المحرر الأدبي الغائب عن المشهد العربي -
عاصم الشيدي -
شكرا يا رجل على المساعدة العظمى في القصص. لم يفعل أحد معي مثل هذا منذ أن كان عمري 18، وأنا أعني ما أقول. أشعر بالقصص الآن درجة أولى، ولكن مهما تكن النتيجة، أقدِّر لك عينك الدقيقة التي أوليتها للقصص. ابق قويًّا.
ريموند كارفر
لم أتفاجأ كثيرا وأنا أحاول استطلاع أراء أصحاب دور النشر المشاركين في معرض مسقط الدولي للكتاب أنهم لا يعرفون «المحرر الأدبي» ولا وجود له في دور نشرهم أبدا.. وأن الكثير منهم يخلط بين «المحرر الأدبي» وبين «المصحح اللغوي». ورغم الحديث الكثير الذي تكرر عربيا عن أهمية وجود «المحرر الأدبي» في أي دار نشر من أجل تجويد المنتج الإبداعي وتخليصه من الكثير من الزوائد أو إضافة بعض النواقص التي قد لا ينتبه لها المؤلف الحقيقي للعمل إلا أن كل ذلك لا يعدو أن يكون سياقا صوتيا فقط وعندما تحين لحظة الحقيقة لا أحد يقبل بالأمر.. دور النشر تراه عبئا ماليا آخر يضاف إلى تكلفة صناعة الكتاب والمؤلف يراه تدخلا في عمله الأصيل، وبين هذا وذاك تفقد الكثير من الأعمال فرصة أن تكون أفضل وأكثر قربا من القارئ.
الكاتب يأنف في الغالب أي تدخل يمكن أن يمس «بقدسية» ما يكتب ويبدع هذا تقول دور النشر، ودور النشر لا تريد أن تضيف على الكتاب تكلفة أخرى هكذا يقول المؤلف. والقارئ يبحث عن الكتاب الرخيص دون أن يسأل يوما عنه كيف يطبع ولا المراحل التي مر بها قبل أن يظهر على أرفف المكتبات، هكذا يتفق الجميع.
السينما استهوتها فكرة «المحرر الأدبي» وفي العام الماضي اشتغلت على موضوع في عمق مهنة النشر عبر فيلم «العبقري» للمخرج مايكل جراندج والذي يتناول جانبا من حياة «المحرر الأدبي» الشهير بيركنز الذي كان يعمل في دار نشر «الأبناء سكرنبر». وركز الفيلم على تعامل بيركنز مع الكاتب الأمريكي الشهير توماس وولف ومع روايته «عن الزمن والنهر» وكيف استطاع المحرر الأدبي أن يعيد تحرير رواية من عشرات الآلاف من الأوراق إلى رواية رشيقة تحصد الجوائز وتدخل ضمن قوائم الأكثر مبيعا.
وكشف الفيلم عن الصراع الذي يمكن أن ينشأ بين المؤلف وبين المحرر الأدبي وتداعياته وهو صراع كتب عنه كثيرا، بل تصدر واجهات الصحف في الكثير من المرات كما حدث قبل سنوات بين الروائي والشاعر النيجيري بِنْ أوكري ومحرره روبن روبرتسون والتي شغلت مساحات مهمة في الصحافة البريطانية كان محورها لمن ينسب الإبداع للروائي أم للمحرر.
وإذا كان البعض يصف الكتاب بأنه الشجرة الشامخة ذات الأوراق الكثيفة فإن «المحرر الأدبي هو «المقصّ» الذي لا غنى عنه، لقطع ما زاد من الغصون، وما هاج منها وما ترهّل؛ وهو قصٌّ مؤلمٌ تارة، يأخذ شكل الجزّ الأفقي والرأسي؛ وقد يكون جراحيا، أشبه باستئصال أورام موضوعية».
ويبدأ دور المحرر في الغالب بعد انتهاء العملية الإبداعية ليقوم بدور تقليم الشجرة الضخمة وتجميل منظرها، إلا أن بعض دور النشر، ونتحدث عن العالم الغربي حيث النشر صناعة حقيقية، يقوم فيها المحرر بعمله في فترة مزامنة، ويقرأ معه ما يكتب فصلا فصلا، وربما يشاركه التفكير في مسارات العمل ويقدم له مداخلاته واعتراضاته. وهناك كتاب كبار لهم محرر معروف يرافقهم في كل مكان، بل يتدخل حتى في كتابة بعض مقالاتهم كما نقرأ في بعض الحوارات.
ويتذكر البعض في سياق الحديث عن دور المحرر الأدبي ما وقع من خطأ ولبس في رواية «مدام بوفاري» حينما وردت ثلاثة ألوان لعيني إيما بوفاري في الرواية! هل هما بنيتان أم سوداوان قاتمتان أم زرقاوان؟ كان يمكن تدارك تلك الهفوة فيما لو كان هناك محرر أدبي محترف.
وللاقتراب أكثر من فكرة المحرر الأدبي ومدى وجودها كثقافة ضمن هيكلة دور النشر التقينا ببعض الناشرين الأساسيين والرصينين المعروفين في العالم العربي ودار بيننا وبينهم أحاديث حول فكرة المحرر.
الكتاب يرفض
وفي جناح داره بمعرض مسقط الدولي للكتاب يقول الناشر المعروف نبيل مروة لدينا مصحح لغوي يقوم في الوقت نفسه بدور المحرر الأدبي، حيث يعمل على اصلاح الأخطاء اللغوية وتركيب الجمل والأسلوب.
وعندما قلت له إن هذا ليس هو جوهر التحرير الأدبي كما هو معروف في صناعة النشر قال مروة: المشكلة التي نعانيها في العالم العربي أن الكتّاب يرفضون أي تغيير على نصوصهم ويتحججون أن هناك من الكتاب الكبار من قرأ نصوصهم وأقرها!
لكن فكرة المحرر الأدبي كما تعرفها تقوم على إعادة تحرير النص إذا احتاج إلى التحرير من أجل تجويده وتحويل أسلوبه إلى أسلوب رشيق خاصة في الأعمال الروائية.. هذا الأمر لو قمنا به سيخلق الكثير من الصدام مع المؤلفين الذين يرفضون المساس بنصوصهم.. ومسألة تغيير القناعات ليس سهلا في هذا الجناب.
وحول ما إذا كانت الدار قد حاولت تعيين محرر أدبي يقول مروة نعم حاولنا ولكن اصطدمنا بالمؤلفين المدعين الذين يعتبرون نصوصهم مقدسة خاصة الشعري منها رغم الأخطاء الواضحة أحيانا.
مشكلة اقتصادية
نبيل مروة يتحدث عن جانب آخر في الموضوع فهو يرى أن فكرة وجود سياسة المحرر أصلا تجعلنا أمام مشكلة اقتصادية أيضا، المحرر الأدبي بالمعنى المعروف في عالم النشر الغربي تضيف على كلفة الكتاب كلفة أخرى تزيد من ارتفاع سعره.. ولو نظرت إلى ارتفاع الأسعار وضعف السوق وأضفت كلفة التحرير فإن أسعار الكتب سوف ترتفع كثيرا والقارئ لا يعرف كل تفاصيل صناعة الكتاب.
لكن مروة يعود بالذاكرة إلى سنوات طويلة مضت عندما كان المؤلف يسلم مخطوط كتابه ورقيا وتقوم دار النشر بدور الصف والتنضيد والتحرير والمراجعة فإن تلك المرحلة كانت تشهد نوعا من أنواع التحرير أما الآن فيصلك النص منضد على الوورد ومن الصعب أن تتدخل فيه.
لدينا محرر أدبي
من دار الآداب البيروتية تتحدث الناشرة رنا إدريس عن المحرر الأدبي فتقول لدينا محرر أدبي في دار الآداب. وتواصل إدريس حديثها بالقول: لا بد أن نتحدث عن التجربة من أولها، عندما تصلنا مخطوطة أي عمل مقدم للنشر في الدار نعرض المخطوط على لجنة قراءة والتي تكون مكونة من ثلاثة أعضاء يكون أحدهم روائيا متمرسا في عمله، وناقدا أكاديميا تكون له علاقة بالنقد الروائي، وقارئا متنورا. وبعد أن يقرأ الثلاثة المخطوط يكتبون تقارير حوله. وتقوم أيضا أسرة سهيل إدريس بقراءة العمل لإبداء الملاحظات.. وتقدم الملاحظات والتوصيات حول المخطوط، وما يخص المؤلف نبعث له للتعديل. وعندما قلت لها إن هذا ليس تحريرا قالت هذه مرحلة أولى توصي القراءات بتعديلات قد تمس مسار الرواية ونوع النهاية والكثير مما يتعلق بتقنية كتابة الرواية بشكل خاص حيث نتخصص بها أكثر من غيرها. لكن رنا لا تقدم تفاصيل عن محرر أدبي مقيم ومتفرغ أو حتى بعمل جزئي ولكنها تكتفي بالقول لدينا محرر أدبي.
وحول ما إذا أصر الكاتب على عدم التغيير تقول رنا لا بد من موافقته ونحاول أن نقنعه بالتعديلات المقترحة.. ولم يحدث عن أعدنا تحرير رواية بشكل كامل أو غيرنا في مسارها حتى لو كان ذلك بتنسيق مع المؤلف إنما يكون هناك تحسين لمقاطع بعينها أو جمل أو ملاحظات حول خاتمة رواية.
وحول تقبل الكاتب حتى للتغييرات الطفيفة التي تتحدث عنها تقول رنا الكتاب الكبار هم الأكثر طراوة والأكثر تقبلا أما بعض الكتاب الشباب فيتمسكون برأيهم كثيرا وليس سهلا أن يتفهموا فكرة المحرر الأدبي التي تتحدث عنها.
المحرر سري
ولم توافق الناشرة رنا إدريس كشف من الذي يقوم بدور المحرر في دارالآداب مكتفية بالقول المحرر يتغير باستمرار وسياسة الدار تقوم على رفض الإعلان عن اسمه أو حتى اسم لجنة القراءة.. وكذلك لا نكشف للجنة القراءة عن اسم المؤلف ولا بلده حتى.
وتواصل رنا إدريس حديثها بالقول مسألة المحرر الأدبي أيضا مكلفة جدا، ولذلك لا نستطيع في العام الواحد إصدار أكثر من 30 رواية فقط.. وهذا في حد ذاته أمر جيد من حيث عدم الاسراف في النشر دون تدقيق ولذلك يعتبر البعض أن مجرد الموافقة على النشر في دار الآداب يعتبر فوز في حد ذاته.
إضافة تكلفة المحرر إلى تكلفة الكتاب ترفع سعره كثيرا في وقت تبدو فيه الأسعار محروقة جدا والوضع الاقتصادي سيء جدا.
وتختتم رنا حديثها بالقول نحن ندفع تكلفة قراءة 400 مخطوط في العام الواحد ولكنا ننشر فقط 40 وهذه تكلفة مضافة من يتحملها؟!!
نعدل علامات الترقيم
من جانبها لا تتحدث أمينة أحمد من دار الفارابي عن محرر أدبي وتقول لم نصل إلى هذه الدرجة من التعامع ما يصلنا من مخطوطات كتب.. نحن نقوم فقط بالتصحيح اللغوي وأحيانا نقوم بتحرير الكتاب من حيث علامات الترقيم ومن حيث أيضا بعض الألفاظ التي نرفض نشرها أو بعض المواضيع التي تمس العادات والتقاليد والقيم التي لا نقبل المساس بها.
ولا تبدو أمينة تعرف دور المحرر الأدبي فعندما سألتها عن النصوص التي تحتاج أحيانا إلى إعادة تحرير ترد باستغراب: أبدا أبدا نحن لا نمس النصوص ولا مساراتها ولا نتدخل فيها ونصلح اللغة وما يمس القيم كما أخبرتك.
وحول ما إذا كان الموضوع عائد إلى تعامل المؤلف الذي يرفض التعامل مع نصه تقول أمينة نحن دورنا تنظيف الكتابة! أما طريقة الكتابة فإذا لم يكتب الكاتب يتقنها نقول له إذهب للمدرسة لتتعلم!
نتناقش مع الكتاب
ومن الفارابي إلى دار التنوير حيث تحدثنا من وائل عبيد الذي بدا مدركا لدور المحرر الأدبي كفكرة ولكن لا يبدو أن الدار تطبق الفكرة بشكلها الحقيقي.
يقول وائل إن عمر دار التنوير فقط خمس سنوات وهي تتعامل مع الكتب الفلسفية وكذلك الروايات الفلسفية بشكل خاص. ونقوم كفريق، والحديث ما زال لوائل عبيد، بالتعامل مع النص وقراءته ويقول المدير حسن ياغي بدور التحرير. لكن وائل يستدرك بالقول الذي نصادفه أحيانا هو اختلاف في وجهات النظر وينقول بالتوافق حولها.
ووائل يقول إن بعض الكتاب لا يتقبلون الفكرة ونحاول عبر الحوار والأقناع من الوصول إلى حل وسط وافهام صاحب الكتاب أن دور المحرر الأدبي دور مهم ويزيد من جمال الكتاب ومن رشاقة الكتابة نفسها. وحول ما إذا كانت دار النشر تعتذر للكاتب الذي يرفض المساس بنصه يقول: لا. لا نعتذر أبدا.. متفهما أن ثقافة المحرر الأدبي غير موجودة أصلا في العالم العربي.