طارق إمام -
إلى أي مدى يمكن رصد تحوّلات القصيدة العربية كصيرورة متصلة، وهي القصيدة التي احتفت بالقطيعة بأكثر مما نزعت للاتصال في حلقات كثيرة، كانت قطيعة بعضها مع سابقاتها (والعكس) راديكالية حد إنكار شعريتها نفسها. وهل من أداة نقدية يمكن عبرها تحقيق قراءة شمولية وفق منهج بعينه لديه هذه القدرة «المسحية» القادرة على رصد مشهد شديد الاتساع والتراوح بعين طائر؟ وهل بات سؤال «التقييم» فعلاً بائداً لا يلائم الناقد الحديث لصالح «التحليل» أم أن إعادة القراءة تنطوي بالضرورة على انحياز حتى لو كان صاحبه هو الناقد نفسه؟ أسئلة عديدة يثيرها الكتاب الأحدث للناقد الكبير جابر عصفور «تحولات شعرية»، والذي صدر قبل أيام عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة.
اختار عصفور خطة «زمنية» تقرأ القصيدة العربية من البارودي لمحمود درويش في تعاقبيتها، والكتاب نفسه، في قدر منه، هو تفكيك وإعادة ترتيب لكتاب سابق لعصفور، أي أنه يتوفر على عنصرين: المراجعة الذاتية والمراجعة الموضوعية، وهو ما أوجزه عصفور في توطئة افتتاحية: «صدر جزء كبير من هذا الكتاب في طبعة أولية، تحت عنوان «ذاكرة للشعر». ولكني أعدت كتابتها في ضوء خطة جديدة تبدأ، زمنياً، من القرن التاسع عشر، حيث البارودي، وتنتهي في زمننا الراهن، حيث حداثة محمود درويش التي هي الذروة الإبداعية لحداثة الستينيات التي استمرت إلى اليوم الذي فقدناه فيه».
حسب عصفور، فإن حركة «الذاكرة النقدية» حركة منحازة، وهو يبرر ذلك قائلاً: «هذه الذاكرة لا تستبقي إلا ما سبق أن أثارها في هذه اللحظة أو تلك من لحظات تاريخها المتعاقب، ولا تسترجع إلاّ ما يتجسّد دالاً دالاً في وعيها نتيجة فعل الاستعادة، ولا تتوقف إلّا على ما ترى فيه علامة مائزة- أو علامات دالة- في مجال عملها. ولذلك فهي لا تتحرك من حاضرها إلى ماضيها إلا نتيجة ما ينجذب من مخزون هذا الماضي إلى مواقف الحاضر أو أحداثه، أو يستجيب أكثر من غيره إلى متغيرات الحاضر الفكرية أو مستجداته النقدية».
يلح عصفور على سؤال «الذاكرة»، وهو ما سيلمحه القارئ في كافة حلقات الكتاب، ليخلص إلى أن «الشعر في تعاقبه الزمني عالم كامل من التحولات المتتابعة التي تقترن، أو تستجيب إلى التحولات التي تستوعبها الذاكرة في كل أحوالها المتباينة، فالخيال _ الذاكرة هو صور الواقع أو الحياة بعد تصفيتها ووضع مدركاتها في علاقات مجازية وإيقاعية جديدة. وإذا كان هذا الفهم يؤكد علاقة الإبداع الشعري بمخيلة صاحبه ونوعيتها، من حيث هي مخيلة استعادية أو استرجاعية أو ابتكارية متعددة الأحوال والدرجات، فإنه يؤدي في الوقت نفسه إلى وصل الشعر بالحياة التي تستوعبها الذاكرة أو يلتقطها الخيال فيصوغها في علاقات جديدة هي موازيات إبداعية للواقع والحياة».
الخيال والذاكرة، وفق عصفور، صنوان، فكلاهما فعل استدعاء لخبرة وجدت غير أنها بالقدر نفسه غير موجودة. وإذا كان الخيال هو استباق، يمثل اتصالاً مع المستقبل (غير الموجود) فإن الذاكرة هي استرجاع ماضوي لخبرة لم تعد موجودة أيضاً.
ربما كان «التناص» أحد المفاتيح الرئيسية التي استخدمها عصفور، بذكاء، في قراءته للمشهد الواسع. فالتناص من جهة يحيل مباشرةً لسؤال «التواصل» و«التواشج»، وهو من ناحية أخرى مؤشر على مدى حياة نص سالف بقدرته على الدخول في نسيج نص لاحق. فضلاً عن أن التناص، وهو العنصر الأهم حين نتحدث عن حياة قصيدة أو موتها، هو آلية «القارئ» نفسه، حتى وإن فعل ذلك بشكل غير واع، لإدخال نص ما ينتمي «للماضي» إلى نصه «الحالي» أو نص «الحاضر»: «هذا القارئ (الذي هو نحن) يضيف حاضره (الذي هو حاضرنا) إلى شبكة التناص التي تستوعب ثقافته المغايرة في أفقها الرحب».
بهذا المعنى، فإن ذاكرة الشعر هي نفسها، في أحد أوجهها الحيوية، ذاكرة القارئ، بوصفه «حضوراً دائماً»، «فالإشارة إلى الحاضر تضعنا نحن قراء هذا الشعر بالضرورة، في حاضرنا الخاص الذي يوازي الحاضر التاريخي الخاص لذلك الشعر الذي لا يؤثِّر فينا إلا بالقدر الذي نؤثِّر فيه. وحين ندخل أنفسنا طرفاً في هذا الحضور الممتد للحاضر، تحقيقاً لمعنى الكتابة التي هي رسالة لا تنتهي أبداً عند زمن بعينه، فإننا نؤكد دور القارئ الذي ترتسم فيه كل الاقتباسات التي تتألف منها الكتابة دون أن يضيع أي منها أو يتبدد».
وفق هذه «المفاتيح»، يتحرك عصفور في اتجاهين يتواشجان في هذا الكتاب: واحد «رصدي» يقرأ كل تيار في مقولاته الرئيسية ومفاصله الجمالية العامة، والآخر «تحليلي» يقف عند نقطة ما ليعمقها، سواء كانت «ثيمة» بعينها أو شاعر يستحق وقفة مطولة. يبدأ عصفور من النص الإحيائي، لينتقل إلى مدرسة أبولو والتي اعتبر تمثلاتها «تجليات الوجدان»، قبل أن يعرج على ما أسماه «التوهج الأخير للرومانسية» وهو الفصل الذي ضم مقالين ضافيين (اتكأ أيضاً بوضوح على التجربة الشخصية للناقد) هما: ذكريات عن نازك الملائكة، وذكريات عن نزار قباني، وحيث أفرد عصفور مقالاً خاصاً عن قصيدة قباني «هوامش على دفتر النكسة» مقدماً ما يشبه شهادة سياقية تربط ذلك النص بمجمل سياقات إنتاجه الثقافية والمجتمعية والسياسية.
يتوقف عصفور بعد ذلك عند برزخ «مجاوزة الرومانسية»، في فصل محوري يرصد بعمق التحولات الجذرية التي ستصيب القصيدة العربية، ليتوقف عند عدد من النماذج: عبد الرحمن الشرقاوي، عبد الوهاب البياتي، وأدونيس. ويخلص عصفور إلى أن شاعر هذه المرحلة غيّر من وظيفة الشاعر المتعارف عليها ليقدم صورة جديدة: «ما أقصر المسافة بين نموذج الشاعر سارق النار في هذا التغير والشاعر الرائي_ العرَّاف_ الباحث الأبدي عن وجه الحقيقة التي صارت التجسّد الجديد للثرة الأبدية التي لا تكف عن الولادة الجديدة. إنها المسافة التي أفضت إلى التصوف، لكن ليس على سبيل البحث عن أندلس الأعماق، أو الغوص في قرارة الفرار من التحولات الداخلية للأنا، وإنما على سبيل البحث عن أقنعةٍ مجانسة لتخلّق سارق النار، أقنعة تتيح للشاعر أن يختفي وراء الأوجه المستعارة من الحلاج وعمر الخيام والسهروردي ومحي الدين بن عربي وغيرهم».
من هذا الفصل المحوري يعود عصفور ليفرد ثلاثة فصول لسعدي يوسف وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي، لينهي كتابه بقراءة معمقة في تجربة محمود درويش، شملت وحدها اثني عشر مقالاً موزعة على ثلاثة أقسام: «رؤيا ما قبل النهاية»، أثر الفراشة»، و«ذكريات وتأملات». يرى عصفور في درويش، الذي اختار أن يجعله محطة كتابه الختامية، وخاصةً في «مرحلته الجديدة» والتي بدأت حسب عصفور بـ«لماذا تركتَ الحصان وحيداً» 1995، وانتهت بنص «في حضة الغياب» 2006، يرى «أنه شعر يلفت الانتباه إلى حضوره الذاتي، قبل أن تُجاوزه العين إلى ما يقع وراءه من مشاهد، أو يشير إليه من وقائع وأحداث، فهو شعر وعي لا تجتليه العين القارئة إلا في علاقات الدوال التي تجذب بها القصيدة الانتباه إلى حضورها».