طرحنا في مقال الأسبوع الفائت سؤالا يقول أين صحافتنا من ثورة الذكاء الاصطناعي؟ وللإجابة عن هذا السؤال المهم والملح في الوقت نفسه، استعرضنا التحولات التقنية الكبرى التي شهدتها الصحافة، وقلنا إن التأريخ للتحول الرقمي في الصحافة بوجه عام يجب أن يبدأ بظهور الحاسوب وتزايد استخدامه في إنجاز بعض الأعمال التي كان يقوم بها الصحفيون والفنيون البشر في المؤسسات الصحفية. وعلى هذا الأساس فإن دخول أجهزة الحاسوب وإدماجها في غرف الأخبار واستخدامها في التغطية الصحفية وإنشاء الأنظمة التحريرية والتصميم والطباعة كان البداية الفعلية للتحول الرقمي في صناعة الصحافة ووسائل الإعلام، والتي كان عليها مواكبته والتأقلم مع متطلباته المادية والبشرية.

تشير المصادر التاريخية إلى أن صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية قامت في نهاية خمسينيات القرن الماضي بتجربة استخدام الحاسوب لتحليل الأخبار والبيانات. وشهدت نهاية الستينيات وأوائل السبعينيات بداية استخدام الحاسوب في الصحافة لتحرير النصوص والتصميم. وسرعان ما انتقلت هذه الأجهزة إلى الصحف العربية خاصة في السبعينيات والثمانينيات لتطوير عمليات التحرير والإخراج والطباعة.

يمكن القول إن التحول الرقمي في الصحافة العُمانية ليس وليد اليوم، ولا يرتبط بثورة تكنولوجية واحدة، واستفاد من كل التقنيات الرقمية التي بدأت مع ظهور الحاسوب وانتهت -حتى الآن على الأقل- بالذكاء الاصطناعي، مرورا بشبكة الإنترنت وشبكة الويب، وشبكات التواصل الاجتماعي. ورغم أن نشأة الصحافة في عُمان جاءت متأخرة وبدأت في مطلع السبعينيات في وقت كان الحاسوب قد دخل بالفعل في إنتاج الصحافة في كثير من دول العالم، فإن دخول هذه التقنية في الصحف العُمانية تأخر حسب بعض شهود هذه المرحلة من الصحفيين إلى نهاية ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن العشرين، وبالتالي تأخرت الصحف التي كانت قائمة وقتذاك في إنجاز أولى خطوات التحول الرقمي.

في تقديري إن هذا التأخر كان طبيعيًا ومتوقعًا ومتوافقًا مع السياق التقني الذي كان قائما في سلطنة عُمان في تلك الفترة من ناحية، ومحدودية الخريطة الصحفية التي كانت تضم ثلاث صحف أسبوعية فقط من ناحية ثانية، بالإضافة إلى المقاومة العالية من جانب إدارات الصحف والصحفيين للحاسوب واستخدامه في الصحافة في تلك الفترة المبكرة من عمر الصحافة في عُمان. وقد تم تعويض هذا التأخر فور بدء التحول الرقمي من خلال تسخير كافة الإمكانات المادية والبشرية لاستخدام أحدث الأجهزة والبرامج المشغلة لها، والتوسع الكبير في توظيفها في جمع وتحرير الأخبار والموضوعات الصحفية وإخراج الصفحات وإعدادها للطباعة. ومع مطلع الألفية الجديدة كانت كل الصحف العُمانية تقريبا قد أدخلت الحاسوب في صالات التحرير وغرف الأخبار، وبدأ الصحفيون في الاعتماد على أجهزة المؤسسة في كتابة وتحرير موضوعاتهم، واستخدام الأنظمة التحريرية التي قامت الصحف بتوفيرها لتحقيق التدفق الإخباري داخل المؤسسة، بين الصحفيين وأقسام المراجعة المركزية، ورؤساء الأقسام، ومديري التحرير، والمصممين، والمخرجين.التقنية الثانية التي تبنتها الصحافة العُمانية بشكل أسرع كانت شبكة الإنترنت، التي تحولت إلى وسيلة اتصال جماهيرية بعد ظهور شبكة الويب في 1991. في العام التالي لظهور الويب سارعت الصحف خاصة في الدول الغربية إلى توظيف هذه التقنية في إنشاء مواقع إلكترونية لها على الشبكة لتكون قناة ترويج وبيع إضافية لها. وكان على الصحافة العُمانية في تلك الفترة أن تنتظر ست سنوات بعد ظهور الصحف الرقمية لتظهر مواقعها على الشبكة، وذلك لأن شبكة الإنترنت لم تدخل إلى عُمان سوى في عام 1997، وفي العام نفسه خرجت الصحف العُمانية -التي كانت قد تحولت إلى الإصدار اليومي وزاد عددها لتصبح خمس صحف- إلى الشبكة.

وبعد الخروج إلى الشبكة تزايدت سرعة تبني الصحف العُمانية للتقنيات الجديدة وتوظيفها في تطوير المحتوى والوصول إلى جمهور عالمي واسع. خلال العقد الأول من الألفية الحالية أطلقت المزيد من الصحف العُمانية مواقعها الإلكترونية، وحدّثت الصحف الكبرى مواقعها، وأضافت لها المزيد من الخدمات مثل التحديث المستمر للأخبار والتفاعل مع المستخدمين واستخدام الوسائط المتعددة، وتحولت بعض هذه المواقع إلى منصات إلكترونية متكاملة.

ربما يكون تبني وتوظيف شبكات التواصل الاجتماعي كمنافذ لتوزيع الإنتاج الصحفي هو النقلة الأكبر والأهم في التحول الرقمي للصحافة العُمانية في السنوات الأخيرة. إذ بعد فترة قصيرة من إنشاء الصحف العالمية حسابات لها على هذه الشبكات سارت الصحف العُمانية في الاتجاه نفسه، وأصبحت حساباتها على هذه المنصات الجديدة منافذ مهمة لتوزيع محتواها والتفاعل مع القراء وزيادة حركة المرور على مواقعها الإلكترونية. وقد بحثت دراسات كثيرة واقع استخدام الصحف والصحفيين في عُمان للمنصات الاجتماعية، وأكدت نتائجها أن الاستخدام الواسع لها فتح أبوابا جديدة لوصول المنتج الصحفي إلى ملايين من مستخدمي هذه المنصات في جميع أنحاء العالم والوصول بالرسالة الإعلامية العُمانية إلى آفاق جديدة.

التقنية الأحدث في سلسلة التحول الرقمي والتي كانت محورًا للمؤتمر الدولي الرابع لقسم الإعلام بجامعة السلطان قابوس، هي تقنية الذكاء الاصطناعي التي أصبح على الصحافة ووسائل الإعلام في عُمان التعامل معها والاستفادة من الإيجابيات والحد من السلبيات التي يمكن أن تترتب على التوسع في استخدامها. صحيح أن المؤتمر ناقش نحو ستين ورقة علمية، ولكن هذه الأوراق لم تتناول واقع الاستخدام الفعلي للذكاء الاصطناعي في الصحف العُمانية، ومع ذلك فإن أوراقًا أخرى تناولت اتجاهات الصحفيين في الصحف العُمانية نحو هذا الاستخدام، وأكدت إيجابية هذه الاتجاهات خاصة فيما يتعلق بجمع وتحرير الأخبار والتقارير الروتينية مثل حالة الطقس وأسعار الأسهم والسندات ونتائج المباريات الرياضية، بالإضافة إلى تحليل البيانات الضخمة والمساعدة في جمع معلومات التحقيقات الصحفية الاستقصائية.

إن على الصحافة العُمانية أن تستثمر ثورة الذكاء الاصطناعي وتستفيد منها مثلما استفادت من تقنيات التحول الرقمي السابقة عليها، بعد أن أصبحت خوارزميات التعلم الآلي جزءًا لا يتجزأ من الصحافة. ويمكن البدء باستخدام هذه التقنيات في تدقيق المعلومات والبيانات، قبل نشرها وتحديد الأنماط المناسبة للعرض والتقديم، والتنبؤ بالاتجاهات المستقبلية، وتحليل الاتجاهات على وسائل التواصل الاجتماعي، ورسم خريطة الرأي العام في الأحداث والقضايا المختلفة، بالإضافة إلى استخدامها في تخصيص توزيع المحتوى للمستخدمين الأفراد بناءً على تفضيلاتهم، وتعزيز التفاعلية، واقتراح المقالات والمحتوى بناءً على سلوك المستخدمين، وهو ما قد يؤدي إلى تغيير جذري في كيفية تفاعل الجمهور مع منصات الأخبار العُمانية.

إن من شأن تبني الصحف العُمانية التقدم في تقنيات الذكاء الاصطناعي، وخاصة التعلم العميق، أن يعزز القدرات الصحفية ويساعد في التحقق من صحة المعلومات، والمساعدة في كشف الأخبار الزائفة والمضللة، وهو ما يزيد الثقة الجماهيرية فيما تنشره الصحف ويعيد لها بريقها كأكثر وسائل الإعلام مصداقية.