تسنيم بنت عبدالرؤوف التوبية -
عيني لم تفارق الساعة، أكذب عيني وأصدق قلبي أنك كما أنت لم تخلفي يوما عهدا معي. أشغل نفسي عمدا في أدق التفاصيل على قارعة الطريق. استوقفني مشهد الأطفال الذين لم تنفث الحياة بعد من سمومها فيهم، يكبرون على عجل، يسابقون الأرض وهي تضاحكهم وتخبي لهم الكثير. انتقل الى هاتفي وانتظر منك تبريرا على تأخيرك! أتمتم في نفسي: أنت التي لم تخوني عهدا معي يوما.. اتفقنا أن نلتقي.. يبدوا أنك تعاقبين إهمالي، يوم أرسلت بإلحاح أنك تودين لقائي، ليتك غفرتي إغفاءة عيني الغير المتعمدة، وحدك تعلمين حجم المشاغل التي لا اعلم إن كنت اسكنها أم تسكنني.
حملت نفسي على ذلك الطريق الطويل يا جيهان، وأرسلت لك وقتها رسالة صوتية: أخبرتك للمرة الألف أني اسفه كثيرا على انشغالي عنك، أخبرتك أني عاتبة عليك، أنا لا أريدك أن تكوني مثلهم، أولئك الذين تركونا وحسموا رحيلهم، ثم يلوموننا إن قلنا لهم وداعا ويدهم الملوحة في السماء سبقت كل شيء.
على طريقي طفلين يتعاركان من منهم سيجلس على الارجوحة، خلف الارجوحة أم تهود جانب الأرجوحة، لعيناها ألف حكاية لا يفقه تفسيرها الصغار، كانت تهودها، بهدوء، وكأنها تحاول تمضية الوقت، وهي تستعيد ألف حدث وحدث، ووحده الله يعلم ما في داخلها، في داخل كل منا قصة لا يعيشها إيانا، تفضح عيناه جزء منها، ولو أن ما في القلوب يرى – فلولا ستر الله لكانت الأرض بما حملت قد ثقلت لهول ما في قلوب الآخرين، كنت أعاهد نفسي دوما أنه لا شأن لي بالتصغير من حجم ألم أحد، وكنت عاهدت نفسي ألا أكون جلادا على أحد.
ما زلت انتظر ردك، تعلمين أني أكره العتاب، تعلمين جيدا يا جيهان أني التي أخبرتك أني سأغلق فيهي عن ألف عتاب، وأني لن أسأل من أخطأ في حقي لما؟ ولن أمسك بيد أحد وأقول له لا ترحل، أخبرتك أني عاهدت نفسي أن أقتل كل شوقي وحنيني، أن أخنقه بالصمت والغياب، أني كلما احتجت من ادار ظهره لي يوما لن أتكلم، الذين خانوا عهودهم، ونقضوا أيمانهم بالبقاء، تعلمين أني اعتزلت محرابي، ورتلت صلوات الوداع عليهم، تعلمين كم سيصدمني أن أضيفك الى تلك القائمة السوداء، فبالله عليك ردي. أم أنك تختبرين صبري!
انتظرتك كثيرا أكثر من شوقي لك، وانتظرتك مطولا أطول من غيابك، انتظرتك عميقا أعمق من صبري لسواك، فلا أنت بي رحيمة، ولا الوقت يمضي فيهديني رؤياك. تزورينني مؤخرا في المنام كثيرا، وأنت تبتسمين، تقولين لي أن أكون قوية وشامخة دوما، تخبرينني أن الحزن لابد أن يهجر مقلتي، وأنك مشتاقة لي بقدر انشغالات التي لا تنتهي فسحقا لها.
عدت لأجلك وركنت كل شيء ورائي، لقد بدأت أؤمن أن لقاء من نحب لا يحتاج إلى ترتيب أوليات، فهم فوق كل الأوليات، فهو ليسوا شيئا، أنهم كل شيء، ربما أدركت ذلك متأخرة لكن ادراكه خير من أن لا أفعل مطلقا، امطريني يا رفيقة، كمزن السماء، احتاجك اكثر من أي وقت مضى، تعلمين أنك اليد التي اتشبت بها بقوة كي ترفعني إن أسقطتني الأقدار على جرفة جبل شاهق، في وادي سحيق.. أحتاجك يا رفيقة كي تدثريني، حينما تطوي الأرض صحائفها عليّ، دون سواي، أليس الأصدقاء هم الوطن، حينما نغترب وسط الأحياء!
عدت إلى المنزل وأنا أرى وجه أمي، تنظر أمي إلي بصمت، أخاف صمت أمي كثيرا، أخشاه، أتحاشى النظر إلى عيناها، حاولت أن أتجاوزها مسرعة إلى غرفتي، لكن يدها سبقتني، بهدوء سحبتني إلى حضنها، هذا الحضن الذي مهما كبرت، فأنا لا اكبر عليه، دسست رأسي في حضنها، لعل ذلك يخفف لوعة الاختناق في قلبي، بل في كلي، أحاول دفع دموعي كي لا تسقط، لكن ذلك كان أكبر من قدرتي على الاحتمال، بكيت وأخبرتها: سئمت الانتظار.. مرت خمس عقود وجيهان لا ترد.. لقد وعدتني أننا سنلتقي، أنها تعاقب انشغالي، تعاقب انشغالي الغير متعمد عنها، تعاقب غفوتي حينما لم أرد عليها، لقد غفوت لدقائق، فلم لا تغفر لي أمي؟!
تضع يدها على قلبي وتسمي عليّ تخبرني أن جيهان نائمة، ولن تستيقظ، أنها لم تتعمد أن تخلف عهدها باللقاء، لكن الأموات لا يعودون، هم فقط بكرم الله يزورننا في أحلامنا كلما اشتقنا لهم، ونزورهم بدعائنا كي نطمئن عليهم!
ما زلت أشتاقك كما لو كنت بعيدة عني تفصلنا حدود المكان، ما زلت أرتل اسمك في قلبي ودعائي، ما زلت أنسى كيف حينما سرقك شبح الشوارع، في ذلك الحادث الأليم، ما زلت أنتظر عودتك، أنا آسفة ان كنت نسيت أنك قد رحلتي، لكن كيف يتذكر من ليس ينساك، من أنت في قلبه ويراك تحتلين كل الوجوه، كل التفاصيل الصغيرة، كيف ينساك من يغص من ذكراك، ويدافع الدموع وهو يبتسم ثم يقهقه عاليا وهم يستذكر لحظات الضحك والجمال معك، يستذكرها فيضحك، حتى تفضحه عيونه فيبكي غيابك وضجيج ذكرياتك في ذات الان. تطوي الأرض صحائفها علي يا جيهان.