د.بسمة عروس -
تنفتح عوالم القص وألوانه في هذه المجموعة مثلما تنفتح حقيبة ملأى بالمفاجآت ما إن يفتحها فاتح حتى تبدو له صنوف من محتوياتها تستفز النظر وتسترعي الفضول وتغري بالمزيد من الغوص داخلها لمعرفة ما تخبئ كذلك الشأن في «عصفور أعزل يضع منقاره في وجه العالم» كون يعج بالألوان القصصية وروائحها المختلفة التي تطالع القارئ في عنفوان وثقة، تغازل ذائقته الموشومة بنمط من القصص قد يكون واحدا أو متعددا في واحد. ليس القارئ هو المسافر في تفاصيل الحكايات بل إن القاص هو المسافر يحمل في الحقيبة ما شاء من أسرار أو ما ندر وجاد أو ما ثقل على النفس حمله فأودعه الصندوق الأسود أو الجيب السري داخل الحقيبة، على أن الكتابة عند سعيد الحاتمي لا تكتفي بكشف الأسرار بل تذهب بعيدا في الدروب التي توثق بها معيارا جديدا للإسرار والإعلان.
على نحو لافت للانتباه ومخاتل تختار المجموعة أن تخاطب متلقيها في عنوان هو في حد ذاته قصة، تتفاعل سرديتها مع ما في العنوان الفرعي الذي جاء على هيئة عتبة تجنيسية هي قوله «سرد»، معرفا طبيعة النصوص التي سيتعامل معها القارئ في المسافة القرائية والوجودية ما بين ورقتي الغلاف الأمامية والخلفية فهو أي هذا القارئ أنى تنقل فيها فهو من سرد إلى سرد، يسلمه السرد في العنوان إلى سرود متنوعة داخل المتن أوهكذا أرادها مؤلفها أن تكون.
ولعل قوله: «سرد» واصفا المجموعة أومخاطبا قارئه المتعجل الذي سيلاحظ حتما أن النصوص مزيج متفاوت في الطول والمدى التوزيعي على بياض الصفحة، الغرض منه هو تجاوز التصنيف الذي تفنن في وسم نصوص القص القصير فارزا القصص القصيرة جدا والقصص القصيرة والقصص التويترية أو ما شابهها والقصص الومضة وغيرها، فكان في قوله سرد ما يغني عن التوقف عند الأصناف وتجاوزها إلى الصنف التجنيسي الأكبر أو بالأحرى النمط الذي يحوي كل أنواع السرود ونعني به «السرد». تنتمي المجموعة إلى السرد ولا تنتمي إلى فروعه المتتابعة او النامية ذاهبة مباشرة إلى الأصل في الأشياء أو معلنة عن نوع من القفز على المعايير التصنيفية مما يسمح لها أن تضع كل الأنواع النصية بما فيها من تفاوت او اختلاف داخل إطار واحد.
ولكن هذا الاختيار لا تقف فائدته عند حدود تعويم النصوص داخل حيز واسع هو السرد فهو اشارة عميقة الدلالة الى ضرورة البحث عن الصفة السردية في كل ثنايا المجموعة اي في عوالمها السردية والبصرية والقرائية وغير ذلك. ومن ذلك مثلا قراءة ما بين عتبات البداية والنهاية إذ نجد عبارة الإشارة الى هوية هذه المجموعة على انها تجميع سردي تتحول في النهاية إلى قوله «ما يشبه السرد» في استعادة مثل العود على البدء وهذه العتبة التي افتتحت المجموعة وختمتها تدل على ان العتبات متحاورة ترتسم بها حركة دائرية تشكل ما يشبه الإيقاع الداخلي للأثر كله مما يكشف عن نزعة شعرية لا تطلب في لغة القصص ولا في ما حفلت به من رؤيا وإنما تطلب في ما اشتملت عليه فلسفة الكتابة من أبعاد فكرية وجمالية لا ترى في الشعر نصا يكتب بقدر ما ترى فيه طريقة وجود وفهم واختزالا لموقف.وفي الخروج من السرد إلى ما يشبه السرد علامة على نوع من التنصل من الحكايات ومن هويتها السردية التي اعلن عنها في البداية تنصل لا يراد منه تضليل القارئ أو مراوغته بل يراد منه مراوغة النص، هذه المجموعة لا نظام لها سوى نظامها الداخلي فهي تتشكّل وتتنامى متخذة لها طريقا خاصا ونحوا خاصا حتى إذا ما استوت أنكرت ما كان منها في البداية.
اشتملت فاتحة المجموعة على عدد من العتبات لم تقتصر على عتبة العنوان وعتبة التجنيس فنحن نجد فيه الاهداء والتنويه الذي ينبه الى ان الشخوص ليست بواقعية وانه ينبغي أن لا يذهب ظن القارئ الى تدبر شببها بالواقع وهو تنبيه بات مألوفا في الكثير من الأعمال الادبية والفنية لكننا نراه هنا يستعمل لغاية اخرى لعلها غاية السخرية من مثل هذه المغالطات التي يقع فيها السرد. تنفي المجموعة عنها استلهام شخصيات القصص والأحداث من الواقع رغم ان الدلالة الواقعية فيها واضحة تماما ومن هنا نفهم ان هذا التنبيه لا معنى له سوى الإشارة الى الرؤية العامة للكتابة وهي رؤية ترغب في الانفصال عن الواقع بقدر ما تندرج فيه.
تبدأ المجموعة بـ«جوع» وتنتهي بـ«اللاشيء» وبين القصة الأولى والأخيرة دورة مطولة يبدو أنها تنتهي عند تأكيد العدم واللاجدوى فالجوع الذي يسم البداية ويأتي عنوان أول قصة فيها مرتبا لمعالم برنامج سردي يقوم على مشروع انتظار وتأميل يفترض أن يجد ما يكمله في النهاية فيكون الختام سدا للرغبة وإشباعا، نجد أنه على العكس مما هو متوقع تماما ينتهي عند «اللاشيء» أي عند الخواء والفراغ مما يعكس دورة مفرغة لا تصل إلى تحقيق ما تتطلع إليه فهي علامة على نفس قد يكون تشاؤميا في تناول الواقع واقتطاع مشاهد منه أو هو علامة على موقف من السرد الذي ينزع نزوعا واقعيا لا يمكن له إلا أن يصف ما يعشش في الاحلام من جيوب الخواء وما يسكن في عوالم الناس من نزوع وتطلع ينكسر على عتبات اللاشيء.
هكذا بدت المجموعة مثل حركة عصفور يضع منقاره في وجه العالم كناية عن المواجهة غير المتعادلة وكناية عما في المحارب الشرس من نزق وتهوّر، وتأويل صورة هذا العصفور على معنى الحرب غير المتكافئة الأطراف وعلى كونه شبيها بوضع المحارب يبرره وصفه بالأعزل في العنوان وفي هذا الوصف ما يدل على صفة التجرّد في هذا الكائن الضعيف الذي لم يتسلح بشيء سوى شجاعته وإقدامه على الوقوف في وجه العالم مشهرا منقاره مفضلا الموت تحت نصاله بدل الوقوف خلفه والتلهي بشيء آخر. وفي صورة العصفور لفحة شعرية ظاهرة تستمد جذورها من فكرة مألوفة هي استعادة لمحور البراءة والطفولة والوادعة ممثلة في الكائن الصغير مثل العصفور عندما توضع إزاء محور القوة والغطرسة والتسلط ممثلا هنا في وجه العالم وهذه الثنائية تكاد تكون أصلا من الأصول التي تتحكم في كل السرد منذ أن اكتشفت الإنسانية ثقافة السرد وشكلت من صورة الإنسان السارد homo-narrans وظيفة ثقافية ووجودية بها يتحقق للعالم المادي دوره بالقياس إلى العالم المتخيل وبها يتحقق لمنشئ الحكاية دوره في التعالي على الكثير من الإكراهات والأسئلة. وفي حركة وضع المنقار في وجه العالم ما يستعيد صورة ساخرة للكثير مما اختزن في ذاكرة الشعوب والثقافات عن فكرة عبثية الفعل تترجم عنه الاستعارة الساخرة عن «ناطح الصخرة بقرنه ظنا منه انه يوهنها» وفيها أيضا تناص غير مباشر مع إحدى القصص في المجموعة وهي قصة «قلق» وفيها يدمي الطائر منقاره من شدة نقر الزجاج قلقا على أليفه وحزنا على غيابه فينبري في سلوك انتحاري في تدمير نفسه في نوع من المواجهة غير المتكافئة وغير المنطقية بينه وبين الواجهة البلورية لعدم إدراكه انها حاجز شفاف او لإدراكه انه لاشيء يمكن ان يمنعه من الالتحاق برفيقه. وكان الدم على منقار هذا العصفور شاهدا على قرار التضحية بنفسه وعلى انه لا مجال للحلول الوسطى، اما ان يموت على حبه او ان يحيا بقرب الحبيب وينعم بوصله.
يمكن اعتبار منزلة هذه القصة من المجموعة ومن فلسفتها العامة منزلة مركزية فهي ترسم مسار الشخصيات وتضعهم دائما بمواجهة وضعيات مأسوية أو شبه مأسوية تجعل من فعلهم مجرد تدمير للذات او فعلا عبثيا لا طائل من ورائه مثل فعل الطائر الذي لا يدرك بالغريزة وجود الحاجز ان كان زجاجا شفافا وينهال عليه بمنقاره الصغير ظنا منه انه يزيح كل ما من شانه ان يعرقل سيره نحو حلمه لكنه لا يفعل سوى إيذاء نفسه وكأن مساره محكوم من البداية بالفشل.
نلاحظ ان نزعات مختلفة تحكم مسار القصص وتوجهها وفق شُعب ومن بين هذه النزعات النزعة الأغلب او الأوضح وهي ما يمكن ان نسميه بالصفة الفجائعية للواقع والتعامل معها بنوع من البساطة أو حتى البرود أحيانا. وهذا الموقف المتمثل في تصنع شيء من البرود في عرض الاحداث لا يمكن ان يفهم على عدم اكتراث او تبلد أحساس بل على العكس من ذلك تماما ينم عن درجة عالية من الحساسية التي جرحت في الصميم. تستوقفنا هنا قصة «وصول متأخر» وفيها تلعب الجملة «مستشفى خولة الذي ليس قريبا من حقل بهجة» المكررة في بداية القصة وفي نهايتها دورا في إظهار هذه النزعة وكأن كل المشكلة هي المسافة بين الحقل النفطي والمستشفى. تحاول هذه القصة من خلال التركيز على مشهد واحد هو وصول الشخصية في زمن انقضاء الفترة المسموح بها لزيارة المرضى إبراز ما في الواقع من مفارقة متأصلة فمن حيث طمع الرجل الذي يجادل الحارس في لحظات مسروقة يتجاوز بها قانون المستشفى كانت الزيارة دخلت فعلا في حيز الفعل العبثي لأن المريض توفي وأضحت زيارته عملا مثل اللاشيء لا يمكن أن يفيده مثلما هو لا يفيد زائره وهكذا نرى أن الحارس الذي كان شديدا في الممانعة حريصا على عدم الاخلال بالقانون العام للزيارة يتحول إلى كائن هش لا يتمالك دموعه امام عمق الموقف الانساني الذي تفجر لحظة إخراج جثة الرجل المريض الى ثلاجة الموتى وانهيار صديقه الذي استقل وسائل نقل متعددة قطع بها كبد الصحراء ليصل الى مستشفى خولة ويغنم رؤية مريضه للحظات. حيال فجائعية الموت ومفاجأته تتهاوى كل العناصر وتصبح ملامح الحياة التي تؤثث مشهدا احاط بإخراج الميت الى سيارة الموتى مجرد حضور غبي باهت ولا معنى له والاعتذار في بداية القصة لا معنى له لأن الموت دخل حيز الفعل لتصبح كل الافعال في القصة افعالا محكومة باللاجدوى بصورة مسبقة ولذلك تبدو الجملة المكررة مثل لازمة هي الحقيقة الوحيدة التي يملكها الراوي «حقل بهجة بعيد من مستشفى خولة» فالتفسير الوحيد هو بعد المسافة لكن المسافة الحقيقية هي مسافة ما بين الحياة والموت. تفرغ القصة شيئا من معاناة العاملين في الحقول النفطية في أماكن قصية حيث الصحراء عالم قاس وحيث المدينة عالم للموت سماؤه تمطر زخات سوداء مثل النفط المنبثق من باطن الأرض، يسح سائلا اسود يرتفع عاليا في السماء.
ويمكن أن نلاحظ التمشي نفسه في قصة «العرصة» حيث يبدو التركيز على الأيادي وهي تقلب الخرفان في ظهورها أمام عيون تترقب من البائع صاحب القطيع وعين الراوي الذي اكتفى بتسجيل التاريخ وكأنه يوثق تاريخ الموت أوتاريخ اللحظة الفاصلة ما بين الحياة والموت. لقد عمد الراوي في القصة الى وصف موقف بسيط يتكرر ربما يوميا يبدو في ظاهره عابرا وتافها لكن هذه البساطة هي التي تخفي فاجعة. كأن بالقصة شغفا إلى إخراج كل ما في الأحداث التي تبدو عادية رتيبة شيئا من وجهها الثاني غير الظاهر وهووجه قاس مثل الموت تخترق الحياة في صمت بعيدا عن العيون وبعيدا عن شعور الآخرين بها. يتعلق السرد بتأدية تفاصيل تبدو في ظاهرها حيادية وترتسم الملامح وكأن الراوي محايد تماما ينظر من عل وتبدو الشخصيات غالبا مثل الشخصيات العائمة في فضاء عام لا يذكر لها اسم فهي في بعض القصص مجرد نكرات لا يسمها شيء سوى انتمائها الى عالم الأنوثة او الذكورة حيث نلاحظ في جل القصص ان الحديث يكون عن امرأة او رجل او الرجل او الشاب القادم من الصحراء أو يكون ضمير الغائب أو المتكلم هو المحور الذي تتعلق به الأحداث. وهذه النزعة في عدم تعيين الشخصيات تدعم الحيادية في السرد وتجعل من عالم القصص مثل لحظات عامة مقتطعة من الواقع بشكل عفوي. تبدو الشخصيات مثل خيالات عائمة وسط كون عائم. الحياد ليس نزعة غالبة فقط فهو عنوان إحدى القصص وفي هذا ما يدل على انه كون مهم في هذه المجموعة.
نهج البساطة الذي تتوخاه هذه القصص في إغراقها في الحديث عن تفاصيل عابرة وتافهة ما تعلق منها بشخصيات عابرة او حتى ما تعلق منها بأشياء متناهية الهشاشة والصغر مثل قطرة الماء مثلا في قصة «حظ»، يعدّ خطا معروفا في كتابة القصة القصيرة لا يكتفي بالالتفات إلى المهمل وما لا يشكل موضوعا للكتابة فهو يعمل على إضفاء نوع من الحياة على كل هذه الموضوعات ويلتقط في كل لحظة عفوية تمضي في صمت روحا خاصة يشبعها تفسيرا وحفرا ففي هذه القصة مثلا يتخيل الراوي مصير قطرة الماء في تنقلها وكيف تكون مرة من ضمن الماء الذي يتوضأ به مصلّ او تكون من ضمن ما ينسكب على جسد امرأة جميلة او من ضمن ما يفتق طفولة بنت قصيرة الشعر تغسل أمها ضفيرتها الصغيرة ومن الوارد جدا ان تستقر في قاع بالوعة مليئة بالقاذورات فمن خلال احتمالات المصير الذي تلقاه قطرة ماء ترسم القصة ملامح مقارنة ضمنية للحظ وتطرح الفكرة على نحو طريف ومغاير للطرح الفلسفي او العقدي وتلمح في أسلوب بارع الكناية إلى ما في المنزلة البشرية من هشاشة وما في الحياة من اختلاف في المصائر المرسومة لكل نفس.
ولابد أن نشير إلى ان هذه المجموعة تشتمل على بعض مظاهر التصرف في التوزيع البصري للمكتوب في فضاء الصفحة ويمكن ان نجد ذلك مثلا في قصة «الرصيف» حيث الفراغ المنقوط بشكل عمودي بين الفقرة التي تستعرض احداث القصة والجملة الاخيرة التي ختمتها يبدو فعالا في تقوية دلالة الخاتمة وإخراجها على معنى ساخر وهازل في نفس الوقت. فاللحظة التي تسمر فيها الشرطي تاركا حركة السير في اضطرابها متأملا العلم يعلق عليها الراوي بقوله إن تصوره هو ذهب الى أنه كان يفكر في ديونه ناسفا التوقع الأول الذي يبدو إيجابيا ومشرفا إلى توقع ثان موغل في سلبيته. وهذا النحو في المباعدة بين جملة الخاتمة وبقية القصة او بين جزأين فيها لتكون الفجوة المنقوطة وسط النص نجده في كثير من القصص في هذه المجموعة ومنها مثلا قصة «وطن» التي تبدو فيها الدلالة بعيدة جدا في بيان تغير موقف الأبناء من متمردين على سلطة أمهم وعلى وضعهم البائس الى راضين به خانعين ومستسلمين.
رمزية الموقف الذي تصوره هذه القصة واضحة المرامي من خلال توظيف استعارة الحجر الذي يكوم حول الخصر دفعا للجوع أو إمعانا في التعبير عن قسوة الأم التي تلقم أبناءها الحجر بدل ان تسقيهم من حنانها وتدلي صغيرها في الجب بدل ان تتعطف وتترفق به تطعمهم من حجارة الارض والحال ان خيراتها ونعمها كثيرة. تقلب هذه القصة صورة الآم الحنون لتستبدلها بصورة الأم الكنود والمفارقة الطريفة في كل هذا هي في ان العنوان وطن وفي هذا تصريح بموقف في غاية الخفاء وهو ان الوطن مثل الأم القاسية التي تربي أبناءها على حبها بالخوف والحجارة والدم فتغنم منهم ولاء مصطنعا وتخسر حبهم. وكذلك الشان في قصة « البحر « حيث يكون الفراغ وبعده ترد جملة الخاتمة التي تعمق المفارقة الحزينة في واقع هذا البائع الذي يبيع السمك ويعرف تاريخه وأنواعه ووصفات تجهيزه للاكل ومنازله وكل شيء عنه يرغّب المشتري في بضاعته وهو لم يزر البحر يوما ولم يعرف له طعما ولا رائحة.
نهج المفارقات أصيل في القص القصيرة بل هو اكثرها أصالة فيها وهو ما لم يغب عن هذه المجموعة لكنه بدا في صور واشكال مختلفة ولذلك لا نقف عندها جميعا بل عند مثال يبدو لنا متفردا نسبيا وهو ما نجده في قصة «سياحة» حيث تبدو المفارقة ساخرة قائمة بين دلالة العنوان ودلالة أحداث القصة. تختزل الاحداث الى حد بعيد فتقتصر على جملتين سرديتين ومشهد واحد لكنه بعيد في إيحائه ويتمثل في انفتاح باب الغرفة في الفندق على صورة السائح الخليجي الذي تتدلى كرشه ويحرك مسبحته الخضراء في يده وفي آخر الممر بائعة هوى منهكة تتحسس طريقها. من الواضح أن أسلوب الاختزال في هذه القصة بليغ في إفساح المجال امام القارئ ليركب الاحداث وليملا بخياله الفجوات التي خلفها النص متعمدا وتلك بلاغة من بلاغات القص القصير وليست نقصا أو خللا لكن الأهم في كل هذا هو تعميق الفجوة الحقيقية بين معنى السياحة وماهو سائد من ممارسات سياحية أو بالأحرى بين ما يقصد من ثقافة السياحة في سلوك بعضهم وماهو ثقافة سياحية في العرف العام المتفق عليه. ان مجال تأويل الدلالة يبدو موجها بقرائن في النص منها الاشارة الى ان السائح خليجي وهو ما يمكن ان يستدعي صورة نمطية ربما ارتبطت بأفكار مسبقة اكثر مما ارتبطت بالحقيقة ولكن هذا لا ينفي ما في القصة من بلاغة ورشاقة في توظيف المفارقة الدلالية وشحن مستويات التأويل.
ومن ألوان القص التي تصادفنا في هذه المجموعة النص الوجيز جدا الذي يقتصر على جملة أو جملتين في أقصى الحالات وعلى حدث واحد ومنه ما نجده في قصة «غروب» او قصة «شتاء» أو قصة «رغيف» أو «نهار» وهي قصص إما تسجل لحظة زمنية أو تكتفي بوصف حال وهو ما يدل على ان السردية يمكن ان تتجلى في وجوه عدة حتى في ما لم يكن قصصيا بالضرورة وفي مثل هذه النصوص يمكن ان نلاحظ نزعة تأملية عالية تميل الى جعل النص حكمة عامة أو صياغة فائقة مثلما هو الحال في «رغيف» حيث الإشارة الى فلسفة الأمهات في الحياة ينخلن الدقيق ويعلمنه الاستدارة قبل ان يصير رغيفا وقبل ان توجد المائدة ومنها ما يمكن أن يدل على خواء الفعل في مقابل قوة الزمن وسلطته مثلما يتجلى في «نهار» أو «غروب» ويمكن لمجال الدلالة أن يتسع اكثر كلما كان مجال النص أضيق دون ان يضيع ميسم السرد ودون أن يكون هو نفسه في كل قصة ففي قصة شتاء تعود المفارقة لتظهر بين تبكير الفصل ومجيئه قبل اوانه وإخراج المعطف الذي تغيرت رائحته حيث حتمية الطبيعة ممثلة في تعاقب الفصول توازيها حتمية الفعل المعتاد في تجهيز المعطف لكن الأمر المفارق والجديد الذي أوجب القصة هو أن المعطف ليس معطف كل مرة بل هو معطف كل مرة برائحة جديدة من أثر طول مكثه في الخزانة ورطوبتها فما هو من شان الطبيعة باق على حاله يفعل ما يشاء يبكر أو يتأخر وما هو من شأن الإنسان لا يبقى على حاله بل يتغير ولكنه يبقى أعزل ضعيفا أمامها. مَثل العصفور الأعزل المشهر منقاره في وجه العالم كمثل هذا الرجل بمعطف متغير الرائحة عطن يواجه شتاءه الذي بكّر.
إن التنوع الذي نلاحظه في أشكال القصص وألوانها في هذه المجموعة، لم نلم في هذه القراءة القصيرة سوى بمداخل يسيرة منه لعل باقي الدراسات تكشف عن مواضع أبعد فيه فضلا عن باقي الجوانب التي تبدو مغرية بالبحث ونعني بها دلالة العتبات الكثيرة النصية منها والبصرية ولغة السرد وزمنه والرؤية وهو ما يدل على تعدد المداخل لثراء النصوص وكثافتها ولما أبانت عنه القصص من اتجاهات اختار القاص أن يسمها مرة بالسرد ومرة بما يشبه السرد متجاوزا مواضعات التجنيس واعيا بما فيها من ألوان تتباين أو تتآلف لكن مرجعها في النهاية إلى القصة جنسا أدبيا متعددا وأصيلا.