عادل محمود -
أحدهم قال عن بردى، وهو يشاهده لأول مرة، بعد أن سمع عنه مرات:
أهذا هو النهر الموجود في الأشعار والأغاني؟
كان بردى في خريف دمشق ضحلاً، متعثراً، قذراً، ضئيلاً، بطيئاً. وأسود... ورائحته كريهة.
قلت له:
أنت ترى بردى الآن بعد أن فتكت به القرى والمدن والمصانع. بعد أن قطعت مليون شجرة في الغوطة العظمى الشرقية والغربية. بعد أن صارت الغيوم تمر فوق دمشق الجميلة، ثم تمضي.
أنت ترى بردى، وقد تسمم ماؤه في عبوره الطويل من نبعه في الزبداني إلى مصبه في بحيرة العتيبة على تخوم بادية الشام.
قلت بعد صمت:
أنا أعرف بردى منذ نصف قرن.
كان غزيراً، رشيقاً، كثيفاً، سريعاً، كان أزرق أيضاً... ورائحته طيبة.
أنا أعلم أن بردى ليس: السين في باريس، ولا الدانوب في وسط أوروبا، ولا الأمازون في الغابات المطرية، ولا المسيسيبي ولا نهر النيل الخالد.
لكن بردى، يا صديقي، في دمشق هو... «فكرة الماء»
الآن...
دمشق، التي خلقها الماء، وردت الجميل بالأخضر الأبدي ، دمشق غدت... مدينة العطش.
وصل القتال إلى الينابيع الطبيعية التي تغذي دمشق، بعد أن حطم أبواب الينابيع، غير الطبيعية للكراهية التي قتلت كل شيء ووصلت إلى الماء.
فكرت بكتابة نص عن الماء، بصفاته، وموحياته، وآلامه. وعندما استيقظت باكراً اكتشفت أن روح الجسد بحاجة إلى الماء الساخن. ولا ماء ساخن. واكتشفت أن الصحون تراكمت، وكل مفردات النظافة انتهت إلى كلمة واحدة: مااااء...كلمة تشبه ثغاء العطش الحيواني.
الأوراق أمامي... ما الذي ينبغي قوله في مأساة مرت على جميع المدن السورية ، ولها وجه واحد لا قناع له: النصر البذيء، والكراهيات المبتذلة، والحرب بكل أدوات النار، دون ماء لإطفاء اللهب. لهب الماء... هذه المره.
حجز الماء نوع من الإعدام الجماعي.
تدمير مضخات الماء نوع من هدر الحياة.
والقتال في كهوف الماء- رمزياً- يشبه التوحش القديم في كهوف البقاء.
الماء... ملهم الشعراء.
الأنهار صانعة البشر،
الينابيع منهدسة العمران،
الجداول صانعة الكائنات اللطيفة في هذه البراري.
في دمشق الماء... ليس لدينا ماء.
الكتابة عطشى. الحروف ليست ماء !