نحن اليوم أوعى من أي وقت مضى بمدى بشاعة نموذج العالم الذي ترعاه أوروبا وأمريكا والمبني على الهيمنة خارج حدود الدولة، والتدخل في سياسات وشؤون عالم الجنوب، التعامل مع المنظمات الدولية بازدواجية، عدم الخجل والتردد في إفسادها، واستخدامها - متى تأتى لها - كأدوات تبرير للوحشية العنصرية، وتطوير نوع من الخطاب الهرائي الذي يدّعي الموضوعية، ويستخدم موضوعيته هذه للكيل بمكيالين، حجب الحقائق، التهرب من المسؤولية، والنفاق. يتجلى هذا بوضوح مع إصدار مذكرات الاعتقال بحق نتنياهو وجالانت. ففيما رُحب بالخطوة نفسها حين كانت ضد بوتين، شُكك بشرعيتها حين كانت ضد إسرائيل. هذا بجانب الضغط ومحاولات تشويه السمعة التي التي تتعرض لها المحكمة الجنائية الدولية منذ إعلان ذلك.
نماذج الأنظمة السياسية المقابلة والمعادية لهذا النمط تخذلنا كل مرة، وتكشف لنا أنها ليست أقل وحشية من نقيضها الشمالي. كما هو الحال مع النظام السوري.
أمام الافتقار لنموذج يُمكن أن يستشهد به، لا يكون أمامنا إلا الرجوع للمُثل. فنسأل مثلاً: ماذا ينتج عن تحقق نظام الهيمنة الرأسمالي النموذجي، وماذا ينتج عن النظام الاشتراكي النموذجي؟
لكن إذا ما أنتجت أفضل المُثل أسوأ التطبيقات (كأن تولد ديكتاتوريات فاشية من الشيوعية أو الاشتراكية)، فهي لا تبقي لنا سببا للدفاع عنها. معاداتنا للهيمنة الأمريكية ورفضنا للتغريب، ورغم أنها مبدأ مهم من مبادئنا، لا يجب أن تكون قيمة في حد ذاتها. صحيح أنه ليس لسوريا معاملات مع صندوق النقد الدولي منذ عام 1984، وهو ما يُشار إليه للتدليل على القوة والاستقلال، لكن أثر هذا على التنمية ورفاه الشعب كان كارثيا، وكان الأسد غير قادر على احتواء الزيادة السكانية والبطالة المتصاعدة، فبحلول 2011 كان 40٪ من الشعب يسكنون العشوائيات. في ظل حكم عائلة الأسد، تحولت سوريا من نموذج اشتراكي يعتمد على الدولة خلال حكم حافظ الأسد إلى اقتصاد شبه مفتوح مع تولي بشار الأسد السلطة. كان الأسد قد ورث نظام بسياسات اقتصادية اشتراكية، شملت التأميم، الاقتصاد الموجه الذي يتميز بتدخل الدولة، العناية بالأرياف ودعم اقتصاداتها. بشار كان ميالاً أكثر لتشجيع الاستثمار الخاص، والتقليل من تدخل الدولة، والتسليم للنظام الاقتصادي المفتوح، وتقليص سياسات دعم الأرياف. في الحالتين وجد الفساد طريقه إلى النظام. فبينما سيطر المقربون من السلطة على المؤسسات الحكومية، وُزعت الفرص الاستثمارية على أصحاب الشركات الخاصة من المقربين للسلطة.
لا شك أن التدهور الاقتصادي ما قبل 2011 لا يعود للإدارة السيئة وحدها. فُرضت العقوبات على سوريا من قِبل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي منذ العام 1979. سياسة العقوبات غالبا ما تهدف لصناعة حالة من العوز تؤدي في النهاية لمحاولات قلب نظام الحكم. أداة أمريكية خبيثة بآثار مؤلمة ومستنزفة - أثبتت فاعليتها على مر الزمن.
لا يخفى الدعم الخارجي في الأحداث الأخيرة على أحد. أعني أنه من الطبيعي أن تطلب الحركات التحررية الدعم، ولمجرد أنها تمول من جهة ما، لا يعني أنها مجرد أدوات دون برنامج وقرار مستقل بقدر ما. في النهاية، فإن ما جرى هو تسهيل سقوط طاغية، وبهذا المعنى فهو لا يؤلم بقدر تنفيذ انقلاب ضد - لنقل - رئيس منتخب، ذو شعبية، وببرامج إصلاحية. مثالنا المحبب طبعا الانقلاب الذي دبرته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ضد الزعيم التشيلي ذي الخلفية الماركسية سلفادور أليندي في العام 1973، ليحل محله الديكتاتور الجنرال أوغستو بينوشيه.
ما يجعلنا نغض النظر عن ظروف سقوط النظام، والتركيز على حسناته، والتقليل من شأن التدخلات أمام المكسب العظيم لتحرر الشعب بعد صراعهم الطويل، هو كون التدخل ليس بدرجة السفور التي حدثت في العراق مثلاً. فطبيعة الإسقاط عن طريق الغزو، لا تُقارن بدعم كيانات شعبية قائمة (مهما أحببناها أو كرهناها) ولها تجربة عسكرية بل وسياسية أيضا في حكم مناطق المعارضة.
يقول البعض إن المستفيد الأول من سقوط الأسد هو إسرائيل، ويذهبون إلى التكهن بأن لها دورا مهما في سقوط الأسد. لا أظن أن توغل إسرائيل وغاراتها التي لا تتوقف يُخبرنا الكثير عن طبيعة ودرجة ومعنى التنسيق بين الدول المساندة والفاعلة بطريقة ما في إسقاط نظام الأسد. فعلى أي حال، لا غرابة في أن ينتهز هذا الكيان العدائي بطبعة لحظة الضعف التي يمر بها شعب منهك من الحرب، شعب لم يقترب بعد من ترتيب شؤونه الداخلية، ومن الطبيعي أن لا يجعل صناع القرار فتح جبهة صراع - مع واحدة من أكثر الدول تسليحا ووحشية - أولوية لهم.
بين التصديق بأن سقوط الأسد تدبير خططته ونفذته المخابرات المركزية الأمريكية، والقول إنه ناتج عن الحراك الشعبي الخالص، ثمة تعقيدات وظروف جعلت النظام الذي كاد يسقط مرارا يسقطُ أخيرا. ويذهب غير مأسوف عليه، أيًّا تكن المثل والمبادئ التي ينطلق منها. فإن كانت النتائج التي نرجوها عادة من نظام بديل للرأسمالية لم تتحقق للشعب. فما الجدير بالتبجيل في هذه التجربة بعد كل هذا؟
نماذج الأنظمة السياسية المقابلة والمعادية لهذا النمط تخذلنا كل مرة، وتكشف لنا أنها ليست أقل وحشية من نقيضها الشمالي. كما هو الحال مع النظام السوري.
أمام الافتقار لنموذج يُمكن أن يستشهد به، لا يكون أمامنا إلا الرجوع للمُثل. فنسأل مثلاً: ماذا ينتج عن تحقق نظام الهيمنة الرأسمالي النموذجي، وماذا ينتج عن النظام الاشتراكي النموذجي؟
لكن إذا ما أنتجت أفضل المُثل أسوأ التطبيقات (كأن تولد ديكتاتوريات فاشية من الشيوعية أو الاشتراكية)، فهي لا تبقي لنا سببا للدفاع عنها. معاداتنا للهيمنة الأمريكية ورفضنا للتغريب، ورغم أنها مبدأ مهم من مبادئنا، لا يجب أن تكون قيمة في حد ذاتها. صحيح أنه ليس لسوريا معاملات مع صندوق النقد الدولي منذ عام 1984، وهو ما يُشار إليه للتدليل على القوة والاستقلال، لكن أثر هذا على التنمية ورفاه الشعب كان كارثيا، وكان الأسد غير قادر على احتواء الزيادة السكانية والبطالة المتصاعدة، فبحلول 2011 كان 40٪ من الشعب يسكنون العشوائيات. في ظل حكم عائلة الأسد، تحولت سوريا من نموذج اشتراكي يعتمد على الدولة خلال حكم حافظ الأسد إلى اقتصاد شبه مفتوح مع تولي بشار الأسد السلطة. كان الأسد قد ورث نظام بسياسات اقتصادية اشتراكية، شملت التأميم، الاقتصاد الموجه الذي يتميز بتدخل الدولة، العناية بالأرياف ودعم اقتصاداتها. بشار كان ميالاً أكثر لتشجيع الاستثمار الخاص، والتقليل من تدخل الدولة، والتسليم للنظام الاقتصادي المفتوح، وتقليص سياسات دعم الأرياف. في الحالتين وجد الفساد طريقه إلى النظام. فبينما سيطر المقربون من السلطة على المؤسسات الحكومية، وُزعت الفرص الاستثمارية على أصحاب الشركات الخاصة من المقربين للسلطة.
لا شك أن التدهور الاقتصادي ما قبل 2011 لا يعود للإدارة السيئة وحدها. فُرضت العقوبات على سوريا من قِبل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي منذ العام 1979. سياسة العقوبات غالبا ما تهدف لصناعة حالة من العوز تؤدي في النهاية لمحاولات قلب نظام الحكم. أداة أمريكية خبيثة بآثار مؤلمة ومستنزفة - أثبتت فاعليتها على مر الزمن.
لا يخفى الدعم الخارجي في الأحداث الأخيرة على أحد. أعني أنه من الطبيعي أن تطلب الحركات التحررية الدعم، ولمجرد أنها تمول من جهة ما، لا يعني أنها مجرد أدوات دون برنامج وقرار مستقل بقدر ما. في النهاية، فإن ما جرى هو تسهيل سقوط طاغية، وبهذا المعنى فهو لا يؤلم بقدر تنفيذ انقلاب ضد - لنقل - رئيس منتخب، ذو شعبية، وببرامج إصلاحية. مثالنا المحبب طبعا الانقلاب الذي دبرته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ضد الزعيم التشيلي ذي الخلفية الماركسية سلفادور أليندي في العام 1973، ليحل محله الديكتاتور الجنرال أوغستو بينوشيه.
ما يجعلنا نغض النظر عن ظروف سقوط النظام، والتركيز على حسناته، والتقليل من شأن التدخلات أمام المكسب العظيم لتحرر الشعب بعد صراعهم الطويل، هو كون التدخل ليس بدرجة السفور التي حدثت في العراق مثلاً. فطبيعة الإسقاط عن طريق الغزو، لا تُقارن بدعم كيانات شعبية قائمة (مهما أحببناها أو كرهناها) ولها تجربة عسكرية بل وسياسية أيضا في حكم مناطق المعارضة.
يقول البعض إن المستفيد الأول من سقوط الأسد هو إسرائيل، ويذهبون إلى التكهن بأن لها دورا مهما في سقوط الأسد. لا أظن أن توغل إسرائيل وغاراتها التي لا تتوقف يُخبرنا الكثير عن طبيعة ودرجة ومعنى التنسيق بين الدول المساندة والفاعلة بطريقة ما في إسقاط نظام الأسد. فعلى أي حال، لا غرابة في أن ينتهز هذا الكيان العدائي بطبعة لحظة الضعف التي يمر بها شعب منهك من الحرب، شعب لم يقترب بعد من ترتيب شؤونه الداخلية، ومن الطبيعي أن لا يجعل صناع القرار فتح جبهة صراع - مع واحدة من أكثر الدول تسليحا ووحشية - أولوية لهم.
بين التصديق بأن سقوط الأسد تدبير خططته ونفذته المخابرات المركزية الأمريكية، والقول إنه ناتج عن الحراك الشعبي الخالص، ثمة تعقيدات وظروف جعلت النظام الذي كاد يسقط مرارا يسقطُ أخيرا. ويذهب غير مأسوف عليه، أيًّا تكن المثل والمبادئ التي ينطلق منها. فإن كانت النتائج التي نرجوها عادة من نظام بديل للرأسمالية لم تتحقق للشعب. فما الجدير بالتبجيل في هذه التجربة بعد كل هذا؟