عبدالله حبيب - الأربعاء 11 يوليو 2001، لوس أنجلوس، كاليفورنيا: أفطرنا عند الضحى وتمشينا ونحن مشبوكي أصابع اليدين بصمت وابتسامات أريحيَّة صادقة. كنا نحاول كسر الرهبة من المصيبة الموشكة لا محالة بأن نحتضن بعضنا البعض ونحن نمشي متظاهرين بالسهو عن خطواتنا، وأن أدغدغها في الأثناء وهي تقرصني ونحن نفتعل التباطؤ في المشي، وألكمها بصورة «تدليعيَّة» على بطنها وهي تضربني برقَّة على خصري. لكننا كنا نرى أشداق الهاوية وهي تفتح فكيّها لنا بطريقة سينمائية على طريقة تقنية الـ «swatch pan». يا الله، كم هو غريب الحب فعلاً: رجل وامرأة يتبادلان كل الحنان، وكل ما يمكن أن يفعله مراهق ومراهقة في لقائهما المُختَلَس الأول، بينما هما يدركان انهما إنما يمشيان نحو أخدود الفراق النهائي. لا يوجد الحب في السعادة أبداً، وإنما موطنه الحزن. أيها الحب اغفر لنا، وإن لم تصفح عنا فنحن سنسامحك. في «سانتا مونِكا» التي لا يعنيني منها شيء سوى الهواء النقي (تقريباً) على الشاطئ، وكذلك الطمأنينة النسبية المكفولة للمُشَرَّدين (homeless)؛ حيث أكثر ما أرى هو الدِّعة المتوثبة في الأجساد، والأرواح، والذكريات المنفيَّة إلى خارج الحياة ما دام السقف الأمريكي قد انخفض عن معالجة الموضوع بصورة جذرية، واكتفى، في حال «سانتا مونِكا»، بهذا «التبرع» الذي يجعل الليبراليين الأمريكيين ينامون في بيوتهم المُدَفَّأة وهم مطمئنو البال مرتاحو الضمير إلى أن المُشَرَّدين يستطيعون النوم في الحدائق العامة من دون كثير مضايقات، حتى في شهر يناير!. شكراً جزيلاً لليبرالية (الأمريكية خاصة وليس الأوروبية)!. وبذلك صار يحق للسلطات المحليَّة في «سانتا مونِكا» الحق بالافتخار بأنها الأكثر «وُدَّاً» للمشرَّدين في الولايات المتحدة قاطبة. في بداية مجيئي إلى الولايات المتحدة في 1987 اهتممت كثيراً بحياة المُشرَّدين، وصرت أقرأ عن ذلك بشغف على الرغم من ضغط الدراسة. لكني أدركت ان الدراسات السيوسيولجية العميقة التي كنت قرأتها إنما هي مجرد «بورجوازية ثقافية». ولذلك فقد انتقلت إلى الخطوة التالية وهي قضاء ليالٍ تجريبيَّة بمعيَّتهم على الرغم مما هو معروف عنهم من تقلب الامزجة واستحالة التنبؤ بالأفعال. لقد كنت أمر بحالة «فانتازيا» أن أكون واحداً منهم، أما اليوم فقد أفقت من تلك «الفنتازيا» التي لم تعد حتى صحتي تسمح بها. يحق لكل إنسان في هذا العالم أن يكون له بيت اذا هو أراد، ويحق له أن يكون مشرَّداً إذا ما هو ابتغى، لكن ليس من حق العالم أن يفرض مشيئاته على أحد. في كل هذا لاحظتُ ان المشرَّد لا يبالغ في إظهار عاطفة الشكر والامتنان إن أنت أسديتَ جميلاً له، فهو يبتسم بشكل عابر فحسب ولسان حاله ان ما قمتَ به من طيِّب الفعل لا يتعدى كونه واحداً من واجباتك. وهذا على عكس المتسول الذي يسارع الى تقبيل يديك وقدميك في حالة إزجاء الجميل. المتسول لا كرامة له لأنه لم يناضل بما فيه الكفاية من أجل أن يكون مشَرَّداً بكرامة وعزة نفس، بينما المُشَرَّد شخص في غاية الأنفة والكبرياء لأنه يطرح عليك سؤالاً خلاقياً وسياسياً وجيهاً وعميقاً؛ فهو لا يمد يده طلباً للإحسان والمساعدة الطارئة، بل يقول لك انه حالة ناجمة عن مآزق المجتمع الذي يعيش فيه. أظن ان المشرد هو الحالة الأكثر «استعراضية/ استعرائية» (exhibitionism) بالمعنى الذي تَرِدُ به المفردة في علم النفس. شاهدنا فيلم «الأميرة والمحارب» لِتوم تايكور (لم أشاهد فيلمه «Run Lola Run» الذي جعلني صيته الذائع أسعى لمشاهدة أي فيلم لهذا المخرج). طرح عليَّ الفيلم الممتع السؤال نفسه الذي يطرحه واحد من احب الأعمال السينمائية إليَّ؛ فيلم «البرتقالة الآلية» لِستانلي كوبرِك: المصادفات التقريرية للتساوقات. هذا ما أسدته لي [...] التي أزجي إليها الشكر لتنبيهي إلى هذه النقطة في الفيلم بعد أن «أجبرتُها» تقريباً على التورط في عشق أفلام كوبرِك حتى أصبح «البريق» واحداً من أفلامها الأثيرة، ولكنها كانت حاذقة بما فيه الكفاية كي تفرض عليَّ هذا التحدي فيما يخص فيلم كوبرِك الأثير لدي. غير أني تساءلت بيني وبين نفسي عما إذا كان ينبغي منا أن نحب فيلماً (وأي عمل فني أو أدبي آخر) لمخرج أو مبدع نشعر بتواصل وشائجنا بأمشاج روحه بالكامل. لماذا لا نحب هذا المبدع بالكامل لأنه لا يستطيع أن يكون «كاملاً» بالكامل في هذا الفيلم أو ذاك العمل؟ لماذا نطالب مبدعنا الأثير أن يكون «كاملاً» بالكامل في الوقت الذي نعي فيه (أو لا نعي) اننا ناقصين «بالكامل»؟ الخميس 12 يوليو 2001، لوس أنجلوس، كاليفورنيا: البارحة، في المطار البرمائي الغريب العجيب أمام البيت في مجز الصغرى حيث، ضمن معطيات أخرى، لا سور، لا حواجز، لا مباني خدمات، لا مواقف سيارات، لا لوحات إلكترونية كبيرة تُدْرِج أسماء شركات الطيران، وأرقام رحلاتها، ومواعيد إقلاعها أو هبوطها، وحيث تقلع الطائرات العملاقة بطريقة مبتكرة للغاية؛ وذلك بأن يطوِّح بها قاذف صغير (في حجم الـ «آر بي جي» أو الـ«كاتيوشا») من اليابسة إلى البحر الذي ما إن تهوي عليه الطائرة بعنف يخشى إزاءه عليها المرء من التحطم حتى تدور محركاتها بقوة وتنطلق هادرة على المدرج المائي الذي لا يوجد أمثاله إلا في أفلام «العميل السري رقم 007: جيمس بوند»، ثم تطير. غير أن الطائرة التي عليَّ السفر على متنها بطريقة سريَّة هرباً من قريبي [...] الذي يعمل في [...]، والذي كان، في حقائق الواقع، قد زارنا بطريقة تشبه الإعصار وهرع إلى مكتبتي الصغيرة فأخذ يتصفح عناوين كُتبها ويبتسم بطريقة يخجل أمامها حتى الثعلب، وبشكل لا نجده حتى في أردأ أفلام المخابرات، وبعد ذلك اختلى بأمي قبل أن تنجز مهمة ذبح أسمن دجاجات البيت إعداداً لمأدبة غداء (فاخرة بمقاييس السبعينات القرويَّة). لاحظتُ تغضُّن وجه أمي الذي من المستحيل تقريباً أن يَكُفَّ عنه البريق. كانت أمي، بعد الاختلاء بقريبها، تطبخ و«تشل وتحط»، وتقطع الخضروات، فهرعت إليها مستفسراً عما قاله لها [...] في الاختلاء بعد أن كان قد أبلى فيَّ بلاءً إرهابيَّاً حسناً؛ فإذا بأمي تحتضنني وتقول لي من خلال الغصّة والنشيج: «قال لي إذا ما تجوز [إذا لم ترتدع] «تراهم بياخذوك مني وبيعقوك في مرجل كبير الماي فيه يثور مثلك مثل غيرك من الشيوعيين مال الجبهة. دخِيلك ارحمني وارحم نفسك»! وفي أثناء هذا كانت أمي تغالب ألا تهطل دموعها في قِدْرِ الطبخ وذلك من دون أن تبكي بصورة صريحة وهي تحرك المحتويات وتصب البهارات وتضيف مسحوق الطماطم كي تكون وجبة ضيفنا العزيز تعبيراً عن الترحيب ولو بالحد الأدنى المتاح. لكن بسبب قوة الدفع الصاروخي الهائلة من الـ «آر بي جي» أو «الكاتيوشا» حطَّت الطائرة بارتطام عنيف على البحر، فأخذ الماء يملأ مقصورة الركاب والجميع في حالة جزع شديد. ومع ذلك قيل لنا أن علينا أن نبقى على مقاعدنا مع ضرورة الإبقاء على أحزمة الأمان مربوطة استعداداً للإقلاع. كان الركاب في حالة ذعر شديد فالطائرة تغوص تدريجياً في بحر مجز الصغرى أمام بيت أبي مباشرة، غير انه لسبب ما كنت واثقاً من إمكانية الإقلاع، وكنت ابتسم ابتسامة تطمينية في وجه كل من يتشبث بي طلباً للنجدة؛ بل اني قلت في نفسي انه حتى ولو كان الإقلاع مستحيلاً فإن الغرق خير لي من أن أظل في بيت مجز الذي سيأتون إليه لأخذي إلى مرجل كبير من الماء المغلي يرمونني فيه «مثلي مثل غيري من الشيوعيين مال الجبهة». أقلعت الطائرة بعد بضع مناورات، ولا أدري كيف مضت الرحلة الجويَّة التي لا أتذكر منها شيئاً، إلا أن حقيبة متاعي قد ضاعت في مطار الوصول الغربي. لكن قبيل ذلك كان لي جدل حاد وطويل مع أحد موظفي الخطوط الجوية الملكية الـ[...] التي يبدو أن رحلتي كانت على متن احدى طائراتها، أو انها حطَّت في توقف «ترانزيت» في أحد مطارات بلادها. وهذا له علاقة بالتأكيد بالمعاملة البوليسية السيئة التي تعرضت لها في مطار [...] حين أُوفدتُ في دورة عسكرية متقدمة إلى [...] في بداية الثمانينات حين كنت لا أزال أعمل في الجيش [...]. كانت تلك الدورة الاستثنائية مخصصة [للمواطنين فقط من أبناء تلك البلاد]، ولكن يبدو ان بلائي العسكري في الإدارة قد أعجبهم فاستثنوني من شرط الجنسية من دون أن أريق ماء وجهي، بل والاعتذار عن تقديم الطلب الذي اقترحه الضابط الذي يرأسني في العمل مقترحاً ذكر جنسيتي [الشقيقة] من باب تسهيل الأمر لدى البيروقراطية العسكرية. جنسيتي ليست لها أدنى علاقة بالأمر إذا كان أدائي يزكيني، ولست على أدنى استعداد للزَّج بهوية بلادي في أمر يفترض أن تكون المرجعية الوحيدة فيه هي الكفاءة والاقتدار. بهذا جئت إلى مكتبي في صباح أحد الأيام لأجد قرار الإيفاد على طاولتي مع رسالة شخصية مغلَّفة ومقتضبة من رئيسي الضابط تقول: «مبروك، قدها وقدود». وقد كانت تجربة الدورة سيئة للغاية لدرجة ان [المؤسسة العسكرية التي أوفدنا إليها] قد باحت بأسوأ مظاهر الفساد واللامسؤولية، لكن كان لنا نصيب ممتاز مع فتيات الليل في الشهوانيات المفرطة للشباب. وأشد ما صدمني في اثناء وجودي هناك هو أن أحد مدربيّ، وهو ضابط صف برتبة وكيل أول، استعار مني آلة التصوير الفوتوغرافي المتقدمة بعض الشيء عهدذاك (كوداك)، والخاصة بي، وظل يسوّف إعادتها في مماطلة طويلة أخذتُها بحسن نية حتى شارفت الدورة على الانتهاء. عند ذلك زارني في المكان الذي كنت أقطن فيه مع بعض زملاء الدورة وهو بزيِّه المدني، فرحبَّنا به الترحيب اللائق الجدير بضيف ومسؤول معاً، وطلبنا عشاء فاخراً من مطعم قريب، وحلفت بـ«الطلاق» (وأنا لم أكن متزوجاً أصلاً) على الزملاء في السكن ألا نتشارك في الدفع كما نفعل في «مصاريف العزبة»، بل ان هذا العشاء «على حسابي». ثم طلب الضيف العزيز، مدرِّبي الوكيل الأول في الدورة ،الانفراد بي، فارتبكت قليلاً لكنني أحسنت الظن. وفي جلستنا الانفرادية قال لي صراحة وليلاً جهاراً بأنه سيعطيني تقدير «امتياز» في نتيجة الدورة إن أنا «أهديته» آلة التصوير الفوتوغرافي، فبصقت في وجهه بصورة لاإرادية من دون ان أقول أي كلمة، وعدت إلى الزملاء في الصالة متظاهراً أن شيئاً لم يكن، وقلت لهم إني مضطر للذهاب الى الخارج من أجل شراء سجائر فقد نفد ما في علبتي، وأن عليهم ان يهتموا بالضيف. وقد كان اختياري لمكان الذهاب إلى المركز التمويني مقصوداً لأنه يقع على مبعدة من مكان السكن، وبالتالي فإن تأخري في العودة معذور، حيث سأعود بعد انصراف الضيف. غير أن مُدَرِّبي الوكيل أول فعل ما كان مُتَوَقَّعاً مني من غير دراية الآخرين؛ فقد أعطاني تقدير «مقبول» في نتيجة الدورة (الحمد لله انه لم يتكرم عليَّ بتقدير «راسب»)؛ هذا في الوقت الذي كان فيه الجميع يتوقع حصولي على تقدير «امتياز». حسن جداً، بمثل هذه الجيوش سنحرر فلسطين، ولا بأس من تحرير الأندلس بعد ذلك، وكي لا يصيبنا الكسل (الذي هو آفة المقاتلين) سنجرب حظنا من جديد مع «معركة بلاط الشهداء»؛ ففي هذه المرة سننتصر على «الفرنجة» بالتأكيد، وسنفتح أوروبا من جبهة الثغر الفرنسي. بيدَ انه، وقبل تلاسني مع موظف شركة الخطوط الجوية الملكية الـ[...] بقليل كنت على طريق صحراوي مُعَبَّد وقع عليه حادث اصطدام بين سيارة ركاب من نوع «مازدا صالون» وسيارة «تويوتا لاند كروزر» فقُتِل سائق «المازدا» وتشوهت جثته حسب اللغط الذي كان دائراً. لاوعي وجود سيارة «المازدا» في كوابيسي بصورة متكررة عائد لسبب سيضحك أمام بداهته سيغموند فرويد شخصياً: لقد كانت أول وثالث سيارتين يقتنيهما أبي من نوع «مازدا»؛ الأولى من نوع «سبورت 929» ذهبيَّة اللون مستعملة اشتراها أبي من صديق العائلة أباً عن جد علي بن محمد الجرواني قبل أن يصبح هذا وكيلاً لوزارة التربية والتعليم (وفي تلك السيَّارة علَّمتُ أبي السياقة، وقد كادت قابليته الركيكة في التعامل مع منتجات الحداثة ان تؤدي بنا إلى الموت غير مرة)، والسيارة الثالثة – بعد أن تخلى أبي عن المُنتحِر يوكيو ميشِما جرَّب حظه «التنويري بإسراف» في سيارته الثانية مع العقل الأوروبي الأكثر انفتاحاً عبر اقتناء سيارة «فيات» إيطالية زرقاء مثل أحلام انطونيو جرامشي تماماً- فقد كانت «مازدا» جديدة خضراء من نوع «ستيشن ويجن»، إذ لا بد من العودة إلى العقل الشرقي حتى وإن طال السفر، وقد ابتاعها حين كنت في الخارج بعد ان صلب عوده إلى حد معقول في إدارة رقبة حماره الحديدي الجديد. كان هناك قليل من الناس الذين أعرفهم (مثل تعوب الكحالي وجمعه جنعور وحمدان البابور) في المكان يتفرجون على آثار الحادث والدماء الغزيرة التي انصبت على الاسفلت والرمل، ثم ضاعت حقيبة أمتعتي في المطار. أفقتُ مبللا بالعَرَق والظمأ والخديعة و[...] منحنية إلى جانب السرير وهي تمسح جبيني وتحمل كأس ماء في يدها. قالت مستعطفة من خلال الدموع: «عبدالله دْخِيلك ارحمني وارحم نفسك».