منذ أول عهدي بالقراءة، وبالكتابة لاحقا (بالطبع بعد فترة طويلة)، تملكني سؤال دائم، حول الأسباب الغامضة التي تدفع البشر -البالغين وغير البالغين، السعداء أم التعساء- فـي كثير من الأحيان، إلى القراءة (أو عدمها أيضا) والكتابة (أو عدمها بالطبع أيضا).
كانت رؤية الأشخاص المنغمسين فـي نصّ ما، أكانوا يضحكون أم يبكون، أو حتى يبكون من الضحك أثناء القراءة، تثيرني فعلا وتجعلني أتساءل عمّا يمكن له أن يكون -فـي ذلك الأمر- غريبا وأكثر جاذبية؟ أي عالم هو عالم الحروف هذا الذي يتملك الشخص الذي يتردد عليه، ليجذبه بقوة ويجعله ينغمس فـيه إلى درجة أنه لا يعد يرى شيئا حوله؟
فالتساؤل عمّا إذا كان الأدب بمثابة علاج ما، فهذا يعني تساؤلا (شكوكيا!) حول تاريخ حضارتنا وحلقاتها وانعطافاتها، وحتى دينيا (اقرأ باسم ربك الذي خلق...). ربما من هنا، علينا أن نقرأ وأن نعيد قراءة «فـيدر» لــ(أفلاطون) كما الدراسة الجميلة التي خصها له الفـيلسوف الفرنسي جاك دريدا فـي كتابة «صيدلية أفلاطون»، كي نقيس غموض وثراء الأسئلة التي تثيرها الكتابة، والتي وصفها سقراط (الذي لم يكتب، للمفارقة) بــ«الفارماكون». أهي علاج أم سمّ؟ للوهلة الأولى، تتناقض أسطورة تيوت بين الكلمات الحيّة للملك والكلمة المكتوبة، التي فـي نظره ليست ذاكرة حيّة وحاضرة، بل ذكرى. لقد أثار العلاج استياء الملك الذي نوى أن يحرمه من أهليته ليفضل عليها عبارته.
ومع ذلك فقد أثبت التاريخ، بعد أكثر من خمسة وعشرين قرنا، قوة الكلمة المكتوبة. فالكتابة حارسة الذاكرة، وهي أضواؤها كما ترحلاتها، إذ إنها تتبع وتشهد على الأوهام البشرية، على خيالات الناس، على أخطائهم، على تطلعاتهم الباطلة أو المجنونة، على رغباتهم، على معتقداتهم، على أهوائهم، على عواطفهم.
من المثير للفزع أن تمثيلاتهم للعالم تلتقط أحيانًا حقيقة عميقة تتجاوز الزمن لتغذي الأعمال اللاحقة. تشهد الكتابة أيضا على «عبقريتهم»، واكتشافاتهم، ورغبتهم فـي السلطة، وغطرستهم وعدم وعيهم، وتساؤلاتهم التي لا تكلّ وعدم ثقتهم فـي مواجهة اللغة التي، بينما هي تخونهم، تكشفهم لأنفسهم وللآخرين. كذلك نجدها -الكتابة- تقدم أخيرا، وصفا لتجاربهم، ما يسمح للجميع بالتعرف على أنفسهم أو أن يكتشفوها، وأن يواجهوا جهلهم، وأن يرتووا من الفكر الإبداعي، لتغيير أنفسهم ببطء.
الكتابة، مرآة الإنسانية، هي المكان الذي يتم فـيه التعبير عن جميع عائلات الروح وما يسمى عادة بالوعي العالمي وقدرة هذا الوعي على خلق نفسه، والتطور وتغيير العالم وهو يتحدث. فهي تسجل كلّ التقدم البشري، كل التراجعات، كل التردد، كل الأوهام، كل الجنون، كل الإنجازات، كل التحولات، كل شيء كتب هناك. فمن دون كتابة، فـي الواقع، لن تكون هناك حضارة ممكنة، ولا علم ممكن، ولا ذاكرة ممكنة، ولا وعي ممكن بالزمن التاريخي، ولا إمكانية انتقال إلى ما بعد الموت، وبالتالي لا تطور، فربما يكون الشيء الوحيد الذي يميز البشر عن الحيوانات هو هذا الأمر فقط، قدرتهم على التطور مع تطوير وعيهم النقدي من خلال الاتصال بالنصوص والكتابة، خطوة بخطوة، كلمة بكلمة، لأن تقدم هذا الوعي اليائس، يفقد نفسه فـي العدم الذي خرج منه بأعجوبة، بقوة الرغبة وحدها.
الكتاب ينفتح على العالم، والعقل الذي يدخل من النافذة يخلق مساحة يعبر فـيها الصوت. كثيرا ما نقول عن الكاتب أن لديه «فضاء»، «عالما».
ألا يعني هذا أن هناك شيئًا كونيا، ربما، على الأقل؟ فـي الواقع، يجذب النص، من خلال تأثير المرآة الغريبة (إلى حدّ ما)، القراء الذين يتعرفون على أنفسهم فـيه. لديهم شعور بأن هناك من يتحدث معهم عنهم (وهو ما يحبونه أحيانًا، ولكن ليس دائمًا). ثمة خطوة تُتخذ حين ينتقل الكلام إلى الكتابة، ومن ثم إلى النشر. فالكاتب -سواء كان شاعراً أو مفكراً، لا يستبعد أحدهما الآخر- يفضح نفسه ولكنه يخاطب القارئ أيضاً من دون أن يعرف من سيقرأه. إنه يخاطر بشيء لم يكن يعرف عنه شيئًا فـي البداية. قد لا يشكل ذلك كل شيء، فـيما لو أردنا أن نكون صادقين.
لأن الكاتب إذا ما قام بعملية النشر، فذلك أيضًا لأن الأدب بدأ بتعديل حياته. فهو يعلم أن كتابًا واحدًا فقط يمكنه أحيانًا أن يغير الحياة، ويغير النظرة، ويفتح الآفاق، ويحشد الطاقات المجهولة، ويؤثر فـي اتجاه خطوات الإنسان. ربما يريد ببساطة أن يكون هذه القناة التي تمرّ وتعبر باتجاه الآخرين، بطريقته الخاصة. وذلك لأن القراءة، مهما بدت منعزلة، تجلب اللقاءات.
من خلال الهروب من الحياة اليومية، أحيانًا نجد أنفسنا هناك... لنخرج مختلفـين، ومغتنين، ومُنطلقين من جديد فـي طاقتنا الإبداعية.
أعود وأطرح السؤال: هل الأدب (الكتابة) هو علاج أم سمّ؟ قد يثير السؤال مفاجأة ما. من الذي يسمم نفسه من أجل المتعة؟ سنقول المخدرات أيضًا. هل ذلك لكي ننام أم لكي نستيقظ؟ هل لكي نشعر بالاطمئنان؟ بالقلق؟ بالانزعاج؟ لنطرح تساؤلا؟ صحيح أنه لا يوجد علاج حقيقي غير ضار.
الدواء ليس منتجا استهلاكيا. إنه منتج فعّال، يعدل الجسد، ويمكنه أيضًا التأثير على العقل وربما على الجسد، إذ إن كل اللغة جزء منه. حتى أن هناك أدوية تهدف إلى إسكات الانزعاج. ففـي حين أن الإنسانية عاشت قرونًا بدون مضادات الاكتئاب، أصبحت هذه المنتجات جذابة للغاية لدرجة أن الطب المعاصر يستخدمها كما لو أنه سيشفـي مرضاه. هل فعلا هي أدوية للشفاء أم لإسكاتهم عن القول (وربما الكتابة؟).
وعلى العكس من ذلك، هناك أيضًا تخصصات خالية من أي جزئيات نشطة، ولا يمكن التعامل معها إلا باسمها، وهو ما قد يرضي بشكل من الأشكال. لذا هل الأدب دواء وهمي؟ هل أنه الدواء الأكثر فعالية على الإطلاق؟ قد يتوجب علينا لاحقا أن نسأل أنفسنا عمّا يعالجه ومن يعالجه. الكاتب أم القارئ؟ أمن المحتمل أن يجتمع الاثنان فـي مكان لا يعرفه سوى عدد قليل من الآخرين؟ ... للحديث صلة.
كانت رؤية الأشخاص المنغمسين فـي نصّ ما، أكانوا يضحكون أم يبكون، أو حتى يبكون من الضحك أثناء القراءة، تثيرني فعلا وتجعلني أتساءل عمّا يمكن له أن يكون -فـي ذلك الأمر- غريبا وأكثر جاذبية؟ أي عالم هو عالم الحروف هذا الذي يتملك الشخص الذي يتردد عليه، ليجذبه بقوة ويجعله ينغمس فـيه إلى درجة أنه لا يعد يرى شيئا حوله؟
فالتساؤل عمّا إذا كان الأدب بمثابة علاج ما، فهذا يعني تساؤلا (شكوكيا!) حول تاريخ حضارتنا وحلقاتها وانعطافاتها، وحتى دينيا (اقرأ باسم ربك الذي خلق...). ربما من هنا، علينا أن نقرأ وأن نعيد قراءة «فـيدر» لــ(أفلاطون) كما الدراسة الجميلة التي خصها له الفـيلسوف الفرنسي جاك دريدا فـي كتابة «صيدلية أفلاطون»، كي نقيس غموض وثراء الأسئلة التي تثيرها الكتابة، والتي وصفها سقراط (الذي لم يكتب، للمفارقة) بــ«الفارماكون». أهي علاج أم سمّ؟ للوهلة الأولى، تتناقض أسطورة تيوت بين الكلمات الحيّة للملك والكلمة المكتوبة، التي فـي نظره ليست ذاكرة حيّة وحاضرة، بل ذكرى. لقد أثار العلاج استياء الملك الذي نوى أن يحرمه من أهليته ليفضل عليها عبارته.
ومع ذلك فقد أثبت التاريخ، بعد أكثر من خمسة وعشرين قرنا، قوة الكلمة المكتوبة. فالكتابة حارسة الذاكرة، وهي أضواؤها كما ترحلاتها، إذ إنها تتبع وتشهد على الأوهام البشرية، على خيالات الناس، على أخطائهم، على تطلعاتهم الباطلة أو المجنونة، على رغباتهم، على معتقداتهم، على أهوائهم، على عواطفهم.
من المثير للفزع أن تمثيلاتهم للعالم تلتقط أحيانًا حقيقة عميقة تتجاوز الزمن لتغذي الأعمال اللاحقة. تشهد الكتابة أيضا على «عبقريتهم»، واكتشافاتهم، ورغبتهم فـي السلطة، وغطرستهم وعدم وعيهم، وتساؤلاتهم التي لا تكلّ وعدم ثقتهم فـي مواجهة اللغة التي، بينما هي تخونهم، تكشفهم لأنفسهم وللآخرين. كذلك نجدها -الكتابة- تقدم أخيرا، وصفا لتجاربهم، ما يسمح للجميع بالتعرف على أنفسهم أو أن يكتشفوها، وأن يواجهوا جهلهم، وأن يرتووا من الفكر الإبداعي، لتغيير أنفسهم ببطء.
الكتابة، مرآة الإنسانية، هي المكان الذي يتم فـيه التعبير عن جميع عائلات الروح وما يسمى عادة بالوعي العالمي وقدرة هذا الوعي على خلق نفسه، والتطور وتغيير العالم وهو يتحدث. فهي تسجل كلّ التقدم البشري، كل التراجعات، كل التردد، كل الأوهام، كل الجنون، كل الإنجازات، كل التحولات، كل شيء كتب هناك. فمن دون كتابة، فـي الواقع، لن تكون هناك حضارة ممكنة، ولا علم ممكن، ولا ذاكرة ممكنة، ولا وعي ممكن بالزمن التاريخي، ولا إمكانية انتقال إلى ما بعد الموت، وبالتالي لا تطور، فربما يكون الشيء الوحيد الذي يميز البشر عن الحيوانات هو هذا الأمر فقط، قدرتهم على التطور مع تطوير وعيهم النقدي من خلال الاتصال بالنصوص والكتابة، خطوة بخطوة، كلمة بكلمة، لأن تقدم هذا الوعي اليائس، يفقد نفسه فـي العدم الذي خرج منه بأعجوبة، بقوة الرغبة وحدها.
الكتاب ينفتح على العالم، والعقل الذي يدخل من النافذة يخلق مساحة يعبر فـيها الصوت. كثيرا ما نقول عن الكاتب أن لديه «فضاء»، «عالما».
ألا يعني هذا أن هناك شيئًا كونيا، ربما، على الأقل؟ فـي الواقع، يجذب النص، من خلال تأثير المرآة الغريبة (إلى حدّ ما)، القراء الذين يتعرفون على أنفسهم فـيه. لديهم شعور بأن هناك من يتحدث معهم عنهم (وهو ما يحبونه أحيانًا، ولكن ليس دائمًا). ثمة خطوة تُتخذ حين ينتقل الكلام إلى الكتابة، ومن ثم إلى النشر. فالكاتب -سواء كان شاعراً أو مفكراً، لا يستبعد أحدهما الآخر- يفضح نفسه ولكنه يخاطب القارئ أيضاً من دون أن يعرف من سيقرأه. إنه يخاطر بشيء لم يكن يعرف عنه شيئًا فـي البداية. قد لا يشكل ذلك كل شيء، فـيما لو أردنا أن نكون صادقين.
لأن الكاتب إذا ما قام بعملية النشر، فذلك أيضًا لأن الأدب بدأ بتعديل حياته. فهو يعلم أن كتابًا واحدًا فقط يمكنه أحيانًا أن يغير الحياة، ويغير النظرة، ويفتح الآفاق، ويحشد الطاقات المجهولة، ويؤثر فـي اتجاه خطوات الإنسان. ربما يريد ببساطة أن يكون هذه القناة التي تمرّ وتعبر باتجاه الآخرين، بطريقته الخاصة. وذلك لأن القراءة، مهما بدت منعزلة، تجلب اللقاءات.
من خلال الهروب من الحياة اليومية، أحيانًا نجد أنفسنا هناك... لنخرج مختلفـين، ومغتنين، ومُنطلقين من جديد فـي طاقتنا الإبداعية.
أعود وأطرح السؤال: هل الأدب (الكتابة) هو علاج أم سمّ؟ قد يثير السؤال مفاجأة ما. من الذي يسمم نفسه من أجل المتعة؟ سنقول المخدرات أيضًا. هل ذلك لكي ننام أم لكي نستيقظ؟ هل لكي نشعر بالاطمئنان؟ بالقلق؟ بالانزعاج؟ لنطرح تساؤلا؟ صحيح أنه لا يوجد علاج حقيقي غير ضار.
الدواء ليس منتجا استهلاكيا. إنه منتج فعّال، يعدل الجسد، ويمكنه أيضًا التأثير على العقل وربما على الجسد، إذ إن كل اللغة جزء منه. حتى أن هناك أدوية تهدف إلى إسكات الانزعاج. ففـي حين أن الإنسانية عاشت قرونًا بدون مضادات الاكتئاب، أصبحت هذه المنتجات جذابة للغاية لدرجة أن الطب المعاصر يستخدمها كما لو أنه سيشفـي مرضاه. هل فعلا هي أدوية للشفاء أم لإسكاتهم عن القول (وربما الكتابة؟).
وعلى العكس من ذلك، هناك أيضًا تخصصات خالية من أي جزئيات نشطة، ولا يمكن التعامل معها إلا باسمها، وهو ما قد يرضي بشكل من الأشكال. لذا هل الأدب دواء وهمي؟ هل أنه الدواء الأكثر فعالية على الإطلاق؟ قد يتوجب علينا لاحقا أن نسأل أنفسنا عمّا يعالجه ومن يعالجه. الكاتب أم القارئ؟ أمن المحتمل أن يجتمع الاثنان فـي مكان لا يعرفه سوى عدد قليل من الآخرين؟ ... للحديث صلة.