(1)

مَن منكم لم يُجرّب فكرة الغناء فـي الحمام؟

أغلبنا إن لم يكن كُلنا نفعل ذلك. وفـي الأعراف والآداب - ليس الحَمّام كما يجري نَعته ببيت الراحة- هو المَكان الذي يليق باكتشاف المواهب الصوتية فـي الثقافة الإسلامية على الأقل، فما بالكم بالأدائية! لكن الجميع ربما يتفقون على أنهم جرّبوا فكرة الغناء فـي بيت الراحة. بهذا المعنى، يُمكن لأي كلمات أغنية ساميّة أو هابطة تخطر على بال صاحبها فـي الحَمام، أن يَركض إلى تسجيلها إمّا كتابة على الورق، أو على هاتفه المحمول أو كتابتها بإصبع روج للزينة على المرآة.

إذا اتفقنا على النقطة السابقة حول اعتقاد إمكانية اكتشاف الموهبة فـي الحَمام وتحررها فسأنطلق إلى النقطة التالية: كّل من لا يَملك صوتا موسيقيا، فليذهب إلى الحَمام يُدندن بكلمات وألحان، ثم يخرج إلى الشارع لينسبها إلى نفسه، ويوثقها بعد ذلك لدى الجهات الرسمية الخاصة لحفظ حقوق الملكية الفكرية، وإذا جرى اعتماد الكلمات وصاحب الصوت صارت الأغنية «ترند»، سوف يصفق له الغالبية العظمى من الجمهور المتابعين على وسائط التواصل الافتراضي، وليس شرطا تسجيل الأغنية فـي أستيديو، أو على خشبة المسرح، إذ يكفـي توفر جهاز لوحي وطاقة هائلة من التحفـيز والانتشار.

هذا الشكل من الغناء المُنتشر بين أوساط الشباب يدعى «البوب»، حتى إذا لم تكن أصوات المؤدين له مميزّة! عُدت إلى جوجل وشات جي بي تي، فوجدت التالي: البوب وموسيقاه «مصطلح مستمد أصلا من اختصار الكلمة الإنجليزية «Popular» والتي تعني (شعبية وشائعة)» ويبدو أن منشأها كان فـي الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة فـي خلال منتصف خمسينيات القرن العشرين. ويستطرد جوجل فـي الكشف عن تداخل البوب مع غناء الروك والموسيقى الشعبية فـيقول: «غالبًا ما يُستخدم مصطلحا (الموسيقى الشعبية)، و(موسيقى البوب) بالتبادل، رغم أن الأول يصف جميع الموسيقى الشائعة، ويتضمن العديد من الأساليب المتنوعة. كان مصطلح (بوب)، و(روك)، مترادفـين تقريبًا حتى أواخر الستينيات، عندما انفصلا تمامًا عن بعضهما البعض». وأفهم هنا، أن الانفصال بهذا المعنى هو الانطلاق. ويُلخص شات جي بي تي تعريف «البوب» «تميّزه بنغمات سهلة وألحان تجذب الجمهور وموضوعات الحب والعلاقات والاحتفالات، ويعتمد الأداء على الغناء المميز مع استخدام أصوات وألحان إلكترونية أو كلاسيكية وجمهوره واسع ورسائله تتجنب القضايا الجدلية».

أمّا تعريف «البوب» العربي فهو نمط موسيقي يتأسس على «الجمع بشكل تركيبي ألحان البوب مع عناصر من أنماط إقليمية عربية مختلفة، تستخدم بشكل رئيسي الأدوات الغربية بما فـي ذلك القيثارات الكهربائية أو لوحات المفاتيح الإلكترونية، فضلا عن الآلات التقليدية مثل العود والدربوكة. ومن سمات موسيقى البوب العربية هي النغمة العامة والمزاج العام للأغاني، وتميل الكلمات إلى التركيز على الشوق والكآبة -أعوذ بالله وهذه من عندي- والنزاع وقضايا الحب بشكل عام». أمّا ما يُمكن أن يُميز نمط البوب العماني فالعثور عليه مسألة فـي غاية الصعوبة، فمحركات البحث معلوماتها شحيحة، لكني عثرت على صفحة فـي الفـيسبوك للشاب (هيثم محمد رافـي) يذكر فـيها لمتابعيه أن له أغنية «بوب» اسمها (غاوي) أنزلها قبل ثلاث سنوات. إن تاريخ المنشور هو 2023م، ما يفـيدنا أن (غاوي) كان أول انتشار لها هو عام 2020م. ويستطرد ليعرّف لنا فهمه لغناء البوب قائلا: «إنه نعمل (مكس) بين الإيقاعات العمانية مع (الستايل) الغربي بطريقة حديثة مع الروح الأصلية». ثم يُعلن عن أغنية جديدة اسمها (يمه) بستايل «بوب» عماني استخدم فـيها الإيقاع العماني الدان والليوا.

(2)

«تنكر.. مو ذا الشغل ما يدخل أبد فلوس، كل يوم أقوم الساعة سبعة، أروح أدُور على البيوت، ماشي ماي. أطلع أشوف كل واحد رايح الدوام، يضربني غَم يوم أشوفهم، أتمنى لو ألبس ذاك المصر، وأروح الوزارة بدل ما أدُور بيوت، ليش أنا منحوس؟ ماشي فلوس فـي المندوس...».

لا شك فـي أن أغنية «تنكر» إحدى أغاني «البوب» العماني الأصيل؛ البوب الذي أخذ يتشكّل منذ سنوات لدى عدد من الشباب فـي الوطن العربي بوجه عام. ويبدو أن الظهور الأول لأغنية «تنكر» حسب محرك البحث جوجل كان فـي عام 2011م. وبعد محاولات عدة لمعرفة صاحبها سواء عن طريق جوجل أو الذكاء الاصطناعي، أو الشباب الذين صاروا يؤدون غناء «الرَّاب» فـي أعلى نماذجه العربية المرتبطة بثورات الربيع العربي، أو «البوب» المحلي لم أستطع الوصول إلى صاحبها.

تندرج كلمات أغنية «تنكر»، حسب مفهوم «البوب» العربي بوجه عام فـي قضايا الشباب اليافعين ومعاناتهم المختلفة على أصعدة كثيرة؛ يبثون عن طريقها رسائل اجتماعية وظروفا مالية ومشاعر وطنية. إن كلماتها، حظيت بالانتشار، فأول وهلة أتذكر عند سماعي لها أنّها راقت لي كثيرا؛ وقلتُ فـي نفسي: من الجيد أن يُعبّر جيل الشباب عن قضاياهم العامة بلغتهم الخاصّة وحساسيتهم الجديدة، وبالتحرر من قوالب الأغنية الكلاسيكية المعروفة. وهذا الشأن لا يقتصر على أغاني «البوب» فـي وطننا العربي، بل هو امتداد طبيعي وحيوي للخروج على التقاليد الغنائية والإبداعية كافة، كما فعل بريخت فـي مسرحه الملحمي بالخروج على وحدات أرسطو الدرامية الثلاث، أو تمرّد قصيدة النثر على بناء القصيدة العمودية. وفـي سياقنا العماني أستشهد بمحاولات بعض المبدعين الذين أظهروا طاقات فنية جميلة جدا سواء فـي تأليف الكلمات، أو فـي تصوير مشاهد الأغاني، أو فـي استثمار التقنية الحديثة عن طريق تقديم محتوى تأثيري على السوشال ميديا، فلا يقتصر التطوّر على غناء «البوب» وحده، بل تقديم فـيديوهات ناقدة واعية، على سبيل المثال ما يقدمه الفنانان الممثلان (عبدالحكيم الصالحي، والصلت السيابي) حيث تخصص كل واحد منهما فـي التعبير بأسلوب أدائي خاص به، أو بعض الذين يقدمون أعمالا كوميدية هادفة كالفنان الممثل (عبدالله الغافري أبو حميد) الذي يمزج بين المتعة والقيمة الفكرية، فـي بعض أعماله الفنية.

وعطفًا على كلمات أغنية «تنكر»؛ إنّ أول ما يلفت الانتباه إليها هو محليّتها، بساطتها، واقعيتها، بالتالي قدرتها على نقل الواقع المجتمعي لشرائح مختلفة من الأسر العمانية البسيطة، مما ساعدها على الانتشار ودخولها إلى القلوب، بالإضافة إلى ذلك محاولتها تقديم أغنية «بوب» عمانية بإيقاعات ديسكو، تتضمنها فـي البعد الاجتماعي أمنيات شاب يقود «تنكر» ويبحث عن وظيفة أفضل فـي قطاع الحكومة، ويطمح إلى الزواج. يُغني: «كل واحد يسوق سيارة، وأنا عندي تنكر بدون إشارة، أحلم أصير أنا وزير، ولا حتى واحد كبير...»، كلمات أقرب ما تكون إلى إثارة «الشكوى»، و«الاعتراض»، و«الاستجداء»، يُغني: «صار سنين وأنا أسوق تنكر، الشغل صار حظ ويانصيب، سويت حادث كربخ... كربخ، راح التنكر ماشي تأمين ولا فُل بيمه، ساعدوني الشيمة... إلخ».

(3)

هل «البوب» نص أو هو اللاّنص؟

«البوب» يعيدني إلى انشغال المثاقفة العرب بالسؤال التالي: هل عرف العرب المسرح فـي تاريخهم الحضاري الطويل؟ تعرّف العرب على المسرح الذي قَدَم إليهم من الخارج، فأحبوه وعشقوه وأنتجوا فـيه. بمعايير النقد الثقافـيّ ليس مستغربا دراسة «البوب»؛ لأنه نجح فـي تكوين ذائقة مجتمعية جديدة طالعة فـي الوطن العربي، فأحبوه وأنتجوا فـيه، فاستطاع كسب نسبة من الاعتراف به ضمن الثقافة العامة. لكن صموده إزاء تعريف النصّ لا يجعله يحقق نتاجًا، وعلى النقاد الحرث فـيه إلى أجل غير مسمى.