بقلب: مسعود الحمداني -
كأنه الظلام الأخير.. يأتي الموت بغتة، كما تأتي بنا الحياة بغتة، نخرج إلى الدنيا ونحن نبكي، ونغادرها ونحن من يُبكى علينا..نأتي كماء، ونرحل كسراب..
أراقب خطوات الظل، أدفع بعربة الموت أمامي، أرحل كنجمة أدهشها الفناء، ذهبت إلى غير رجعة، ينتظرها بدويٌّ عجوز على ناصية الصحراء، أنا الذي أرهقته سرعةُ الأيام، وبكته صواريُ الألم، مرعبٌ هذا المكان، وموحشٌ حد القبر، لا يملك في يده غير العتمة والخواء..
كان هنا..يرتب أحلامه، ويرسم في الهواء خطوته القادمة، يرسل ضوء الحكايات إلى منتهاها، ليبدأ مغامرة جديدة، بمركب خشبي يبحر به في موج لجيّ لا قرار له..كان هنا يتفقد حلمه، ويداعب خصلات السنين التي تركها خلفه.
سالم بهوان.. أيها الصديق الذي رحل باكرا، دون أن يودعنا، لقد خدعنا الموت، لم يرسل إشاراته المعهودة إلى طريدته، اختطفه بغتة من على شجرة الغيم، وطار به بعيدا بعيدا نحو السماء السابعة، حيث الأرواح في قبضة الرحمن، وحيث تنام الملائكة، ويلعب الصغار الراحلون في حديقة الأبدية.
بأي جناح كنتَ ترفرف يا صديقي نحو الزرقة العُليا؟.. بأي عالم وضعت جسدك ورحلت؟.. وكيف رأيت الغيب؟.. وكيف وجدت الرب؟.. لا شك أنه رحيم بالطيبين أمثالك.. سافرت نحو الحياة، وتركت خلفك أثرك.. فلا تبتئس.. أنت الآن في ملكوت أفضل، وحولك أصحاب أجمل.
أتذكر لقاءنا الأول، وضحكتك التي ما كنت تخفيها، وعالمك المفتوح ككتاب واضح المعنى، بسيط، وغير متكلّف، أو مراوغ، وقابل للقراءة في كل وقت، هكذا عرفتك، وهكذا احتفظتَ بصورتك وخصالك في أحلك الظروف، لم تتغيّر يوما، تماما كمرج الذهب الأصيل، الذي يبهرك كلما نظرت إليه، أنت هكذا، أو لنقل أنت أكثر بهاء من ذلك.
عذرا منك يا صديقي، ربما مرت سنوات طويلة لم أعرفك خلالها، رغم قربي منك، ربما أحتاج إلى حديث أخير معك، لأكتشف قلبك بشكل أعمق، أحتاج إلى لقاء أخير معك كي ألتقط صورة أحتفظ بها في ألبومي، فأنا لا أذكر أنه جمعتنا صورة شخصية طيلة هذه السنين.. كيف ذلك.. كيف فاتتني هذه اللقطة؟.. أشعر بأنني أحتاجها هذا الآن.. لعلها ترسل بعضي إليك، أو ترسل بعضك لي.. أحتاجها لأبعث لك دمعة ملأى بملح الحزن رسولا مني إلى روحك.
كنتَ (نوخذة) حقيقيا في سفينة الفن، أفكارك المجنونة تأخذك بعيدا، إلى أقاصي الحلم، والمغامرة، أنا شخصيا أقف أمامها عاجزا، وغير قادر على مجاراتك، ولكنك تثبت في كل مغامرة جديدة أنك قادر على صنع مشروعك دون تردد، وما أن تلقي بمرساتك على الساحل حتى تبحث عن بحر جديد للمغامرة أكثر جنونا، وعمقا، وصخبا، بينما يبحث الآخرون عن الأفكار الجاهزة، والمشاريع الفنية التقليدية.كنت تبحث عن المختلف والمغاير..لم تكن تاجرا ناجحا، بل كنت عاشقا لما تقوم به.
رحلتَ يا صاحبي وتركت أثرك في القلب، هو الموت الذي لا ينتظر القطار، يسافر بنا إلى حيث لا يعود أحد من رحلته، نكتب الشعر بأدمعنا، ونسوق رحال الأيام أمامنا، ننتبه فجأة من غفلتنا لنسأل: أين ذهب الأحبة؟.. كيف رحلوا دون أن يشعرونا برحيلهم؟.. أوووه.. كم هو مقيت هذا الشعور ومزرٍ، نحتاج إلى بضع دقائق كي نرتب حقائبنا، ونقبّل أصحابنا، ونلقنّهم وصيتنا الأخيرة، فقط بضع دقائق لا أكثر..ولكن ما من غائب يعود، وما من عمر يرجع، فالرحلة لا تتوقف، والمحطة التالية ملأى بالركاب الذين لا نعرف وجوههم، ولكنهم سيرافقوننا في غيبتنا الأبدية..دون رغبة منا، ولا منهم.
يقول زوربا المتعطش للحياة: (هناك ممران متساويان قد يؤديان إلى القمة نفسها، أن تعمل كأن الموت غير موجود، وأن تعمل متوقعا الموت في أية لحظة).. وهكذا كانت حياتك يا صديقي سريعة في رتمها، وكأنك تسابق زمنا لا يتسع لأمثالك، تبحث عن المتعة في الفن، ولا يهدأ بالك أبدا إلا بإبحار جديد نحو المجهول، تسير كنيزك يهوي نحو حتفه، لا تتوقف عن الهرولة، وتحريك المياه الراكدة، تدفع الريح شراعك نحو العمل، وتسبقك أفكارك لتصنع من التراب تبرا لمشاريعك الفنية المتلاحقة التي لا تكاد تتوقف، ضحيتَ بالكثير من أجل الفن، وعاندت الكثيرين لأجله، وتخلى عنك الكثيرون بسببه، ولكنك وقفت كالطود لا تهتز، أو تتزحزح عن عشقك، ومضيت في حلمك، رغم كل العواصف العاتية، لأنك عاشق حقيقي لفنك، وفيّ ومخلص لهذا الكائن،- ولأنك مستقل بحياتك ورأيك- صنعت نفسك بنفسك، وبموهبتك، وكنت تمسك بتلابيب فنك حتى رمقك الأخير.. هكذا كنت دائما عنيدا حد الإبداع.
مرت سنوات وأنت تتشبث بحلمك، أن تصنع قاربك بنفسك، وأن تبحر فيه دون أن تكترث للعاصفة، صنعت مشروعك، ومضيت في طريق لم يطرقه أحد قبلك، تقمصت دور الغريب، والمجنون، والبدوي، والجبّالي، والتاجر، ومحقق الشرطة، والأناني، والشرير، والطيب، وعزفت على لهجات الوطن: الشحرية، والكمزارية، والبدوية، ولم تركن إلى الأفكار الجاهزة، صنعت بعض أحلامك في مواقع تصوير لم يطرقها أحد قبلك، صنعت أحلامك في مسقط، وظفار، ومسندم، ورمال الشرقية..وغيرها..وفي كل عمل كنت تثبت فيه أنك مختلف، ومغاير ومغامر ولا سقف لما تحلم به..لم تكترث للنتائج، ومخاطر الفشل المالي بقدر إيمانك بما تقوم به، وتعتقد أنه صحيح.
في مجلس السيد علي بن حمود كنت أحد النجوم الذين ينيرون المكان بضحكاتهم، تبث روح الدعابة، وتنثر عبق الكلام على الحاضرين، وتشيع الابتسامة في من حولك، وتطرح ما تريد بلغة واضحة، وبسيطة، وغير قابلة للتأويل..فأنت صريح وواضح، ومواجه دون أن تغرز نصال الكره في قلبك..مكانك سيكون شاغرا لا يملأه غيرك، سيفتقدك المجلس يا صديقي..ستفتقدك أرواح أصدقائك، ومحبيك، ومعجبيك، سيفتقدك الذين يعرفونك عن قرب، ولكن تأكد بأتك لن تبتعد كثيرا عن قلوبهم.
مرت شهور طويلة لم نلتقِ، ربما لأنك كنت منهمكا في عمل لا ينقطع، وربما لأن الحياة السريعة تفرض علينا رتمها المزعج، فيبتعد الأصدقاء، وتقل الزيارات، وتنقطع سبل اللقاءات، ولا نصنع نحن الفرصة لموعد عابر، لذلك أصبحت كل حياتنا مشاريع مؤجلة تماما كلحظات سعادتنا..
لقاؤنا الأخير قبل أسبوعين من رحيلك، كنت تتحدث عن حلم جديد، أن تفتتح (مشروعا) صغيرا في ولاية صور، به خدمات مميزة ذات طابع تقليدي، يجذب الزوار، ويكون استراحة لأهالي الولاية، كنت تتحدث عن هذا المشروع وكأنه الحلم الأخير،.. بالمصادفة التقيتَ بصديقٍ قديم من أيام دراستك الأولى في مدينة العين، تبادلتما أطراف الحديث، وكيف كانت رحلتكما للدراسة، وكيف تم (تهريبك)، واستخراج جواز سفر يحمل سنة ميلاد أكبر مما أنت عليه لضمان خروجك من البلد، (يبدو أن المغامرة هي رفيقة دربك منذ صغرك).. كنتُ مستمتعا بحديث ذكرياتكما..لم تلتقيا طيلة أكثر من أربعين عاما ثم تلتقيان فجأة.. كم هي صغيرة هذه القرية.
يوم رحيلك.. أرسلتَ رسالتك الأخيرة لي، حوالي الثانية والنصف ظهرا، أجلّتُ قراءتها إلى وقت فراغ، أعود الآن لقراءتها، ربما لأنها كانت آخر هداياك، كم هو موجع هذا الشعور، حين يلتفت المرء فلا يجد غير الخواء، ويجد أن أصحابه ,وأحبابه غادروه إلى حيث لا عودة، ولم يتركوا وراءهم غير ما يسد رمق الذاكرة، ويبلّغ القلب رحلته..كان الخبر صاعقا، لعلها إشاعة كما هي العادة، تيقنتُ أخيرا أن طارق الموت أتى.. وأن بابا آخر نحو الحب والحياة يسد دون مقدمات.
من التراب وإلى التراب نعود..هكذا هي الرحلة التي تخطف أحلامنا دون أن نكمل الفصل الأخير منها، هكذا هم الملائكة يرحلون صغارا، حيث السماء تنتظر أرواحهم النقية، نعود إلى الحياة بعد كل فقد، وبعد أن نسدل ستار الموت.. بانتظار موتٍ آخر.. قد نكون نحن طريدته القادمة.
لن تقرأ يا صديقي هذه الرسالة.. وأنا أعجز عن كتابة كل شيء عنك، لأنك أكبر من أن تحتويك بعض الأسطر القليلة في حقك، رسالة سيقرأها غيرك لأجلك..أولئك الذين انتظروا مجيئك دون أن تأتي..رحلتَ دون وداع، ودون عتاب، ودون كلام.
إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا على فراقك يا أبا حمد لمحزونون.. ولا نقول إلا (إنا لله وإنا إليه راجعون).. رحم الله سالم بهوان رحمة واسعة وتغمده بواسع رحمته وأدخله الفردوس الأعلى، وألهم أهله وذويه ومحبيه الصبر والسلوان..آمين
(الفاتحة)