آمنة الربيع -
الخرتتة، ما الخرتتة؟ هي ليست وصفة طبية، ولا أكلة شعبية، ولكنها أشبه بحال مرضية مربكة ومؤرقة ومزعجة ومقلقة ومقرفة وضجرة. كما أنّ أعراضها ليست معاصرة تماما. ولا ترتبط بمجتمع ذي مواصفات جغرافية أو خصوصية ثقافية محددة، فهي ظاهرة إنسانية تحيا مع الإنسان، وهذا يعني أن تمتاز بالكونية. ولكنّ في حالنا العربية هذه، علينا أن نحصرها ونضيّقها قدر المستطاع حتى لا نُتهم بالتعميمية. ومن باب السخرية كانوا يقولون: إذا أردت أن تعرف ماذا يحدث في روما فعليك أن تعرف ماذا يحدث في جزر القمر مثلا، وهذا من باب التندر والمستحيل!، فالخرتتة في البلاد الأوروباوية على غير ما هي في البلاد العربية!.
وللتاريخية والصدق، تعود الخرتتة إلى سنة 1958م عندما ألف المسرحي الفرنسي يوجين يونسكو مسرحيته الخرتيت. وتُعد الخرتيت من أهم مسرحيات يونسكو. ومعناها كما يُلخصه المترجم حمادة إبراهيم بطبعة سلسلة المسرح العالمي أيام صدورها عن وزارة الإعلام بالكويت 1975م يتلخص في «أن الكاتب ينعى عدم الاستقلال في المواقف والآراء، وانعدام حرية الفكر والحرية الفردية، مما يؤدي حتما إلى اعتناق الآراء والمواقف الجماعية في صورة أو بأخرى.. ويتساءل بطل المسرحية بيرنجيه عما إذا كان من الممكن أن يكون لحديثه معنى ما دام لا يوجد في الوجود شخص غيره يستطيع أن يتبادل معه الحديث..».
ومؤخرا، وبعد أحداث الربيع العربي في 2011م وبعد تراجع الدور الوظيفي الحيوي للمجال العام Public Sphere في مجتمعاتنا العربيّة وانتقال ما جرى التعارف عليه لهذا المجال أنه يُستخدم نقلا عن (المجال العام: الحداثة الليبرالية والكاثوليكية والإسلام) للمؤلف أرماندو سالفاتوري، للتعبير «عن المصالح والمشاعر المتجذرة في المجال الخاص، وفي المجتمع المدني عبر منتديات جماعية؛ حلقات نقاش في المقاهي، وفي الصالونات الأدبية، والنوادي، والروابط التي قد تصل بنا إلى تشكيلات حزبية جنينية. أما دور المجال العام فهو إضفاء قدر من الاتساق على المشاعر المتفرّقة، وإضفاء قوة جمعية على الادّعاءات المتناثرة». ونستنتج من هذا، أن وظيفة المجال العام أقرب إلى «شبكة لنقل المعلومات ووجهات النظر. وأنه عبارة عن «تلك الساحة من الحياة العامة التي يمكن فيها الوصول إلى موافقة عامة على قيم ومعايير تعمل كميكانزمات لحل المشكلات الاجتماعية والسياسية».
لقد اختفى المجال العام، وفي أحسن الأحوال يمكننا القول، لم يعد يلعب دورا لا مركزيا ولا هامشيا، في توجيه الأحداث السياسية أو تحسين بعض السياسات، على الرّغم من التأثير الكبير الذي فرضته الثقافة الافتراضية على بعض المجالات السياسية في البلاد العربية. إنّ تراجع دور المجال العام ظفرت به وسائل التواصل الاجتماعي وأهمها الفايسبوك. ونظرًا للدور الكبير الذي لعبه الفيسبوك في تحريك أحجار نرد طاولة الحكومات العربية في الفضاءين السياسي والاجتماعي، وجدت ظاهرة الخرتتة مكانا آمنا وتربة صالحة للتخلّق والتشكّل والتحزب.
لقد أنزل الفيسبوك الخرتتة من السماء إلى الأرض، وأدخلها إلى غرف البيوت وحماماتها ومجالسها، وجعل لها متكأ في جلسات الشلل الخاصة، ولم يقتصر الأمر على تلك الوضعيات، بل انتشرت الظاهرة في صالونات الزينة وفي توقف السيارات عند إشارات المرور؛ إنّ الجميع يتخرتت! والخاصية التي قد امتازت بها المقاهي الشعبية في بناء الأفكار المستنيرة والتجمع لمناقشتها لم يعد لها وجود. وهذا ما أسهم تاريخيا في ثقافتنا العربية بوعي من النخب المثقفة والسياسية أو من دون وعي بالإجهاز على مفهوم التنوير الثقافي.
يرى الفيلسوف وعالم الاجتماعي السياسي الألماني يورجن هابرماس أن بدايات ظهور ما عُرف اصطلاحيا بعصر التنوير قد ساعد على تشكّل العديد من المؤسسات المجتمعية كمؤسسات النشر، والصحف ومنتديات النقاش، وإلى تلك المؤسسات كما يقول، يرجع ظهور جذور المجال العام ويستشهد هابرماس ببعض الأمثلة؛ «ففي إنجلترا ظهر في المجلات والصحف والمقاهي، وفي فرنسا ظهر المفهوم في الصالونات الباريسية بعد منتصف القرن، وفي ألمانيا احتل شكلا متواضعا في نوادي القراءة». وإذا كانت مُدن المجتمعات الأوروبية قد دعت إلى بناء نظرية لمفهوم المجال العام، فقد كان القرن الثامن عشر هو النموذج نفسه لأدوات النقد الذي جوبهت به هذه النظرية.
ويمكننا أن نستنتج للمرة الثانية، أن أي نظرية أو فكرة إبداعية أو تيار أدبي يمتلك حضوره وانتشاره وهيمنته في عصره فلسفة تُسهم بعد وقت نشوء بذور نقده ودحضه. وهذا ما يجعلنا نتأمل مقولة الناقدة نهاد صليحة: «إنّ محاولة استخلاص قوانين فنية من أعمال فنية سابقة وفرضها فرضًا على نزعة الإبداع الفني، أو استقبال المتلقي للعمل الفني - أي محاولة استخلاص أساليب صياغة من إبداع سابق وفرضها باعتبارها قانونا إبداعيا عالميا - إنّما هي في حقيقة الأمر جهد أيديولوجي لا فني». وتلك المقولة المتصلة بالفن والإبداع وقانون النقد، يصلح تطبيقها على بعض الظواهر الاجتماعية أو الثقافية، ومن بينها ظاهرة الخرتتة، فنحن فيسبوكيا في حال من التخبط والتيه يصعب الالتفاف بسببهما للعثور على وسيلة فعّالة لنقد هذه الظاهرة التي انبثقت من رحم تراجع المجال العام.
كان المجال العام، بحسب هابرماس: «حقلا استثنائيا لاختبار فرضيات الفعل الفرجوي والتواصلي بين الفاعلين والمنتجين للخطاب كطرف أول، كما أنه مقاربة لاختبار مدى فاعلية عمل المجتمع المدني من طرف مقابل، وعلاقة ذلك كله بالحياة المجتمعية سياسيا وثقافيا».
نشر الكاتب عيسى مخلوف على حائطه ما يلي: «نحن جماهير الفيسبوك، نقيم الدنيا ولا نقعدها إذا مات فيل في الصين، لكننا نمرّ مرور الكرام أمام تقرير (منظمة العفو الدولية) عن سجن صيدنايا. كأنّ ما يجري هناك، جرى في زمن آخر وفي كوكب آخر. الصامتون الذين ينظرون إلى الجريمة بعيون زجاجية، هم جزء أساسي من آلة القتل».
حينما قرأت عبارة مخلوف تذكرت على الفور أمرين: أولهما جملة كنت قد نشرتها على حائطي إبّان تصفيات بين بعض المثقفين تقول: الفيسبوك صار مفتي الديار العربية ومشرّع العلاقات الإنسانية.. يا لها من خيبة! وثانيهما جان وبيرانجيه بطلا مسرحية الخرتيت.
مثّل مجتمع المسرحية في مدينة صغيرة بإحدى المقاطعات الباريسية ما يشبه الوجود المجتمعي الافتراضي لكائنات الفيسبوك. إنّها كائنات تتحرك في الكلام وتُكرر ما يقوله الآخرون، إن شخصية رجل المنطق في المسرحية وهو يشرح نظرية القياس لتحليل الخرتيت وهو ينطلق بأقصى سرعة لديه لينتهي بحديث في نظرية عن القطط أشبه بتخبط النظريات السياسية والتحليلات العربية لأوضاعنا اليوم، لدرجة أن رجل المنطق لا يقدر أن يثبت مقولة ما لإقناع مجتمع المدينة ولكنه يدفع بهم إلى المزيد من التخبط والحيرة واللايقين.
ومن يتابع ما يجري على الفيسبوك يُهيله تصاعد موجة الاضطرابات والخلافات بين كائناته. والقدرة على تحويل أو تحوير الأخبار من جهة، والمضي المُسّف حول نقاشها أو تبريرها. عوض أن يرتكز الاشتغال على نقد الظاهرة بأسلوب نقدي ومنهجي وموضوعي وازن. إن تراجع أو تضاؤل دور المجال العام قلل الفرص أمام تحقق أحدى وظائفه المركزية؛ التنوير والتعليم «تعليم المواطنين المستمر في إطار مناقشات جماهير المجال العام عبر تزويدهم بالمعلومات والبيانات الجديدة ذات الصلة بالقضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية المثارة داخل المجتمع، مما يساعد على تنمية قدرات المواطنين تجاه عملية المشاركة الديمقراطية في الشأن العام» وأتاحت ظاهرة الخرتتة بضغطة زِّر على واحد من هذه الخيارات (Like, Comment, Share) الكينونة الجديدة تعليم الناس جميعا أيّ شيء، والكلام حوله إما لتمجيده أو للاصطفاف والتخندق؛ لدرجة أن تصل نبرة التصفية إلى العدائية والتحطيمية والتخريسية بحيث تصير ردود المشاركين (يعادلون مجتمع المدينة بالمسرحية) إلى ما يُشبه اقتتال الثيران والديكة.
في المشهد الأخير الذي تخبط فيه بيرانجيه بين الإنسانية والحيوانية، للحفاظ على إنسانيته المحضة معلنا تارة أنه وحش ضار، وتارة متحسرا أنه لن يصبح خرتيتا، وتارة صارخا صرخة تحذيرية «أن الويل لمن أراد أن يحتفظ بتفرّده»، ما يلبث أن يلتفت إلى رؤوس الخراتيت المثبتة على الجدار، ليصيح سأدافع عن نفسي ضد العالم أجمع، أنا آخر إنسان، وسأظل كذلك حتى النهاية...»، في ظل ذلك كله، ينجح الفيسبوك في ايجاد الناس الأعداء، والشامتين وفي جميع حقول الإبداع والفنون.