أحمد ضياء/ كاتب من العراق -
لا تستكين الرحلة في نصوص الشاعر العراقي أيوب الشريفي نحو هدف معين، بل نجدها منغمسة في شروع مختلف لموجة مؤتلفة تدخل في لججها انصياعات لعبية لا حصر لها عبر سلسلة متناغمة رغم انفراديتها وفق جانبتها المتضادة وهو بهذا أنما يكور له سستما من الأنساق الثقافية لثيمة (الأم) ولما تحمله هذه الإيقونة المهمة في نشأة الفرد تجد لها خطابا مغايرا في نص أيوب العبد المضطهد المستكين لمحور غير عرضي.
المخبوء والمفتضح في هذا الشاعر ينطلق منذ الاسم الذي تكلل به وهو في المهد إذ جاء تحت ذريعة أيوب هذا العبد الصابر الذي تتكالب عليه المواقف الحياتية وتستأنس في جسده غير أن شاعرنا هنا لم يستأنس الألم في جسده بل تموضع وأخذ له مكانا آخر خارج المؤلف لأنه ضمن الخزين الذاكراتي (الصوري) التشوفي ذي الأثر الوضاح الخصب، فالألم الفكري / الإبستمولوجي هو أشد أنواع العذابات التي يقف أمامها الإنسان وربما يظل حائرا أمام الكثير من تداعياتها وتمرحلاتها المختلفة، فيتأتى الفعل العياني من الواقع محققا بذلك اللهفة إلى كلام الأم الحبيبة ذات الحضور المهين في النص وهنا تأخذ رداء القصيدة وتضعها على سترها ذي القوام الشاحب النحيل المتآكل بسبب أرغف الزمن المرة الجائرة عليه، ولزرقة المشهد وتمظهرات البيذاتية يجيء الترذيذ مستأسدا على الفحولة النصية متيحا علما أكثر إيقانا بالمعين البياني الإشهاري المطروح من قبل الشاعر ولا ريب في أن هذا التبلور المفرداتي أسس ميقاتا غيابيا آخر لأن الفضاء بكل تداعياته أكد حضوره التفاعلي بواجهات الصفحة الزرقاء (الفيس بوك) معبرا بذلك عن اعتكافه الدلالي والإيقوني لمرموزته العامة الأم.
أمي
لا تعرفُ شيئا عن الولادة القيصرية
لا تعرفُ
أن الصراخ قليل هناك
وأنهن يلدنَ وهنَّ نائمات..
لا تقف الأم عند منحى ايستطيقي واحد في البيانات النصية / الشعرية بل إن تحولاته جاءت ضمن أوليات كثيرة ابتداءً من الخطاب الأسطوري المعادل النظير وليس انتهاءً بهذا النص الكاشف للأثر الترويضي العام بين ما هو سالف وما هو آني مطروح على النضيدة الإلكترونية.
الاستئساد النصي المتكون في الخطاب العام (لأيوب) الحزين الذي يبحثُ عن الأمومة وسط مويجات من التدثر الاكتئابي، إذ به يحاول أن يؤكد العلائق الأساسية للهم الشكوكي المتأتي بالمحور الولادي وما به من تداعيات عامة أنتجها الإيغال والحفر بالماضي ليعرف سبب مجيئه لعلم ملؤه اصطراعات كبيرة مغمسة بالألم.
هناك ..
لا يعرفن أمي جيدا،
لا يعرفن
بأنها تلد بشكلٍ مختلف
من مكان مختلف
يستفحل الشاعر في مواطن كثيرة وهو ينقلنا من حالة أو مخاض كتابي إلى آخر شاعر، ان الحالة المفاهيمية يجب التركيز عليها عبر تلافيف النص وانصياعته المتكدة ضمن عقلية متداعية تكاد الطروحات الشعرية / الريطورية تأخذ ملامح أساسية تتعلق بالحانوت الشعري وأقصد به كيفية تتلاقح المنتوج الحياتي مع الوعي الفكري وهذا الخزين العياني / التشويفي من شأنه يكوّن استعمالا أساسيا ضمن التنصيص العام للشطر بكل محمولاته الصورية ذات الجانب المَقتي (الحزين) الأهيف.
أمي الوحيدة تلدُ من عينها
ولدتْ أخي الشهيد دمعة دمعة
أطعمته العويل ليلا
لهذا كبر سريعا
هو الآن:
لا يتحرك
لا يتكلم
لا ساقين له ليذهب معنا إلى المدرسة
فقط
يتسلق وجهها وينمو على هيئة تجاعيد...
وسط لُجة مختلفة من الخطابات يكاد الموقف الأمومي لدي أيوب يختلف إنصهاره وتداعيه عبر الكثير من التداعيات ربّما جاء هذا الأمر نتيجة للأثر العام الذي يتركه الرّحيل وأجد عقدة النقص أو البذار النستلوجي ثيمة أساسية ضمن الاستكانة العامة مما يولد لديه جغرافية أمومية تغطي المنتج العام له وهذا الهاضم المتتالي للنصوص يجسد أنها عبارة عن نص واحد جرى إدراجه في حلبة نزال / صراع بين كتلتين رئيسيتين على أن يكون الترغيب فيهما ضمن جملة من الطروحات المخيالية للنص المخيالي المتدفق من المتن الكتابي هذا. الآن أتركك عزيزي القارئ مع بعض من نصوص الشاعر أيوب الذي تكلل الألم به كما العبد الأسطوري المتعارف بالأذهان العربية.
احتراب
أعرفُ طفلا أخرس
كلما وجد ترابا يحفر حفرة
حفرة صغيرة
ثم يغطيها بالتراب من جديد
كان يؤمن بأن الأم شجرة
وأن لأمه جذورا تمتد من المقبرة إلى البيت.
.......
أعرف أشياءً عن أمي
وعن الله أيضا
أعرف أنَّ أمي تحب النهر كثيرا
وإنَّ الله
كلما عكس الماء وجهها يخلق سمكة صغيرة
يا أمي
أمر واحد لا أعرفه الآن
كيف لي أن أقود النهر إلى قبركِ
........
أعرفُ ساقا لجندي
رغم أنها مقطوعة
بقيت على قيد الحياة
ثم ماتت فجأة في المشفى
كان قد قتلها أحد الأطباء
حين تحدث عن الأطراف الصناعية.
.......
ماذا يفعل الله بدموع الأمهات
ربما يحولها إلى أنهار إضافية في الجنة.
.......
يا أمي أنا حزين
مثل طائر خرج من البيضة بجناح واحد.
.......
علينا تقشير الطلاء التالف عن قلب هذا الكوكب
لكن الأمر متعب
صور الجنود وأسماء الشهداء
تلتصق بالجدران
الطفلة التي سقطت في انفجار السوق الأخير
كلما بكت أمها في باحة المنزل
زادت صورتها التصاقا بالجدار
......
بهيئة الشيب
يعود الشهداء سريعا لأمهاتهم.
.....
كل شيءٍ يولدُ صغيرا ثم يكبرُ
إلا تلكَ الحفرُ العمياءُ التي تنجبُها الانفجارات
بعد الانفجارِ:
كنّا نقومُ بعمليةِ تجميلٍ خجولةٍ لوجهِ الأرض
ذلك النجارُ لم يفعلْ شيئا
اكتفى بـشراءِ شجرةِ برتقالٍ
شجرةٌ صغيرةٌ
كـاعتذارٍ منهُ لأرضِ الانفجار
بعد عشرةِ أعوامٍ كبُرتْ الشجرةُ
مع أصبعٍ لطفلٍ مفقود
أصبعُ الطفلِ كبُرَ أيضا أصبحَ يدا
اليدُ التي تقشرُ البرتقالَ الآن لأولادِ النجار.