نستكمل في هذا الجزء من المقالة ما ابتدأنا به في جزئها الأول والذي تناول محورية السياسة الاجتماعية وهواجسها الرئيسية في سلطنة عُمان، في ظل حالة التحولات الاجتماعية التي يعيشها المجتمع والدولة في سلطنة عُمان، والتي تشكّل بدورها ضغوطًا على أبعاد التركيبة السكانية والثقافية والقيمية بالنسبة للمجتمع، وتتطلب في الآن ذاته برامج وسياسات محددة للتعامل معها، وألفتنا إلى الدور المحوري الذي يتوجب أن تقوم به منظومة الرصد الاجتماعي في سلطنة عُمان؛ وذلك لمراكمة معرفة دقيقة ومنتظمة ودورية حول الحالة الاجتماعية. ولعلنا نبدأ هذه المقالة من جزئية (المعرفة بالمجتمع)، وهي في تقديرنا عنصر أساس لا بد من التنبه إليه ومعالجته في ظل الاتجاه لبناء سياسات اجتماعية فعالة ومتوازنة. ثمة ملاحظة يمكن أن نسجلها كمختصين حيال (المعرفة بالمجتمع)، وهي من واقع البحث والرصد على النحو الآتي:
- المعرفة الأكاديمية: تتمركز في موضوعات محددة، وتغلب عليها البحوث الموجهة لأغراض الشهادات الأكاديمية والنشر الأكاديمي، والمنتج المعرفي الذي يمكن أن يكون صورة متكاملة عن فهم حركة المجتمع يكاد يكون محدودًا جدًا، في الوقت الذي تتوافر منتجات معرفية في حقول أخرى تتصل بالسياق الاجتماعي وخاصة المعرفة التأريخية، والمعرفة الدينية.
- المعرفة المؤسسية (الرسمية): هي موجهة لأغراض استكمال أطر البيانات الرسمية، وتعتمد في غالبها على استقصاء الحالة الاجتماعية لفئات (عينات) محدودة جدًا، والبناء عليها كأحد مدخلات السياسة العامة، ودورية هذه المعرفة غير منتظمة، ولا تشكّل إطارًا موضوعيًّا لفهم الحركة الاجتماعية وبالتالي فهي تقدم فهمًا جزئيًّا للمجتمع، يمكن البناء عليه كمؤشرات عامة.
- المعرفة العامة: تنتج من عموم الباحثين، الكتّاب، المستقلين، المؤسسات المعنية بنشر الثقافة العامة، مؤسسات المجتمع المدني هي معرفة (موضوعاتية) تستغرق في موضوعات طارئة (دون انتظام) أو (موجه عام)، وبالتالي هي مفيدة لفهم القضايا الناشئة، ومحدودة في فهم الحركة الاجتماعية والصيرورات التي يؤول إليها نسق المجتمع في حركته ومتغيراته وتحولاته وما يطرأ عليه.
إذن رهاننا الأول هو معالجة بنية وهياكل (المعرفة بالمجتمع)، وهذه المعالجة تنطلق من خمسة عناصر أساسية: (الإتاحة) وهي أن تضع المؤسسات الرسمية المزيد من البيانات الرسمية لعموم الباحثين ومنتجي المعرفة، بما يمكّنهم من البناء عليها في أبحاثهم ودراساتهم. والعنصر الآخر (التضامنية) وهذه تتشكّل من خلال تجمعات فكرية للباحثين والانتظام في مجموعات بحثية ومعرفية تحمل مشروعًا فكريًّا موجهًا لا مجزأ، ويتشكّل لديها فقه الأولويات والهواجس، دون الاهتمامات الذاتية، والمؤسسية. والعنصر الثالث يعنى بـ(التوجيه)، وهي أن تشتغل المؤسسات الأكاديمية على توجيه أكاديمييها وطلابها لإنتاجه معرفة شمولية ومتكاملة للمجتمع، لا أن تكون منشورات متفرقة، ويقودها هاجس الأكاديميا أكثر من الهاجس الاجتماعي الأساسي، وأن تشكّل المؤسسة الأكاديمية (مدرسة) بالمعنى الفكري في مناقشة وتحليل الظواهر والمتغيرات الاجتماعية، وأن يزيد الاتصال بينها وبين المؤسسة الرسمية لتحديد أولويات البحث والتقصي. أما العنصر الرابع فهو (التوافقية)، وقد دعونا في مقالات سابقة إلى ضرورة (المختبر الاجتماعي) و(السياسة الاجتماعية)، فهما بقدر أهمية السياسات المالية، والسياسات الاقتصادية ووجود اتجاه وتوافق وطني عبر مختبر متكامل يجمع المختصين والمهتمين، ويعنى بتحليل الحالة الاجتماعية، ويخرج بسياسات واضحة، ويتبنّى برامج عمل فعالة (غير فئوية) أو (قطاعية) أصبح اليوم ضرورة قصوى. فالمجتمعات لا تُفهم مجزأة، وإنما تفهم في حالة حركتها وبنائها وتكوينها المتكامل، والسياسات الاجتماعية لا يمكن أن تبنى بشكل فئوي دون أن تكون متكاملة ومتسقة ومتوافقة لتحقيق المقاصد الاجتماعية القصوى. والعنصر الخامس والأخير وهو معني ببناء (الاهتمام) فحراك الباحثين والمؤسسات والمشتغلين بإنتاج المعرفة لا بد أن ينطلق من بناء الاهتمام بالحالة الاجتماعية، ونعتقد أن توجيه القيادة السياسية في أكثر من موضع هو انطلاقة لبناء هذا الاهتمام، غير أنه من المتوجب توسيع المساحات الإعلامية، ومناقشات المجتمع المدني، والمناقشات المحلية، حيال ما يطرأ، وأن تكون هذه المناقشات جادة وتضع المختصين، وصوت العلم، والرأي المحكم في واجهتها، لا أن تكون مناقشات لمجرد المناقشات.
على الجانب الآخر هناك مفرزة أخرى يضعها التحول الراهن إلى اللامركزية، باعتبارها شكلًا أيضًا من أشكال التدبير الاجتماعي، وقد رسخها الإطار التشريعي لقانون المجالس البلدية في اختصاصات تلك المجالس، وتحديدًا في البند الذي يشير إلى دورها في «دراسة القضايا الاجتماعية والظواهر السلبية في المحافظة، واقتراح الحلول المناسبة لها بالتعاون مع الجهات المختصة»، ونعتقد أن هذا الاختصاص يفتح المجال أمام هذه المجالس والمحافظات عمومًا لتبنّي مبادرات وبرامج (مخصصة) تتسق مع طبيعة كل محافظة، وتتلاءم مع خصوصية المجتمع فيها، وذلك لدرء ظهور قضايا، أو مشكلات اجتماعية في المجتمع، وتعزيز التماسك المجتمعي، وتطوير البنى القيمية، والرقابة على أدوار المؤسسات الاجتماعية في تعزيز التوافق الاجتماعي والقيمي، ونرى في هذا المجال مجالًا تنافسيًّا واسعًا، بقدر ما هو ضرورة وطنية ملحّة في الوقت الراهن. ونقترح هنا أن تتبنّى مكاتب المحافظين مجموعات بحثية مركزة، تكون ذراعًا استشارية للمحافظين، وتعنى برصد الظواهر والمشكلات والقضايا الاجتماعية الناشئة، واقتراح التوصيات والسياسات -المحلية- المناسبة للتعامل معها، مع أهمية توسيع نطاق الاستشارة داخل السياق المحلي بالتعاون مع المؤسسات الأكاديمية القائمة فيها.
هذا فيما يتصل بالسياق الذي حددناه للنقاش في هذا الجزء وقد تمحور حول (المعرفة الاجتماعية) بشكل رئيس، ليوصلنا إلى الجزء الثالث والذي سنركز فيه بشكل أساس لمناقشة السياسات المحددة للهواجس الاجتماعية الخمسة التي تطرقنا لها في الجزء الأول من المقالة.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية فـي سلطنة عُمان
- المعرفة الأكاديمية: تتمركز في موضوعات محددة، وتغلب عليها البحوث الموجهة لأغراض الشهادات الأكاديمية والنشر الأكاديمي، والمنتج المعرفي الذي يمكن أن يكون صورة متكاملة عن فهم حركة المجتمع يكاد يكون محدودًا جدًا، في الوقت الذي تتوافر منتجات معرفية في حقول أخرى تتصل بالسياق الاجتماعي وخاصة المعرفة التأريخية، والمعرفة الدينية.
- المعرفة المؤسسية (الرسمية): هي موجهة لأغراض استكمال أطر البيانات الرسمية، وتعتمد في غالبها على استقصاء الحالة الاجتماعية لفئات (عينات) محدودة جدًا، والبناء عليها كأحد مدخلات السياسة العامة، ودورية هذه المعرفة غير منتظمة، ولا تشكّل إطارًا موضوعيًّا لفهم الحركة الاجتماعية وبالتالي فهي تقدم فهمًا جزئيًّا للمجتمع، يمكن البناء عليه كمؤشرات عامة.
- المعرفة العامة: تنتج من عموم الباحثين، الكتّاب، المستقلين، المؤسسات المعنية بنشر الثقافة العامة، مؤسسات المجتمع المدني هي معرفة (موضوعاتية) تستغرق في موضوعات طارئة (دون انتظام) أو (موجه عام)، وبالتالي هي مفيدة لفهم القضايا الناشئة، ومحدودة في فهم الحركة الاجتماعية والصيرورات التي يؤول إليها نسق المجتمع في حركته ومتغيراته وتحولاته وما يطرأ عليه.
إذن رهاننا الأول هو معالجة بنية وهياكل (المعرفة بالمجتمع)، وهذه المعالجة تنطلق من خمسة عناصر أساسية: (الإتاحة) وهي أن تضع المؤسسات الرسمية المزيد من البيانات الرسمية لعموم الباحثين ومنتجي المعرفة، بما يمكّنهم من البناء عليها في أبحاثهم ودراساتهم. والعنصر الآخر (التضامنية) وهذه تتشكّل من خلال تجمعات فكرية للباحثين والانتظام في مجموعات بحثية ومعرفية تحمل مشروعًا فكريًّا موجهًا لا مجزأ، ويتشكّل لديها فقه الأولويات والهواجس، دون الاهتمامات الذاتية، والمؤسسية. والعنصر الثالث يعنى بـ(التوجيه)، وهي أن تشتغل المؤسسات الأكاديمية على توجيه أكاديمييها وطلابها لإنتاجه معرفة شمولية ومتكاملة للمجتمع، لا أن تكون منشورات متفرقة، ويقودها هاجس الأكاديميا أكثر من الهاجس الاجتماعي الأساسي، وأن تشكّل المؤسسة الأكاديمية (مدرسة) بالمعنى الفكري في مناقشة وتحليل الظواهر والمتغيرات الاجتماعية، وأن يزيد الاتصال بينها وبين المؤسسة الرسمية لتحديد أولويات البحث والتقصي. أما العنصر الرابع فهو (التوافقية)، وقد دعونا في مقالات سابقة إلى ضرورة (المختبر الاجتماعي) و(السياسة الاجتماعية)، فهما بقدر أهمية السياسات المالية، والسياسات الاقتصادية ووجود اتجاه وتوافق وطني عبر مختبر متكامل يجمع المختصين والمهتمين، ويعنى بتحليل الحالة الاجتماعية، ويخرج بسياسات واضحة، ويتبنّى برامج عمل فعالة (غير فئوية) أو (قطاعية) أصبح اليوم ضرورة قصوى. فالمجتمعات لا تُفهم مجزأة، وإنما تفهم في حالة حركتها وبنائها وتكوينها المتكامل، والسياسات الاجتماعية لا يمكن أن تبنى بشكل فئوي دون أن تكون متكاملة ومتسقة ومتوافقة لتحقيق المقاصد الاجتماعية القصوى. والعنصر الخامس والأخير وهو معني ببناء (الاهتمام) فحراك الباحثين والمؤسسات والمشتغلين بإنتاج المعرفة لا بد أن ينطلق من بناء الاهتمام بالحالة الاجتماعية، ونعتقد أن توجيه القيادة السياسية في أكثر من موضع هو انطلاقة لبناء هذا الاهتمام، غير أنه من المتوجب توسيع المساحات الإعلامية، ومناقشات المجتمع المدني، والمناقشات المحلية، حيال ما يطرأ، وأن تكون هذه المناقشات جادة وتضع المختصين، وصوت العلم، والرأي المحكم في واجهتها، لا أن تكون مناقشات لمجرد المناقشات.
على الجانب الآخر هناك مفرزة أخرى يضعها التحول الراهن إلى اللامركزية، باعتبارها شكلًا أيضًا من أشكال التدبير الاجتماعي، وقد رسخها الإطار التشريعي لقانون المجالس البلدية في اختصاصات تلك المجالس، وتحديدًا في البند الذي يشير إلى دورها في «دراسة القضايا الاجتماعية والظواهر السلبية في المحافظة، واقتراح الحلول المناسبة لها بالتعاون مع الجهات المختصة»، ونعتقد أن هذا الاختصاص يفتح المجال أمام هذه المجالس والمحافظات عمومًا لتبنّي مبادرات وبرامج (مخصصة) تتسق مع طبيعة كل محافظة، وتتلاءم مع خصوصية المجتمع فيها، وذلك لدرء ظهور قضايا، أو مشكلات اجتماعية في المجتمع، وتعزيز التماسك المجتمعي، وتطوير البنى القيمية، والرقابة على أدوار المؤسسات الاجتماعية في تعزيز التوافق الاجتماعي والقيمي، ونرى في هذا المجال مجالًا تنافسيًّا واسعًا، بقدر ما هو ضرورة وطنية ملحّة في الوقت الراهن. ونقترح هنا أن تتبنّى مكاتب المحافظين مجموعات بحثية مركزة، تكون ذراعًا استشارية للمحافظين، وتعنى برصد الظواهر والمشكلات والقضايا الاجتماعية الناشئة، واقتراح التوصيات والسياسات -المحلية- المناسبة للتعامل معها، مع أهمية توسيع نطاق الاستشارة داخل السياق المحلي بالتعاون مع المؤسسات الأكاديمية القائمة فيها.
هذا فيما يتصل بالسياق الذي حددناه للنقاش في هذا الجزء وقد تمحور حول (المعرفة الاجتماعية) بشكل رئيس، ليوصلنا إلى الجزء الثالث والذي سنركز فيه بشكل أساس لمناقشة السياسات المحددة للهواجس الاجتماعية الخمسة التي تطرقنا لها في الجزء الأول من المقالة.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية فـي سلطنة عُمان