ليلى البلوشي - Ghima333@hotmail.com - « دعي العالم يهلك ، لا شيء ...لن يسقط عصفور على الأرض ... لا تخافي ... حتى تتلاشى النوبة» . لا تُحجب المرأة نفسها في هذا العالم سوى حين تكون مهددةً فوق ما تكون هي تهديداً ، لا تُخفي المرأة هوّيتها سوى حين يعترض طريق صدقها وروحها التواقة إلى التحرر قيود كل غايتها تحطيم المرأة والنيل من صدقها لتشويه حقيقة لا يريدون لها أن تشاع كما هي بكامل جرحها وكامل تفاصيلها في سيرة الأذى ، هذا ما وجدته المرأة المجهولة في برلين واقعة في شركها وعرضته على ملأ سيرتها وسيرة نساء مثلها في كتاب مذكراتها « مجهول امرأة في برلين» ترجمة « ميادة خليل» دار المتوسط 2016م ، حيث تسرد بقلب متجلط من الهلع و الريبة والهتك ثمانية أسابيع في مدينة محتلة ، حيث تكون المرأة وليمة شرف على موائد هذا الاحتلال ، تقدم كوجبة مجانية ، متبّلة ببهارات الخراب - كما يشتهونها تماما - على الرغم من ذلك لم يمنعها كل الكبت وتشفي العالم منها و محاولة قطع أنفاسها الحيّة كامرأة شجاعة تجرأت على البوح ، على كشط فضيحتها كما يدعونها ، فالمرأة حين تغتصب من قبل ذكور مجتمعها المنحط حين تصرخ ، فإنها تفضح نفسها لا المعتدي الجبان الذي هتك طهارتها كما يرون عبر قرون مديدة ، فالمجتمع البطريركي يجد دائما ما يبرر وحشيته ، في حين تكون المرأة أبدا هي سبيل الرذيلة وقاعها السفلي يثير حيوانية الرجال في لحظات التيه والحرب و الدمار .. المرأة في أثناء الحروب تكون الحامية الوحيدة لمن تعيلهم ، الحاميّة الأشد لصغارها الذين يعانون من الجوع و الموت المحقق من قبل قذائف العدو ، المرأة في الحرب لا حاميّ لها ، فالكل ، كل الرجال يغدون أعداءها ، رجال وطنها ورجال العدو أيضا ، عليها وحدها أن تخلّص نفسها ، أن تجد خلاصها حيث لا مفرّ حقا ، فكل الجبهات محتلّة وهي غاية كل محتلّ ..! لكن لا يهلك المرأة حقا، لا يهدر طاقة قلبها سوى حين يهجرها من تحب في ذنب هي أبعد ما تكون عنها ، بل في الخطيئة هي الضحية النقية منها ، كاتبة هذه المذكرات ، المجهولة من الاسم ، فماذا يمكن أن يقدمه اسمها في مجتمع يدينها وحدها وكأنها كانت ستربتيز في عرض الفحولة الوحشي ..؟! لقد أدانوها كما أدانوا غيرها من نساء بلدها ، لأنهن تعرضن للاغتصاب من قبل رجال الحرب ، رجال وجدوا في الحرب تحررا من كل المسؤوليات الإنسانية ، ورأوا في النساء كائنات لا أسهل من انتهاك كرامتهن ، ففي الحرب كل شيء يباح وفق قوانينهم ، هذه المرأة التي انتهكت من قبل رجال تخلى عنها خطيبها عندما سمع عن اغتصابها ، لقد انقطعت كل السبل أمامها وضاقت فلم تجد خلاصها سوى في الكتابة ، كتابة عذابها ، كتابة خوفها ، كتابة الدمار الذي كانت تعيشه كل ثانية على هيئة مدفع أو رجل « نحن نعيش في نطاق من المدافع يضيق كل ساعة » . في الحرب حتى الموت يأتي على هيئة أخرى ، غير الذي اعتادوا عليه ، فالموت يكون حاضراً ، هذا ما لا بدّ منه ، غير أنه أيضا يغدو دافعا لمن يشهد أهوال فظيعة من الدمار والخراب الروحي ، الجسدي ، لاسيما المرأة ، حيث تضيق أمامها خيارات النجاة ، مما تنجو ؟ من الجوع ، من المدافع وطلقات الرصاص ، أو من رجال مصرين على تحطيمها بأبشع الإمكانيات المتاحة في زمن القاذفات ..؟! تجد نفسها تقدم قرابينها ، تقدم نفسها مقابل حفنة من الخبز ، الجوع الذي ينهش جسدها ، الجسد المهلك الهالك مقابل قطعة خبز ، هي الضحية والمضحية .. تجد أنها في كل الأحوال لا تملك نفسها ، ما هي سوى شيء مشاع ، قابل لكل عمليات التدوير ، متنقلة كملكية ، لا تملك ذاتها لكنها تُمتلك ، لا قرار لها في كل التسويات ، شاءت أم أبت عليها أن تكون الوليمة ، بمقابل أو بلا مقابل ، لهذا لم يجدن أمامهن سوى أن يقبلن بكل عروض التسوية ، يقبلن رغما عنهن حالات الانتهاك طوال موسم الحرب . تنتهي الحرب ولا ينتهي حربها الأبدي النفسي ، الجسدي ، حالات الضياع والتيه والخراب ، تظل سيرتها مثقوبة ، مشوهة ، لصيق جلدها كعاهة مستديمة ، تظل متهمة ومنبوذة ، ملغيّة عن الحياة ، كامرأة خرساء تحيا طوال عمرها خشية الفضيحة والافتضاح ، تظل امرأة مجهولة لكنها منتهكة ، هكذا أرادوها دائما ، غير أن مجهولة برلين استعادة روحها وسحبت كرامتها من قاع الوحشية ، لتسرد تاريخها الذي أهلك في نشيج الحروب ، فأهلكتهم بفضّ ذكورتهم الفاضحة ، الفائحة بقذارات التاريخ ، والمجهولة لم تعد كذلك ، خرجت بهامة مرفوعة من تاريخ الغموض و التخفي إلى امرأة جسورة حملت على ظهرها ثقل تاريخ أرادوه أخرساً ، خرجت بكامل أنوثتها امرأة انتصبت كمدفع أمام تاريخ البوح والفتنة « بعد كل شيء ، بعض التجارب يمكن طردها من الأفكار ، بتحويلها إلى كلمات » .. إنه كتاب يفيض بسيرة الاعترافات الممنوعة والمحرّمة منها ، كما لا يشتهي ذكور الحرب في مواسم الكتمان ..!