إيهاب الملاح -
«الجريمة والعقاب» واحدة من أشهر أعمال الكاتب الروسي الفذ فيدور دوستويفسكي، وهي في الوقت ذاته، أحد عيون الرواية العالمية وأذيعها صيتا (على الأغلب لن تغادر رواية «الجريمة والعقاب» أية قائمة مختارة لأهم عشر روايات في التاريخ).
الرواية التي مرّ على كتابتها ما يزيد على القرن ونصف القرن، ما زالت حية متوهجة بألق عبقريتها وفرادتها، تحتل مكانتها في كل بقعة من العالم، وفي كل قائمة معتبرة حول أهم الروايات التي أبدعها البشر. ترجمت إلى عشرات اللغات، وصارت أيقونة فنية خالدة، متجددة الكشوف والمتعة، شأنها في ذلك شأن الأعمال الكبرى في تاريخ الأدب العالمي.
أما دوستويفسكي فهو أحد سادات الرواية في العالم بلا منازع، وسيد الرواية «التحليلية» بإجماع، وهو الذي أضاف إلى ما اصطلح على تسميته بـ «الرواية النفسية» التوغل في منطقة العقل الباطن والكشف عن أسرارها وخفاياها. كان يتقصى النفس البشرية في اضطرابها وتناقضها ولا معقولية مساراتها بدأب مذهل، وعين لاقطة، وبحدس كاشف مصيب. وفي أعمال دوستويفسكي كلها، ورواياته الكبرى خصوصا، تظهر براعته التحليلية التي لا توصف وقد كان له قصب السبق، إبداعيا وروائيا، في الكشف عن كثير من خفايا وأسرار العقل الباطن، واللا وعي، سبق علماء النفس بمراحل كثيرة، بوفرة التحليلات والاستقصاءات التي قدمها عبر شخوصه الروائية، كل ذلك دون التخلي عن الإطار الجمالي للفن الروائي.
شغل إنتاج دوستويفسكي الروائي مكانة غير مسبوقة لا في تاريخ الرواية الروسية فقط بل في تاريخ الرواية العالمية أيضا، وأكد نقاد أن اتجاه دوستويفسكي إلى الرواية كفن تشكل وتحددت معالمه الأولى إلى حد كبير تحت تأثير التجربة الروائية العظيمة لكل من «بوشكين» و»جوجول».
برز اسم دوستويفسكي على الساحة الأدبية في روسيا في أربعينيات القرن قبل الماضي (القرن التاسع عشر)، واتسم إنتاجه الروائي منذ أول رواية له، وهي «المساكين»، بنهج فني جديد، يبتعد فيه عن الخط الهجائي المميز لرواية معلمه «جوجول» الذي كان يجذب اهتمامه وصف الحياة الموضوعية المعيشة بأنماطها المتعددة، واتجه إلى البحث العميق في نفوس أبطاله.
كتب دوستويفسكي القصة والرواية، وترك أعمالا رائعة منها: «المساكين» (1845)، «مذلون ومهانون» (1861)، «الجريمة والعقاب» (1866)، «الأبله» (1869)، «الشياطين» (1822)، «المراهق» (1875)، و«الإخوة كارمازوف» (1880).
من أكثر الموضوعات التي استحوذت على لب واهتمام دستويفسكي، الإنسان والروائي معا، وصف حياة الفقراء والكشف عن الظروف والمعاناة التي يعيشونها، اتجه إلى هذا الموضوع في العديد من رواياته. وهو في تصويره لحياة الفقراء في المجتمع الروسي ينحو نحوا جديدا، فهو لا يهتم بتصوير اللوحات المعيشية التي تعكس الفقر والتناقضات الاجتماعية التي تحكم وجود الفقراء قدر اهتمامه بتصوير العالم الروحي والأخلاقي للفقراء، والذي يبرزه في ارتباط وثيق بوجودهم المادي، فالمشكلة الاجتماعية للفقر تبرز في روايات دوستويفسكي من خلال المشكلتين الأخلاقية والنفسية.
والعالم الداخلي لفقراء دوستويفسكي هو عالم صعب ومعقد، فرغم ما يظهر فيه من غيظ وحنق وأنانية ورغم ما قد يسيطر عليه من أفكار كاذبة أو وعي مريض، فهو مع ذلك عالم الخير والمشاعر الطاهرة ومبادئ الإنسانية والأخوة والضمير الحي والنفس القادرة على التضحية والمعاناة والتصحيح.
كانت هذه لمحة موجزة عن السياق العام الذي ظهرت فيه رائعة دوستويفسكي «الجريمة والعقاب»، والتي صدرت منها طبعة جديدة عن دار آفاق للنشر والتوزيع بالقاهرة، لترجمة عربية قديمة (لها قيمتها التاريخية)، أنجزها عن اللغة الإنجليزية حسن محمود، وراجعها الراحل محمد فريد أبو حديد، وصدرت في صورتها الأولى عن مشروع «الألف كتاب» للترجمة الذي كان يشرف عليه الدكتور طه حسين، وتقع في مجلدين بمجموع صفحات 824 من القطع المتوسط.
رواية «الجريمة والعقاب» تصنف ضمن أهم مراحل إبداع الروائي الروسي العظيم؛ إنها روايته الطويلة الثانية عقب عودته من المنفى بعد عشر سنوات قاسية قضاها في سيبيريا الرهيبة. كما تصنف بالرواية العظيمة الأولى في مرحلة الكتابة الناضجة لديه، نشرت للمرة الأولى كاملة عام 1867، وذلك بعد نشرها مسلسلة في العام 1866.
في «الجريمة والعقاب»، يصور دوستويفسكي الحياة القذرة المتقشفة التي يحياها جمهور الناس في المدن؛ الغرف الضيقة، الأزقة والحارات التي يتدافع فيها الخلق كالنمل، في كل مكان في هذه الأوساط تتنامى القذارة والحقارة في أبشع صورها، ورغم ذلك ففيها أيضا أسرار لا تنفد للطبيعة البشرية المعقدة ولطبيعة الحياة وكنهها. تظهر في هذه الرواية مكنونات النفس البشرية؛ هواجسها وأحلامها ووساوسها وخطاياها، عارية بلا مساحيق ولا أقنعة.
القوام الرئيسي للرواية يدور حول جريمة قتل عادية، طالب شاب فقير يقدم على قتل عجوز مرابية، ثم يخفي آثار جريمته ولا يكشفه أحد، لكنه تحت وطأة الشعور بفداحة الجرم الذي ارتكبه والصراع العنيف الذي اندلع بداخله لم يجد مفرا من تسليم نفسه للشرطة والاعتراف بجريمته والكشف عن تفاصيل ارتكابه لها. إلى هنا والقصة عادية، لكن عبقرية دوستويفسكي ستحيلها خلقا آخر وتكسبها مذاقا خاصا وروعة متجددة.
أصبحت «الجريمة والعقاب» خير نموذج للرواية الاجتماعية النفسية الفلسفية، فإلى جانب الخط الاجتماعي البارز لروايات دوستويفسكي جميعا نجدها أيضا ذات اتجاهات «أيديولوجية» ونفسية في ذات الوقت، فدوستويفسكي المفكر كان يسعى في تصويره للحياة الواقعية إلى فهم القوانين التي تحركها، وكان يحاول النفاذ إلى مغزى المشاكل الجوهرية لتطور الإنسانية.
ولذا فإنه يصور مصير شخصياته في ارتباط لا ينفصم بالموضوعات الفلسفية والأخلاقية والدينية التي يطرحها في رواياته والتي يضعها في مركز اهتمامه وبحثه، ويتحدد تبعا لها بنيان الرواية وخصائصها، ولهذا نجد الرواية تتميز بالديالوج الحار وعنصر الإثارة الشكلية الذي يخفف من حدة اصطدامات الشخصيات ومن الحركية المتوترة للأحداث التي تنبع من صراع الشخصيات حول (نعم) أو (لا) حيال الأفكار الواردة في الرواية، وهي الأفكار التي ترتبط بكل الأحداث وبكل خطوط المضمون التي تفسر تصرفات الأبطال أنفسهم.
نجح دوستويفسكي حقيقة- كما أشار إلى ذلك عديد من النقاد- في كتابة رواية جديدة، أطلق عليها لقب الرواية «المأساوية» أو الرواية «المفجعة» التي تقوم على التحليل النفسي العميق، صار دوستويفسكي أحد رواد الرواية النفسية، بل رائدها الأكبر بلا منازع، الرواية التي تتسم بتوتر حاد في إحساسات الشخصية وبدقة في تصوير أفكارها ومشاعرها، وبعمق في النفاذ إلى التناقضات الداخلية للإنسان الذي يتكشف في أكثر لحظات حياته الصعبة، ومن خلال صراعات عنيفة مع نفسه وتوتر حاد للرغبات.
لا يتضح الجوهر الداخلي لبطل دوستويفسكي في الحالات النفسية العادية بل وهو في قمة معاناته، وفي وقت الاهتزازات الروحية المعذبة. ودوستويفسكي المحلل النفسي يستند في تحليله لنفسية أبطاله إلى معيار «الشعبية»، فيقارن بين أفكار ومعاناة أبطاله الرئيسيين ويبين الوعي الأخلاقي للجماهير الذي يقيس به صحة أو خطأ أفكار وتصرفات الأبطال. ستظل «الجريمة والعقاب»، دائما، واحدة من أهم وأبرع روايات العالم عبر التاريخ.