د. حسن مدن -
في الأصل، فإن مصطلح «الثورة مستمرة» آت من السياقات السياسية، لا المعلوماتية، وهو يعبر عن سجالات عرفها التاريخ مراراً بين من يقومون بالثورات، ففي حين يرى فريق منهم أن الثورة لا تنتهي بإسقاط النظام الذي قامت ضده، وأن عليها مواصلة المسير نحو اقتلاع كافة مواقعه ومرتكزاته، لا بل وتجاوز النطاق الجغرافي الذي اندلعت فيه لتغطي مناطق وبلداناً أخرى، يجنح فريق آخر نحو التحول مجدداً إلى بناء الدولة والتصرف على هذا الهدي، فلا يمكن للثورة أن تستمر إلى ما لانهاية، وأنه يتعين الشروع في تحقيق الشعارات التي رفعها المشاركون فيها.
ومن أمثلة هذا السجال ما جرى بين ستالين وتروتسكي في السنوات الأولى التي تلت وصول البلاشفة إلى السلطة في روسيا، ففي النهاية انتصر منطق الدولة، حيث أنشأت السلطة الجديدة بيروقراطيتها وقواعد حكمها الخاصة.
مفهوم الثورة مستمرة الذي أخفق في السياسة لأنه ببساطة متناهية غير واقعي، نجح نجاحاً باهراً في ثورة من طراز جديد، هي الثورة المعلوماتية التي تجتاح العالم، فلا تكاد تترك منطقة، مهما كانت نائية، بعيدة عن آثارها وتأثيرها.
بل أن الثورة المعلوماتية هذه تبدو حالاً متجاوزة بكثير لما كانت عليه ثورات مشابهة لها في الطبيعة سابقاً مثل الثورة الصناعية، فمع أن الصناعة هي الأخرى تطورت بدورها ومرت بمراحل من «المانيفكتورا» محدودة الإمكانيات والخصائص إلى الصناعات الدقيقة، لكن هذا تم عبر معراج تاريخي طويل وبطيء إلى حدود بعيدة، فيما الثورة المعلوماتية اليوم تتطور بسرعة السنوات الضوئية.
الدليل على ذلك هذا التطور المتتابع والذي لشدة سرعته يكاد يكون فورياً في وسائل الاتصال الحديثة وفي أجهزتها، فما يكاد الناس يألفون جهازأً من هذه الأجهزة، حتى يباغتهم طراز جديد منه، وفي ذات الوقت الذي يطرح فيه في الأسواق هذا الجهاز تكون أدمغة العاملين في المصانع المعنية تصمم النسخة القادمة منه التي تفوقه في الطاقة والميزات.
ولا يكاد يفصل بين جيل وآخر من هذه الأجهزة سوى أعوام قليلة، وأحياناً لا يتخطى الفارق العام الواحد، بطريقة لا تمكن المستهلكين حتى من التقاط أنفاسهم، وتظهر لأجيال الجديدة من الناس مهارات غير معهودة في سرعة التعامل مع هذه الأجهزة بإتقان وسرعة بالغين.
وفي محاضرة حضرتها مؤخراً لأحد المختصين في المعلوماتية استوقفتني إشارته إلى من أهم معضلات التعليم الالكتروني في المدارس اليوم هو محدودية قدرات المعلمين بالقياس لما لدى التلاميذ من مهارات مكتسبة من تعاملهم مع التقانة الحديثة، تفوق معارف من يتولون تدريسهم بها، فلا يعود بوسع المعلم أن يقدم الكثير، أو الجديد، لتلاميذ تجاوزوه في هذا المجال.
في أزمنة سابقة كان على أفراد النخب الحديثة، أو ممن سيصبحون كذلك، أن يسافروا إلى الغرب كي تنتاب أذهانهم ما استقر وصفه بـ«الصدمة الثقافية» حين يرون ما عليه بلدان الغرب هذا من تقدم ونظافة ونظام وانضباط في العمل، ومجمل مظاهر الحضارة الحديثة التي لا وجود لها في بلدانهم.
ونعرف من تقصينا لسيرة رواد النهضة العربية أنهم وضعوا بذرة الحداثة في مجتمعاتهم، بعد أن أصبح في متناول أيديهم ما يقارنوا به، فزيارتهم أو إقامتهم في الغرب بهدف الدراسة، وضعتهم وجهاً لوجه أمام نموذج حضاري فيه الكثير من الإيجابيات التي يمكن التعلم منها، فأصبحوا، بعد عودتهم، دعاة لفعل ذلك في بلدانهم.
لا تبدو هذه ظاهرة عربية فقط، وإنما هي ظاهرة عرفتها بلدان أخرى في الشرق، كانت تتلمس طرقها نحو الحداثة، وهذا ما يمكن أن نستشفه من اطلاعنا على ما تيسر لنا من ترجمات للأدب الروائي والقصصي المكتوب في بلدان مثل اليابان والصين، أو من معاينة تجربة التحديث في بلد شديد القرب منا مثل الهند.
لا يقتصر الأمر على بدايات التحديث العائدة للقرنين التاسع عشر والعشرين، وإنما يشمل أيضاً آليات التأثر بآليات العولمة، التي هي ظاهرة جديدة نسبياً بالمقياس الزمني، وحسب دراسة أجريت في مدينة بانجلور التي ينظر إليها كمركز للعولمة في الهند، لوحظ انه من النادر أن تصادف عائلة لا يوجد أحد أفرادها مقيماً في بلدان الغرب.
لكن مضى الزمن الذي كانت الناس تذهب إلى الغرب كي تكون قريبة من الحداثة. العولمة لا تنتظر مجيء الناس إلى مراكزها، وإنما هي من يذهب إليهم في بيوتهم حتى لو كانت في أقاصي الأرض.
مهندس برمجيات في مدينة بنجلور ذاتها قال ما معناه: قبل عشرين أو ثلاثين سنة، كي تحقق النجاح كان عليك أن تسافر إلى الولايات المتحدة أو أوروبا، أما الآن فأصبح بإمكانك أن تبقى في الهند وتصبح ثرياً، فما الداعي لتحمل مشقات الغربة والبعد عن الأهل والوطن، طالما كان بإمكانك بلوغ الغاية ذاتها وأنت في مكانك.
طبعاً لم يحدث هذا تلقائياً، لو لم توفر الهند البيئة الحاضنة لطموحات أبنائها في النجاح، خاصة عبر العناية بأنظمة التعليم، والالتفات خاصة إلى البرمجيات التي أنتجت جيلاً متمكناً منها تلقى تعليمه في معاهد متطورة، ما كنا سنصادف مثل هذا القول.
يطرح هذا قضية أخرى: العلاقة بين المحلي والكوني. العولمة في نسختها الهندية لن تكون طبق الأصل عن نظيرتها في أوروبا، خاصة بالنظر إلى الغنى الحضاري والثقافي الهندي. وهذا حديث له مقام آخر.
منذ سنوات، لا بل وحتى عقود، يدور حديث عما يطلق عليه المحلية المعولمة، لرصد حقيقة أنه بات من المتعذر في عالم اليوم الفصل بين ما هو كوني/ عالمي وما هو قومي/ وطني، فقد تداخلا وتفاعلا لينتج عن ذلك ظواهر لا هي كونية صرفة ولا هي محلية صرفة، وإنما مزيج بين الاثنين.
جذور هذا الميل لم تبدأ مع العولمة، فهي سابقة لها بكثير، منذ أن وحدت الكولونيالية والشركات متعددة، ومتعدية القوميات أسواق العالم، لكن العولمة، وثورة الاتصالات التي رافقتها، وسرعان ما أصبحت أحد أهم روافعها انتقلت به إلى مراحل غير مسبوقة في التاريخ البشري.
والحديث الآن لا يدور حول عولمة كونية واحدة تجتاح العالم، مع أن هذا صحيح من حيث الجوهر، فما زال للرأسمالية مركز وأطراف، وما زالت الهيمنة معقودة للمركز إذا ما عدنا لأطروحة سمير أمين، وإنما أيضاً عن «عولمات» مختلفة، أو في عبارة أخرى نسخ متعددة للعولمة. فهي إذ تجتاح العالم من أقصاه إلى أقصاه، وتبلغ، ولو بوتائر مختلفة، حتى أكثر أطرافه عزلة، فإنها حين تتفاعل مع المكونات الثقافية المحلية في أي مجتمع أو لدى أي أمة تجد نفسها محمولة على تكييف أدائها بما تفرضه خصائص هذه المكونات المحلية.
العلاقة هنا تفاعلية إلى حد كبير، حتى لو لم يكن التفاعل متكافئاً، فمما لا شك فيه أن قوانين التدويل العالمي أقوى بكثير من الخصائص المحلية لأي مجتمع، وبالتالي فإن قدرتها على تكييف المحلي لشروطها أقوى، لكن هذه القدرة ليست كلية، إذ لا يعني ذلك، كما تدل التجربة، عجز المحلي من الخصائص على حمل آليات العولمة على أن «تتكيف» معها، فنكون إزاء ما يجوز وصفه بالهجين، الذي هو ناتج اتحاد وتفاعل أكثر من عنصر.
قد تحمل مفردة «الهجنة» شحنة من الدلالات السلبية، حين توضع كمقابل للأصالة، لكن الأمر لم يعد كذلك. فكل الثقافات اليوم هجين، ولعلها كانت كذلك عبر التاريخ يوم كانت الحضارات تتفاعل وتغذي بعضها أخذاً وعطاء، لكن الهجنة اليوم أصبحت سمة طاغية للزمن الذي نعيشه، حيث لم يعد ممكناً الحديث عن ثقافة «صافية» أو «نقية» من المؤثرات الآتية إليها من خارجها بفعل النفوذ الذي لا ينازع للعولمة.
حتى الإرهاب نفسه بات معولماً، رغم أن الضالعين فيه ومريديه ينطلقون من تمسك مفترض بهويات منغلقة، لكنهم يستخدمون في ممارسته أحدث التقنيات ووسائل الاتصال وأشكال التأثير والميديا الأكثر تطوراً، وإلى ذلك، فانه شأن أي نشاط عولمي آخر، عابر للحدود والقارات، بل أنه من أكثر الظواهر تطرفاً في نفي مفهوم سيادة الدول.