في 3 فبراير القادم تحل الذكرى الخمسون على رحيل كوكب الشرق أم كلثوم. نصف قرن وإمبراطورية مستمعيها تتوسَّع شرقاً وغرباً. صوتها لا يزال قادراً على سحر أجيال لم ترها، ولم تحضر حفلاتها، أو تواكب رحلتها منذ أن كانت فتاة صغيرة تشبه الولد، وترتدي العقال والبالطو الأزرق، وحتى صارت إحدى أيقونات الغناء في مصر والعالم العربي.
ومع اقتراب ذكراها (اليوبيل الذهبي) بدأ الناس في استعادتها بكثافة، وأعلن بعض الكتَّاب قرب إصدارهم أعمالاً عنها، بينما نشرت مؤسسة "أخبار اليوم" طبعة خاصة من كتاب محمود عوض "أم كلثوم التي لا يعرفها أحد"، في إطار سياسة جديدة ينتهجها رئيس تحرير سلسلة "كتاب اليوم" ياسر عبد الحافظ بالتقليب في كنوز المؤسسة وإعادة تقديمها إلى أجيال لم ترها، فما أهمية ذلك الكتاب؟!
أولاً: إن مؤلفه هو محمود عوض، وقد امتلك هذا الكاتب جرأة مكَّنته أن يحتدَّ على أم كلثوم نفسها حين حاولت أن تتدخل في عمله. كلَّمها في الهاتف وأخبرها بأن رئيس تحرير أخبار اليوم، آنذاك، إحسان عبد القدوس، كلَّفه بإجراء حوار معها، يُنشر في باب "شخصيات". اعتذرت أم كلثوم، مرة بعد أخرى، حتى وصل عدد المكالمات إلى تسع مكالمات، وفي المرة العاشرة قال لها إن لم تكن لديك نية أو رغبة في إجراء الحوار يمكنني أن أنقل ذلك للأستاذ إحسان، ولدهشته فوجئ بها تخبره بأن بإمكانهما إجراءه في التوِّ على الهاتف. كتب عوض الحوار بأسلوبه البسيط الفريد، لكن إحسان طلب منه أن يعرضه عليها. ذهب إليها في البيت، وطلبت منه تغيير جملة أو اثنتين، ورد عليها بقوله الذائع: "مَن يفهم في الغناء أكثر.. أنا أم أنتِ؟!"، فقالت: "أنا طبعاً!"، وردَّ عليها: "وأنا أفهم في الكتابة أكثر منكِ!". نُشِر الحوار وأثار ضجة، وفوجئ بأم كلثوم تكلمه على الهاتف لتشكره. فهم أنها تعتذر إليه بطريقتها. منذ تلك اللحظة بدأت أواصر صداقة عميقة، أو سمِّها أمومة، من ناحية أم كلثوم لعوض، وبنوة من ناحيته لها. ورغم أنها أحاطت نفسها بعمالقة الصحافة في ذلك الوقت، مثل مصطفى أمين، ومحمد التابعي، إلا أنها منحته مكانة خاصة، وقرَّبته إليها، واصطحبته معها إلى جلسات السمر مع الأصدقاء، وهم كبار رجال السياسة والفن، فألمَّ بعالمها السري، وطريقة تعاملها مع الناس، وقدرتها العظيمة على المزاح والسخرية وإلقاء "القفشات" وفهم أنها تمتلك روحاً ساخرة وذكية تحبُّ الحياة والناس.
ثانياً: إن محمود عوض لا يكتب ما شاهده فقط في هذا الكتاب، وإنما أجرى حواراً مطولاً معها، أي أن مصدره الأساسي هو "الست" نفسها..
تحكي أم كلثوم له محطَّات مهمة من رحلتها. كان متعهِّد الحفلات صدِّيق أحمد يتفق مع أبيها الشيخ إبراهيم أن تحيي حفلة مقابل أجر معين، ولم يكن الأب يعلم أن الناس يأتون متأخرين إلى المسرح، لأن غرضهم التسلية والسُكر في المقام الأول لا الغناء، ثم يأتي المتعهد إلى الشيخ إبراهيم قبل الحفلة بساعة أو اثنتين ويطلب منه أن ينظر خلف الستارة ليتأكد بنفسه أن الكراسي خاوية، والحفلة خاسرة قبل أن تبدأ، ويستسمحه في تخفيض الأجر، والشيخ الريفي الطيِّب تنطلي عليه الحيلة الماكرة فيوافق، لكن بعد أن تُرفع الستارة ترى أم كلثوم وأبوها وأخوها خالد الصالة ممتلئة عن آخرها، وحين يبحثون عن المتعهد يكون "فص ملح وداب"!
كان جمهور تلك الفترة يرغب في سماع الأغاني الخليعة، وهم يشربون الخمر، و"يقزقزون" اللب والترمس، في إحدى المرات غنَّت أم كلثوم أغانيها التقليدية مثل المدائح النبوية، وفي أثناء غنائها "سبحان من أرسله رحمة لكل من يسمع أو يبصر"، تعالت همهات الرفض، ثم تحولت تلك الهمهمات إلى صياح قوي بالكف فوراً عن تلك النوعية من الأغاني. طالبوها بغناء "طقاطيق" الفرفشة والانبساط، لكنها واصلت غناء قصائد المدائح النبوية، فبدأوا يزومون، ثم تجرأوا وصعدوا إلى المسرح، ولما رأى الشخ خالد الشر في أعينهم صفعها بالقلم. حكت لمحمود عوض أن الصفعة آلمتها وكسرت قلبها في تلك الليلة، لكنها فهمت طبعاً أن الأب أراد أن ينقذها، فصفعها بالنيابة عنهم فعادوا فوراً إلى الصالة.
حكت أم كلثوم لعوض كذلك عن أمِّها، أيضاً، السيدة البسيطة غير المتعلمة. صارت "فاطمة" مثالاً لامرأة تعرف كيف تقوم بواجبها نحو الزوج والأولاد، لهذا لم يتزوج الشيخ إبراهيم عليها مع أن السائد وقتها أن يتزوج الرجل باثنتين وثلاثٍ. تقول أم كلثوم: "لم تهتم أمي بالنقود، حتى عندما بدأنا نستقر في القاهرة وندَّخر جزءاً من دخلي.. تقول له إن النقود تُفسِد! وفي كل مرة أسافر فيها مع أبي للغناء تُكرِّر له نفس المحاضرة: "والنبي يا شيخ إبراهيم تاخد بالك من البنت، أوعى حد يقول لك هاتها نسلِّم عليها في البيت وتوافق، أوعى تسيبها لوحدها، خلي بالك عليها، أولاد الحرام كتير! ولا تنام إلا بعد عودتي من الغناء في الفجر".
ويحكي عوض في فصل خاص عن علاقة أم كلثوم بالبيت ويصفها بأنها "ست بيت فاشلة جداً"، لا تجيد الطبخ، بل إنها لم تحاول مرة واحدة أن تطبخ، فالنتيجة، بحسب تعبيره، معروفة مقدماً، كما أنها لا تتدَّخل سوى في بعض الأشياء البسيطة بالبيت، كتنسيق الغرف وتعليق اللوحات الفنية، مثل لوحة فنية بالنحاس للعذراء، ولوحة زيتية للفنان صلاح طاهر، ولوحة تمثل الفلاحة المصرية (لم يحدد اسم صاحبها)، ويقول إن زوجها حسن الحفناوي له ذوقه في المنزل أيضاً، إن مهنته كطبيب تحدد ملامح ذوقه، في الدقة، والنظام، والترتيب. يعلق: "اتفاق الذوق الفني كان أول نقطة اتفق عليها الدكتور حسن الحفناوي وزوجته. هذا الاتفاق هو الذي أدى إلى زواجهما سنة 1955".
ومع اقتراب ذكراها (اليوبيل الذهبي) بدأ الناس في استعادتها بكثافة، وأعلن بعض الكتَّاب قرب إصدارهم أعمالاً عنها، بينما نشرت مؤسسة "أخبار اليوم" طبعة خاصة من كتاب محمود عوض "أم كلثوم التي لا يعرفها أحد"، في إطار سياسة جديدة ينتهجها رئيس تحرير سلسلة "كتاب اليوم" ياسر عبد الحافظ بالتقليب في كنوز المؤسسة وإعادة تقديمها إلى أجيال لم ترها، فما أهمية ذلك الكتاب؟!
أولاً: إن مؤلفه هو محمود عوض، وقد امتلك هذا الكاتب جرأة مكَّنته أن يحتدَّ على أم كلثوم نفسها حين حاولت أن تتدخل في عمله. كلَّمها في الهاتف وأخبرها بأن رئيس تحرير أخبار اليوم، آنذاك، إحسان عبد القدوس، كلَّفه بإجراء حوار معها، يُنشر في باب "شخصيات". اعتذرت أم كلثوم، مرة بعد أخرى، حتى وصل عدد المكالمات إلى تسع مكالمات، وفي المرة العاشرة قال لها إن لم تكن لديك نية أو رغبة في إجراء الحوار يمكنني أن أنقل ذلك للأستاذ إحسان، ولدهشته فوجئ بها تخبره بأن بإمكانهما إجراءه في التوِّ على الهاتف. كتب عوض الحوار بأسلوبه البسيط الفريد، لكن إحسان طلب منه أن يعرضه عليها. ذهب إليها في البيت، وطلبت منه تغيير جملة أو اثنتين، ورد عليها بقوله الذائع: "مَن يفهم في الغناء أكثر.. أنا أم أنتِ؟!"، فقالت: "أنا طبعاً!"، وردَّ عليها: "وأنا أفهم في الكتابة أكثر منكِ!". نُشِر الحوار وأثار ضجة، وفوجئ بأم كلثوم تكلمه على الهاتف لتشكره. فهم أنها تعتذر إليه بطريقتها. منذ تلك اللحظة بدأت أواصر صداقة عميقة، أو سمِّها أمومة، من ناحية أم كلثوم لعوض، وبنوة من ناحيته لها. ورغم أنها أحاطت نفسها بعمالقة الصحافة في ذلك الوقت، مثل مصطفى أمين، ومحمد التابعي، إلا أنها منحته مكانة خاصة، وقرَّبته إليها، واصطحبته معها إلى جلسات السمر مع الأصدقاء، وهم كبار رجال السياسة والفن، فألمَّ بعالمها السري، وطريقة تعاملها مع الناس، وقدرتها العظيمة على المزاح والسخرية وإلقاء "القفشات" وفهم أنها تمتلك روحاً ساخرة وذكية تحبُّ الحياة والناس.
ثانياً: إن محمود عوض لا يكتب ما شاهده فقط في هذا الكتاب، وإنما أجرى حواراً مطولاً معها، أي أن مصدره الأساسي هو "الست" نفسها..
تحكي أم كلثوم له محطَّات مهمة من رحلتها. كان متعهِّد الحفلات صدِّيق أحمد يتفق مع أبيها الشيخ إبراهيم أن تحيي حفلة مقابل أجر معين، ولم يكن الأب يعلم أن الناس يأتون متأخرين إلى المسرح، لأن غرضهم التسلية والسُكر في المقام الأول لا الغناء، ثم يأتي المتعهد إلى الشيخ إبراهيم قبل الحفلة بساعة أو اثنتين ويطلب منه أن ينظر خلف الستارة ليتأكد بنفسه أن الكراسي خاوية، والحفلة خاسرة قبل أن تبدأ، ويستسمحه في تخفيض الأجر، والشيخ الريفي الطيِّب تنطلي عليه الحيلة الماكرة فيوافق، لكن بعد أن تُرفع الستارة ترى أم كلثوم وأبوها وأخوها خالد الصالة ممتلئة عن آخرها، وحين يبحثون عن المتعهد يكون "فص ملح وداب"!
كان جمهور تلك الفترة يرغب في سماع الأغاني الخليعة، وهم يشربون الخمر، و"يقزقزون" اللب والترمس، في إحدى المرات غنَّت أم كلثوم أغانيها التقليدية مثل المدائح النبوية، وفي أثناء غنائها "سبحان من أرسله رحمة لكل من يسمع أو يبصر"، تعالت همهات الرفض، ثم تحولت تلك الهمهمات إلى صياح قوي بالكف فوراً عن تلك النوعية من الأغاني. طالبوها بغناء "طقاطيق" الفرفشة والانبساط، لكنها واصلت غناء قصائد المدائح النبوية، فبدأوا يزومون، ثم تجرأوا وصعدوا إلى المسرح، ولما رأى الشخ خالد الشر في أعينهم صفعها بالقلم. حكت لمحمود عوض أن الصفعة آلمتها وكسرت قلبها في تلك الليلة، لكنها فهمت طبعاً أن الأب أراد أن ينقذها، فصفعها بالنيابة عنهم فعادوا فوراً إلى الصالة.
حكت أم كلثوم لعوض كذلك عن أمِّها، أيضاً، السيدة البسيطة غير المتعلمة. صارت "فاطمة" مثالاً لامرأة تعرف كيف تقوم بواجبها نحو الزوج والأولاد، لهذا لم يتزوج الشيخ إبراهيم عليها مع أن السائد وقتها أن يتزوج الرجل باثنتين وثلاثٍ. تقول أم كلثوم: "لم تهتم أمي بالنقود، حتى عندما بدأنا نستقر في القاهرة وندَّخر جزءاً من دخلي.. تقول له إن النقود تُفسِد! وفي كل مرة أسافر فيها مع أبي للغناء تُكرِّر له نفس المحاضرة: "والنبي يا شيخ إبراهيم تاخد بالك من البنت، أوعى حد يقول لك هاتها نسلِّم عليها في البيت وتوافق، أوعى تسيبها لوحدها، خلي بالك عليها، أولاد الحرام كتير! ولا تنام إلا بعد عودتي من الغناء في الفجر".
ويحكي عوض في فصل خاص عن علاقة أم كلثوم بالبيت ويصفها بأنها "ست بيت فاشلة جداً"، لا تجيد الطبخ، بل إنها لم تحاول مرة واحدة أن تطبخ، فالنتيجة، بحسب تعبيره، معروفة مقدماً، كما أنها لا تتدَّخل سوى في بعض الأشياء البسيطة بالبيت، كتنسيق الغرف وتعليق اللوحات الفنية، مثل لوحة فنية بالنحاس للعذراء، ولوحة زيتية للفنان صلاح طاهر، ولوحة تمثل الفلاحة المصرية (لم يحدد اسم صاحبها)، ويقول إن زوجها حسن الحفناوي له ذوقه في المنزل أيضاً، إن مهنته كطبيب تحدد ملامح ذوقه، في الدقة، والنظام، والترتيب. يعلق: "اتفاق الذوق الفني كان أول نقطة اتفق عليها الدكتور حسن الحفناوي وزوجته. هذا الاتفاق هو الذي أدى إلى زواجهما سنة 1955".