د. حسن مدن -
لدى جزء من الفكر الغربي الحديث، وبعض مريديه عندنا، هوس بالنهايات وبموت الأشياء. كل شيء عندهم انتهى أو مات، أو أوشك، لذا تصادفنا عناوين كتب ودراسات وتحليلات تحمل مثل هذه العناوين المتشائمة: نهاية التاريخ، موت الفلسفة، موت الشعر، وحتى موت الإنسان نفسه.
نص قديم لفرويد يعود إلى بدايات القرن العشرين يقول إن مليوني سنة من التاريخ وما قبل التاريخ ليست سوى فاصل عابر في عملية انتشار الحياة على الأرض وتكوين كوكبنا في الفضاء الكوني. واختتم ميشيل فوكو كتابه «الكلمات والأشياء» بعبارة قدمها كما لو كانت نبوءة، حين كتب يقول «ليس الإنسان أقدم المشكلات التي انطرحت على المعرفة الإنسانية ولا أكثرها ديمومة، فالإنسان هو اختراع يبين لنا علم آثار فكرنا بيسر وسهولة حداثة عهده، وربما وشوك نهايته».
على جري هذا النوع من الفهم لا تبدو ثمة حدود لطوفان من الدعاوى عن النهايات الحادثة أو الوشيكة، شهدنا تجليات لها في الرواج منقطع النظير لمقولة نهاية التاريخ لفرانسيس فوكوياما التي أريد بها حمل سكان الأرض على القبول بنموذج الحضارة الغربية، في نسخته الأمريكية تحديداً، بوصفه أقصى ما يمكن للبشرية أن تبلغه من تقدم.
وكان هيجل، وشتان ما بين قامة هيجل ومنظومته الفلسفية الثرية المعقدة، ومقام وأطروحة فوكوياما، قد قال أمراً مشابهاً حين عدّ الحضارة الجرمانية نهاية للتاريخ، لكن التاريخ نفسه سرعان ما كذب ذلك.
لا يقف الحديث اليوم عند حدود الزعم بنهاية التاريخ، وإنما أيضاً بالقول بنهاية الجغرافيا. دعاة هذا القول ينطلقون من انهيار جدار برلين الذي أزال الحدود بين غربي أوروبا وشرقيها، للقول إنه لم تعد ثمة جغرافيتان أو مجموعة «جغرافيات»، وإنما جغرافيا واحدة مفتوحة.
لكن كم جدران من الكراهية والتمييز ما زالت قائمة في هذا العالم، رغم سقوط جدار برلين العتيد، وأخرى شيدت بعد سقوطه، يكفي أن نشير إلى جدار الفصل العنصري الذي أقامه الكيان الصهيوني لعزل الضفة الغربية عن بقية العمق الفلسطيني التاريخي، هذا فضلاً عن تقطيع أوصال الضفة بالمستوطنات.
والحديث لا يدور عن الجدران المادية فحسب، ولكن عن الجدران المعنوية، التي تموه الصراع على ثروات الكوكب ومقدرات شعوبه تحت عناوين مضللة، من نوع صراع الحضارات، لإعادة إنتاج المفاهيم الاستشراقية حول صراع حضارة الغرب مع همجية الشرق.
لا يقتصر الأمر على حدود الفلسفة والسياسة وحدهما. هناك هوس آخر اسمه: موت المؤلف. بعض إخواننا الشعراء لا يقولون إنهم يكتبون القصيدة، وإنما يفضلون، في نوعٍ من الفذلكة الظاهرة، القول إن القصيدة تكتبهم. ومثلهم يفعل بعض الفنانين حين لا يقولون إنهم من رسم اللوحة، إنما اللوحة هي من رسمتهم، موحين لنا، أو راغبين في أن يوحوا، بأن لا سلطان لهم على ما يعملون، كأن الإلهام قُوة مُنزلة من السماء تحل عليهم، فلا يفعلون سوى أن يضعوها على الورق.
ليس بوسعنا أن نأخذ مثل هذه الأقاويل على محمل الجد، رغم إيماننا بما للمخيلة من دور في الإبداع، لكن يصعب التسليم بأن المبدع، شاعراً أو كاتباً أو فناناً، هو على هذه الدرجة من الاستقلالية عن إبداعه، فكأن الإبداع في هذه الحال يبدع نفسه. كأن خالقه، أي المؤلف أو الفنان، ليس سوى وسيط سحري أو سري، بين قوة إلهام غامضة لا تُمسك باليد وبين النص أو اللوحة، وما إليهما من ضروب الإبداع.
من حيث يدرون أو لا يدرون، يُسقط هؤلاء دور الوعي أو المعرفة في خلق الإبداع، وهذا الأخير يتم، فيما نرى، على التخوم المشتركة بين الوعي واللاوعي، وهو ما يجعل الإبداعات المتميزة أكثر ذكاء من منتجيها، أو ما يجعل الأدب، خاصةً، يتجاوز الموقف السياسي للأديب، الذي قد ينتج أدباً يمكن أن نعده تقدمياً، فيما موقف الأديب رجعي. وسبق لنا الإشارة إلى مثال بلزاك نموذجاً على مثل هذا التناقض، أو قل التجاوز للدقة.
وحتى هذا الأمر لا يعني أن القصيدة أو القصة أو الرواية تكتب نفسها، ولا اللوحة ترسم نفسها كما يزعمون.
كان رولان بارت أول من أعلن في مقالة شهيرة له في نهاية ستينات القرن العشرين موت المؤلف ما شجع على دراسات تالية أقصت المؤلف من مجال الاهتمام انتصاراً للنص والكتابة، حيث قيل إن الذات تتفكك في نسيج الكتابة أو تذوب فيه، ولكن بارت نفسه سرعان ما أعاد النظر، ولو جزئياً، في هذه الأطروحة مُخففاً من غلوائها أو قَطعيتها، حين قال إن الكاتب ضروري للمعنى.
«إني أرغب في المؤلف على نحوٍ ما داخل النص، إنني بحاجة إلى صورته»، هذه كلمات بارت نفسه، كأنه بذلك يعيد الاعتبار للمؤلف الذي سبق أن وارى عليه الثرى، لكن مشكلة بعض كتابنا ومثقفينا هي الولع بالموضات، والتشبث بها حتى بعد أن يكون أصحابها قد هجروها، أو أقلها أعادوا فيها النظر.
بهذا المعنى علينا أن نقول الشيء نفسه عن الشعر الذي قد تسقط بعض نماذجه، لكنه كقيمة تعبير وجدانية شديدة الرهافة والحساسية لا يمكن أن يموت.
قبل سنوات طالعتُ ملفاً ثقافياً موسعاً نشرته مجلة عربية حول مقولة موت الشعر. حيث توجهت المجلة بسؤال يتيم، ولكنه واضح ومحدد: هل مات الشعر والشاعر، إلى مجموعة من أبرز شعراء العربية. ومن النادر أن يرثي المرء نفسه أو يعلن موته الشخصي، فكان من الطبيعي أن الشعراء الذين شاركوا في الاستفتاء قد قالوا فيما يشبه الإجماع، لا الشعراء ماتوا، والشعر لن يموت. وبرروا ذلك بكلام مسبب ووجيه.
صيغة ذلك السؤال الذي طرح بكل جدية كانت تشكك في حضور جنس إبداعي راق هو الشعر، ولكننا سننظر للموضوع من زاوية أخرى تتصل بالعالم الروحي للإنسان في عصر التقنية والمعلومات والروح العملية التي تسخر من قيم كالشاعرية، والرومانسية، وتنظر إليها كما لو كانت تنتسب إلى زمن موغل في القدم يمثل طفولة البشرية، يوم لم يكن لدى الناس ما يفعلونه سوى تدبيج القصائد العصماء المعلقات عن الحب.
لكن الشعر في الذاكرة العربية المعاصرة ليس فقط قصائد قيس بن الملوح أو عنترة ابن شداد أو سواهما من فحول الشعر الغزلي الرقيق، وليس ذلك التراث العذب من الشعر الأندلسي الجميل الذي يبدو لسامعه وقارئه كأنه خارج للتو من ديوان شاعر غزلي حديث، وأن ليس ثمة قرون تفصلنا عنه. الشعر في الذاكرة العربية هو أيضاً تلك القصائد التي كانت كافية لأن تقلب الوضع في بلدٍ من البلدان بين عشية وضحاها. كان يكفي الشاعر محمد مهدي الجواهري أن يقف وسط الحشود في ساحة السباع ببغداد ملقياً إحدى قصائده الخالدات لتتدفق الناس على شكل مظاهرات صاخبة ضد الحكومة الملكية على الفور.
لسنا في الأربعينات من القرن العشرين لكي نستعيد مشهد الجواهري في ساحات بغداد. ولكن شعراء من وزن محمود درويش ومحمد الماغوط وسعدي يوسف وأحمد عبدالمعطي حجازي ومحمد عفيفي مطر ظلوا قادرين على أن يملأوا قاعات كبيرة بحشود المستمعين، سواء أولئك منهم القادمون ليسمعوا شيئاً عن الأشياء الكبيرة: الوطن والأرض والمستقبل والهزيمة، أو أولئك الذين ينشدون الإصغاء لنداء الروح، ذلك المركب العجيب من الهمس والضجيج.
الحب والشعر قرينان. ولأن الحب لا يموت فإن الشعر هو الآخر لا يموت. والسؤال عن موت الشعر يبدو، هو الآخر، وإلى حدود بعيدة، صدى لأصوات ودعوات آتية من سياقات ثقافية وفكرية أخرى غير سياقاتنا. وهذا ما التقطه العديد من المشاركين في استفتاء المجلة العربية المشار إليه، لكن أفضل من عبر عنه هو اللبناني عقل العويط حين قال بإيجاز دال: «إن عصر ما بعد الحداثة لم يعد في حاجة إلى الحياة نفسها. إنه يقتل الحياة ليعيش، لكن وراء كل هذا الموت، لا بد من وجود حياة قادرة على أن تقول لا، إنها حياة الشعر، وهي خالدة».