عبدالله حبيب -
«ويقولون إن الناس سمعوا نواحاً في الهواء، وزعقات موت غريبة»
--لينوكس، «ماكبث»، شكسبير--
ضاق بسماء عيسى الحزن، ولم تعد رياح الشعر قادرة على تحريك ستارة الموت الثقيلة التي أسدلتها ذاكرة الشاعر على روحه؛ تلك الروح التي كلما أرادت أن تطفو على الحياة جرَّتها الجثث التي تمسك بتلابيبها إلى الغياهب، فإذا بالشاعر ينتفض مثل شِعره «هسهسة تخرج من تابوت»، وإذا بألواح التابوت ومساميره تحاول أن تعيد بناء العلاقة بين الشكل والمضمون نوعياً عبر إعادة خلق هويتها لتصبح خشبة المسرح الفضاء الذي يحرك فيه الشاعر كائناته الضاربة في السقم، والاغتراب، والموت. في هذه اللحظة تحديداً حدث الغدر المشترك: غدر سماء عيسى بالشعر، وغدر المسرح بسماء عيسى. ولم يكن النفري وهو يرقب مشهد الخيانة بقلق شديد غير قادر سوى على أن يصرخ بنفس الرؤيا التي صدَّرت إحدى مجموعات الشاعر:«ليس أمامكم باب فتقصدوه، وليس وراءكم باب فتلتفتوا إليه». ويفكر المرء هنا جزعاً انه حتى لو وجدت أبواب بسعة الفضاء فإنها ستضيق بهول الكارثة الجليل؛ فقد عاثت الفجيعة في بصيرة الشاعر بما لا تمكن محاولة الحوار معه كموضوعات يمكن تتبعها وفقاً لشروطها، أو شروط المسرح، أو شروط ضد ـ المسرح (anti-theatre) (*).
صحيح انه يمكن القول مبدئياً وموضوعياً ان هناك استدعاءات تراثية في النص كما في استحضار ممارسة الوأد في المجتمع العربي القديم (وسأغض النظر هنا عن ان ما نُقل إلينا عن ممارسة الوأد في ثقافة ما قبل الإسلام مبالغ فيه كثيراً في أحسن الأحوال، وإلا لما تبقى أحد من العرب)، إضافة إلى استدعاءات تاريخية تبحث عن أنساغها في مأساة الإصابة بمرض الجذام التي تُذَكِّر به لدينا هنا في عُمان مجاذم لا تزال أطلال بعضها ماثلة وإن كانت قد أخليت من نزلائها، والنفي بسبب ذلك أو غيره مما هو موجود بقوة في الذاكرة العمانية أيضاً. غير ان روح الشاعر الجامحة قد فاضت عن أفلاج الاشتغال التقني وكأن السَّباك يستطيع القيام بعمل البنَّاء، وجلجلت صرختها في استحواذ (obsession) غطى على صوت الثيمة باعتبارها ثيمة، حيث أغرقها فيضان من نحيب لا يبقي ولا يذر؛ أي أنه لا يحاوِر ولا يحاوَر خارج كونه انفجاراً روحيَّاً هائلاً يصل بسماء عيسى درجة الثقة الزائدة بالنفس بحيث انه يتصور ان الجميع مسكونين بما هو مسكون به وبذات الدرجة الكارثيَّة من الفجيعة والألم؛ فالحال هذه كان من الأجدى به ان يكلم نفسه فقط ولا يدعو الناس لحضور مسرحية.
هذا بمعنى أن ليس علينا أن نُكبِر عاطفة الفنان من غير أن نعبأ بالشروط الجمالية لنتاجه، ولكن بمعنى انه في زمن غير أصيل (والزمن بمطلقه لم يكن أصيلاً أبداً في أي مرحلة من مراحله خارج الاستيهام، والتمني الاستعادي، واعادة الانتاج عبر الإبداع) أصبحت تُساءل فيه مقولة «الوجع الأصيل» باعتبارها جذر الإبداع الغائر، فإن الشاعر لا يترك لنا إلا أن نكبِر وجعه في إكبار لنسغ الإبداع. حقاً: «إذا اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة».
هكذا تحققت نبوءة «نذير بفجيعة ما» في «لا شيء يوقف الكارثة». لكن الشاعر في مكابرته اليائسة والباسلة بحثاً عما يقصده أو يلتفت إليه لم يحفل بكسو كائناته التي انتحلت كينونات جديدة وفق هوى أجسادها، ولكن وفق هوى روحه المرتدية الشِّعر؛ فها هو يجلب قميص الصورة ليقسره لباساً للشخصية، وإذا بالحوار يتكور على أريكة المجاز والتشبيه إلا فيما ندر، وبصورة لا تدع كبير مجال للشك بأن تلك «الشخصيات» إنما هي «أشخاص» دعاها سماء عيسى لإلقاء قراءات شعرية، ولكنها ظلَّت طريقها إلى المسرح. وحين اكتشفت تشابك الطرقات والمصائر في المأزق الوجودي للشاعر لم تشأ أن تتراجع عن الشعر، ويا له من قرار عنيد وجدير بالإكبار في أية حال. لكن، وبما ان سماء عيسى قد قرر تجاهلنا إلى هذا الحد فليس أقل من أن نذكِّره ونحن نغادر القاعة قبل انتهاء العرض: نحن أيضاً أرواحنا ممزقة لدرجة أننا نعرف الفرق بين الشعر والمسرح.
لقد كان الشاعر مضطرباً يلهث، بينما خشبة المسرح مطمئنة في اتكائها إلى تقاليد أقدم الفنون؛ فكان الارتطام غير عادل إلا في جور الكارثة التي أراد الشاعر أن يلوح بها إلى برزخ آخر، فإذا بها تقذفه بتشفٍّ إلى عين الأديم. هكذا أراد المبدع أن يبكي على حضن غير حضن الشِّعر الذي سحق صدره، فإذا بخشبة المسرح تنقضُّ على ضلوعه وتهشم مسعاه.
بهذا فإنه بدلاً من أن يُفتح الستار على تجربة مسرحية ذات فضاء شعري، انسدل القماش على تجربة شعرية ذات فضاء مسرحي بلا عون ولا فائدة للشعر ولا للمسرح معا. وجاءت الشعرية الحزينة في النص مذكراً مريراً بأن المسرح قد انبثق أصلاً من الغناء والأناشيد لدى الإغريق. لكن هذه الحقيقة نفسها هي ما يجعلنا غير قادرين على التغافل عن إضافات أرسطو في الأقل؛ فقد وقف الفيلسوف بحزم ضد الأغاني والغنائيات والكورال في التراجيديا (بالمعنى المسرحي للكلمة) لأن المسرح بذلك لا يستطيع أن يسمو بالبطل التراجيدي في محيطه، وذلك من حيث ان المسرح وسط بين ذاتية الشعر وجماعية الملحمة.
بيد ان المرء لا يتعامل مع الإبداع هنا بمقاييس سنتيمترية، فذلك شأن المهندسين وحدهم. ولكننا حين نتذكر ان المسرحي مهندس جمالي صارم يبني نصاً لا بد له من أن يقوم على أسس راسخة كي لا يقع البناء على صاحبه، وكي لا يكون جزاؤه إلا جزيلاً جداً كجزاء سنمار؛ أي أن يؤدي المبنى ببانيه لا أن يؤدي الباني بمبناه.. حين نتذكر ذلك، إذاً، فإن علينا أن نتخوف قليلاً من طفولة الشاعر لا لأنه يهدم بنزق فهذه مهمته وهذا هو توقه، ولكن لأنه »لأجل بناء معبد جديد لا بد من هدم معبد آخر» حسب نيتشه. بهذا المعنى يتخوف المرء من أرض بلا معابد؛ فحين ضاقت اللغة كلها بِرَاء آخر عاش الفجيعة في حياته الشخصية، وفجيعة شخص العالم فيه، أعني أنتونين آرتو، عمد هذا الكارثي بامتياز إلى هدم معبد اللغة المسرحية الذي شيد على أنقاضه معبد ما أصبح يعرف بـ «المسرح الكلي» (total theatre) والذي تخلي فيه اللغة المنطوقة للغة عنيفة من الأضواء، والظلال، والأصوات، والصور البشرية، وذلك في حدَّة ربما فاقت أكثر النبرات ميتافيزيقية وعدمية في اللغة التي نحكيها ونكتبها، وربما فاقت كذلك الحدب المتواضع للعقاقير المضادة للاكتئاب وجنون الصدمات الكهربائية التي عصفت بمخ صاحب «المسرح وقرينه» في أثناء إقامته شبه الدائمة في المصحات العقلية.
وبعدُ فإن «لا شيء يوقف الكارثة» سجَّل نقلة نوعية في السيرة الرؤيوية للمبدع، وهي نقلة لا ينبغي التعامل معها وفق أحكام القيمة؛ ذلك أننا ألفنا في أعماله السابقة تعادل فكرة الطفولة بفكرة المرأة من حيث ان كليهما يوازي الآخر ويساويه؛ فكليهما منفى رؤوم لعذاب الشاعر ولا يستطيع - أو لا يبغي- أحدهما أن يكون أكثر دفئاً وروحية من الآخر؛ أي ان الشاعر لا يفاضل بين المنفيين: بين نقاء الطفولة الذي يبحث عنه فلا يجده إلا في المرأة فكرةً وجسداً تربطه به حسيِّة صوفية «باتاويَّة» (نسبة إلى جورج باتاي). وإن أراد الشاعر أن يجد معادلاً لسمو المرأة في الخلق فإنه لا يجده إلا في صمت الطفولة الضارب في الخلق كذلك (وفي هذا فإن سماء عيسى، في مجمل أعماله تقريباً، يقترف بكائيات غزيرة أخشى أنها لا تستطيع دوماً أن تهب لنجدة انتحابه).
غير ان من القمين بالإشارة هنا ان سماء عيسى في «لا شيء يوقف الكارثة» قد اتخذ موقفاً منبثقاً من مجاز الكهف في عمل افلاطون الشهير، حيث نقرأ في النص المسرحي للشاعر ان الوجود المحسوس - بما في ذلك جسد المرأة - مريض ومشوه بالجذام، والدود، والآفات الأخرى. أما «الحقيقة» التي يهفو لها الشاعر - مثلما تاقت له شخصياته الأسيرة، ومثلما غابت عن سجناء كهف افلاطون- فإنها لا تبوح بسرها أبداً، ولا تتجلى لأنها أصل يستعصي على «التمثيل» (بالمعنى الفلسفي للكلمة: “representation”). وهكذا فإن الشاعر يجد تلك الحقيقة الأولى في الطفولة باعتبارها حقيقة ترجح كفتها ولو قليلاً على كفة المرأة؛ أعني الطفولة من حيث كونها لغة علوية للخلق بينما المرأة تجسيد له، ومن حيث كونها الأصل المقابل لما بحث عنه أفلاطون خارج التمثيلات المحسوسة للجوهر غير المدرَك.
وهكذا فإن الفنان في بداية نصه يقدمنا إلى طفلة على أرجوحة تُراوح بين الـ»هنا» والـ»هناك»، (بين المسرح والشعر)؟، بين الأرض والفضاء، وتقول الخلق وتتواصل معه في صمتها. يخبرنا رومَن جاكبسُن «ان الجهد المبذول لإقامة التواصل والحفاظ عليه هو جهد خاص بلغة الطيور الناطقة. وهكذا فإن الوظيفة الانتباهيَّة للغة هي الوظيفة الأولى التي يكتسبها الأطفال. إن النزوع إلى التواصل عند الأطفال يسبق طاقة إصدار الرسائل الحاملة للأخبار». ولهذا فبعد أن كشفت جميع شخصيات «لا شيء يوقف الكارثة» عن محدوديتها، وبؤسها، وسقمها حرفياً ومجازاً، وبعد أن قطعت المرأة ثدييها وقذفتهما في وجوه المشاهدين الذاهلين، وبعد أن طعنت نفسها طعنات الرحمة، جاءت الطفلة بلغة الطائر الذي رحل بأم الشاعر بعيداً في الموت وذلك في «مناحته». جاءت الطفلة لتربط الموت بالصمت من حيث كونه لغة الخلق.
لكن تلك الطفلة، وفي أول ما نطقت به احتاجت إلى لغة وسيطة تفتتح بها أبجدية التكوين، فلم تجد سوى لغة الطير التي هيأتنا لها الأرجوحة عبر حضورها الرمزي السالف. ولهذا فإنني ، وقبل أن أسدل الستار على هذه المداخلة السريعة، وقبيل ان لا تنتهي «لا شيء يوقف الكارثة» التي لا شيء من هنَّاتها يستطيع ان يوقفنا عن الثقة بأنها ستتواصل في كوارث أعتى وأكثر إقناعاً، فإنني سأغني مع الطفلة: وك وك واك/ وك وك واك».
(*): أنا لست ناقداً مسرحياً. كل ما في الأمر ان بورخِس كتب كتاباً عن السينما (لم يترجم بعد إلى لغة الضاد للأسف الشديد).