطو لقراء العربية من أن يدلي بدلوه فيما كتبه الغزالي- في (تهافت الفلاسفة)- عن حكيم اليونان ومن تبعه من الفلاسفة المشائين القدماء؛ فكان كتاب ابن رشد (تهافت التهافت) الذي تصدى به لاتهامات الغزالي للفلاسفة.. وإذا كان ابن رشد قد قدّم أدق الشروح العربية لفلسفة أرسطو، فلقد رأيناه يتتبع في كتابه هذا كل الأقاويل التي نسبها الغزالي للفلاسفة، فيفحصها كاشفًا عن حظها من الدقة، وهل بالفعل قد قال الفلاسفة أو قصدوا هذا الذي فهمه الغزالي، فنسبه إليهم، ورده عليهم؟ أم أن هذا الذي نسبه للغزالي للفلاسفة واتهمهم به، هو فهم خاطئ وقاصر، فهمه البعض من كلامهم، وهم منه براء؟..ولقد تناثرت في كتاب ابن رشد (تهافت التهافت)،إشارات نقدية للمنهج الذي استخدمه الغزالي في كتابه (تهافت الفلاسفة)..من أهمها:أن الغزالي بدلًا من أن يقرر المذهب الحق، مع نقضه لما رآه باطلاً، اكتفى بنقض الباطل، دون تقرير المذهب الحق..الأمر الذي يترك القارئ في الحيرة والشكوك كما يرى ابن رشد..لقد قال- (الغزالي)- «إن قصده هاهنا ليس هو معرفة الحق، وإنما قصده إبطال أقاويلهم وإظهار دعاويهم الباطلة..وهو قصد لا يليق به، بل بالذين في غاية الشر.. وقد كان واجبًا عليه أن يبتدئ بتقرير الحق قبل أن يبتدئ بما يوجب حيرة الناظرين وتشككهم». كذلك أبصر ابن رشد- بملكة الفيلسوف- مقام الفلسفة في إبداع الغزالي..فقدم تفسيرًا لموقفه هذا من الفلاسفة والفلسفة، باحتمال أن يكون ((الزمان)) الغزالي وعصره، وأهل ذلك الزمان، والاتهامات التي وُجدت إليه - والتي بلغت حد اتهامه بالزندقة - احتمال أن يكون الرجل قد أراد مداهنة أهل زمانه، بهجومه هذا على الفلسفة والفلاسفة.
ولا ينسى ابن رشد - رغم دفاعه التاريخي عن الفلسفة - الموضوعية التي جعلته يتفق مع الغزالي على أن تراث الفلاسفة في العلوم الإلهية إنما هو (ظني) لم يبلغ مرتبه (اليقين)..
فيقول: «إن قصدهم إنما هو معرفة الحق، ولو لم يكن لهم إلا هذا المقصد لكان ذلك كافيا في مدحهم.. مع أنه لم يقل أحد من الناس في العلوم الإلهية قولاً يُعتدّ به» فمقاصد الفلاسفة الإلهيين- كما يرى د. محمد عمارة- كانت معرفة الحق..وحسبهم هذا سببًا للمديح والثناء..
أما ثمرات فلسفتهم في العلوم الإلهية فليس فيها ما يعتد به! وهذا اعتراف صريح.. وخطير من أبي الوليد» ص(165). ولا شك أن هذا الحوار والمناقشات، أثمرت فكرا قويا في رؤيته، وفي قدرته على المحاججة والنقاش الثري، دون أن يكون هناك نقد ذاتي، وإنما للفكرة ونقيضها، وهذا ما تم بين عملاقين كبيرين، الغزالي وابن رشد.. وللحديث بقية.