يبلغ إجمالي الدَّين القومي للولايات المتحدة 36 تريليون دولار أو 1.7 ألف دولار للفرد، وهو يرتفع بسرعة ومن المحتمل أن تزداد وتيرة ارتفاعه قريبا. وإذا صدقت وعود حملة ترامب الانتخابية سَتُؤذِن عودتُه إلى البيت الأبيض بموجة من التخفيضات الضريبية على كل شيء من أرباح الشركات وإلى الإكراميات (البقشيش).

في السنة المالية المنتهية في سبتمبر أنفقت الحكومة الأمريكية مبلغا يزيد بحوالي 1.8 تريليون دولار عما جمعته من الضرائب (6.4% من الناتج المحلي الإجمالي أو أكثر من ضعف الإيرادات السنوية لأكبر سبع شركات أمريكية)، ووفقا لأحد التقديرات يمكن أن ترفع أجندة ترامب الاقتراض الحكومي بحوالي 4.1 تريليون دولار في العقد القادم، وإن أمريكا ليست وحدها في ذلك؛ فإسراف الساسة عبر الأطلنطي (في أوروبا) أقل بقدر طفيف فقط، والعجز في منطقة اليورو يبلغ 3.6% من الناتج الاقتصادي وعجوزات الموازنة في العديد من البلدان الكبيرة في الاتحاد الأوروبي أعلى من ذلك (فرنسا 5.5% وإيطاليا 7.2% وبولندة 5.3%)، أما الديون العامة في الصين والتي أخفتها الحكومات المحلية في أدوات مالية غامضة فتتجاوز 120% من ناتجها المحلي الإجمالي وستقارب 150% بحلول عام 2027، إن عجز الهند يقترب من 8% من الناتج المحلي الإجمالي. وعجز البرازيل مثير للدهشة إذ بلغ 10%.

انعدام الرغبة في الحد من العجز

ليس هنالك وزير مالية يعتقد بإمكانية استمرار هذا الوضع إلى الأبد، لكن لا توجد إرادة سياسية جادة لتصحيحه، سكوت بيسنت الذي اختاره ترامب لتولي وزارة الخزانة عبَّر في الماضي عن قلقه من حجم عجز الموازنة الأمريكية، لكن سيتوجّب عليه قبول والتعامل مع سياسة الرئيس ترامب الذي لا يبدي اهتماما يذكر بالتدابير المالية الرشيدة، وراشيل ريفز وزيرة الخزانة البريطانية تشددت في حديثها عن السياسة المالية عندما كانت في المعارضة، ثم كانت إحدى الخطوات التي اتخذتها عندما جاءت إلى الوزارة رفع الاقتراض الحكومي بحوالي 30 بليون جنيه إسترليني في السنة (38 بليون دولار أو 1.2%من الناتج المحلي الإجمالي.) فالناخبون، على الأقل في تصور قادتهم، لن يقبلوا بزيادة الضرائب أو خفض الإنفاق؛ لذلك المهمة الكبيرة للعديد من وزراء المالية الحاليين والعاجزين عن إدارة موازنة منضبطة هي تصحيح اختلالها، ويجب أن تعي راشيل ريف بشدة الأخطار الماثلة، فقبل عامين أثبت وزير الخزانة البريطانية الأسبق أن أزمات الدين لا تقتصر على البلدان الصاعدة عندما أعلن عن حزمة تخفيضات ضريبية غير مموّلة ودون اهتمام بعواقبها المالية، تسبب ذلك القرار في ارتفاع عائدات السندات الحكومية إلى عنان السماء مما أدى إلى هبوط أسعارها ودفع صناديق التقاعد الكبيرة نحو الإفلاس وأطاح رئيسة الوزراء من الحكم.

أسئلة الدَّين

أدناه دليل إرشادي للسياسي المسرف في الإنفاق حول الكيفية التي يمكن أن يُطَمئن بها المستثمرين في سوق السندات (فإذا سارعوا إلى التخلص منها ببيعها سترتفع عائداتها وهذا يزيد الضغوط على الوضع المالي للحكومة - المترجم)، تتلخص هذه المهمة في ثلاثة أسئلة أولها وأهمها: ما الجهة التي يجب الاقتراض منها؟ هذا السؤال يحدد السؤالين الثاني والثالث وهما: ما الشكل الذي يجب أن يتخذه الدَّين (نوع العملة التي يُسدَّد بها ومدة سريانه وأداة الدين)؟ وكيف يمكن الحيلولة دون ارتفاع تكاليف الاقتراض بمتوالية هندسية؟ لنأخذ أولا القرار المطلوب بشأن الجهة التي ينبغي الاقتراض منها. الاختيار الواضح هو بين المستثمرين المحليين والأجانب، وثمة اختيار ثانٍ بين الأفراد والمؤسسات المالية، ومن أول وهلة قد يبدو خيار المستثمرين المحليين من كلا النوعين (الأفراد والمؤسسات المالية) الأكثر سهولة، فالسنداتُ الحكومية في البلدان الغنية هي أقرب ما يمكن أن يحصل عليه المستثمر إلى الأصول "الخالية من المخاطر"، وهذا يقلل من احتمال "إضراب" المستثمرين عن شرائها مقارنة بالسندات الأجنبية، إلى ذلك من اليسير للحكومة دفع المواطنين إلى حيازتها، فإثارة الغيرة الوطنية يمكن أن تفيد في ذلك، وهنا تجدر الإشارة إلى ملصقات القرن العشرين التي كانت تحث الوطنيين على شراء سندات الحرب، أيضا يمكن أن تساعد في ذلك الإعفاءات الضريبية مثل استثناء بريطانيا السنداتِ الحكومية من ضريبة المكاسب الرأسمالية.

ومن الممكن دفع البنوك للاحتفاظ بالسندات من خلال استحداث إجراءات تنظيمية أقل عنتا وإرهاقا، مثال على ذلك متطلبات الهامش (أموال الضمان) في الاتحاد الأوروبي لمراكز المشتقات، فهي أقل إذا استُخدمت السنداتُ الحكومية كضمانة. لكن هنالك جوانب سلبية لتخصيص جزء كبير من رأس المال المحلي لشراء الدَّين السيادي، وإنه لا يقتصر فقط على تقليص رأس المال المتاح للاستثمار في القطاع الخاص، لينا موزلي الأستاذة بجامعة برنستون تشير إلى أن المستثمرين المحليين الذين لديهم قدرة أفضل على الحصول على المعلومات كثيرا ما يكونون أول من يتخلص من سندات البلد إذا تدهور وضعه المالي، وما هو أكثر من ذلك إذا كانت العائلات والبنوك المحلية مكشوفة بشدة للدين الحكومي قد تكون أية إعادة هيكلة مستحيلة سياسيا، كما قد يستحيل أيضا التخلف عن السداد، وحينها ستصارع الحكومات أيضا لإعادة هيكلة الدين للأجانب الذين لن يقبلوا خسائر يُعفَى منها حملةُ السندات المحلِّيون.

السؤال الثاني والمتعلق باختيار الشكل الذي ينبغي أن يتخذه الدين شائك، فإصدار السندات في الأسواق العامة يساعد في رفع الطلب عليها لكنه يسلط الضوء على الوضع المالي الضعيف للبلد، كما يدفع المتعاملين إلى إعادة تقييم هذا الوضع باستمرار، إن الديون غير القابلة للتداول بما في ذلك القروض من البنوك التجارية أو البلدان الأخرى تتجنب الأضواء لكنها تكلف المزيد، والمماحكات التي تتطلبها القروض من المؤسسات متعددة الأطراف كصندوق النقد الدولي تجعلها ملاذ الاقتراض الأخير. السؤال الثالث: ما المدة الزمنية المثالية للاقتراض؟ القرض طويل الأجل عادة ما يكون أكثر كلفة لكنه يجنِّب الحاجة إلى إعادة التمويل، وهذا يحدّ من الضرر إذا فقد حملة السندات الرغبة في شراء سندات البلد أو إذا بدأت أسعار الفائدة في الارتفاع، لنأخذ الدين السيادي للولايات المتحدة بمتوسط فترة سداد تساوي 6 سنوات؛ فهذا يعني أن الكثير منه تم إصداره عندما كانت تكلفة الاقتراض أرخص، نتيجة لذلك دفعت أمريكا سعر فائدة بلغ في المتوسط 3.4% في السنة المالية التي انتهت في سبتمبر. وهذا أقل من سعر الفائدة المتاح الآن على سندات الخزانة لمدة 10 سنوات وهو 4.4%. ما هو أكثر أهمية اختيار عملة القرض يمكن للبلدان الغنية إصدار الدين بعملتها الخاصة بها والتي يثق المستثمرون في أن بنوكها المركزية لن تخفض قيمتها، أما البلدان التي لديها سجِل ضعيف فقد تعاني لتسويق دينها بالعملة المحلية في الخارج. وحتى تلك التي يمكنها أن تفعل ذلك قد تختار إصدار بعض الدَّين على الأقل بالدولار الأمريكي مقابل أسعار فائدة أدنى، إن هذه العقبة أوضحتها في جلاء أزمات الدين الأمريكي اللاتيني والآسيوي في سنوات الثمانينات والتسعينات؛ فالديون المقوَّمة بالعملة الأجنبية عُرضة لدوامة تدهور (يمكن أن توجد حلقة شريرة)؛ فسعر الصرف المتهاوي للعملة الوطنية يجعل من الصعب سدادها، وهذا ما يتسبب في المزيد من الانخفاض في قيمة هذه العملة.

القمع المالي

إلى ذلك، البلدان التي تقترض بعملتها لديها مجال أوسع وإلى حد بعيد لكبح (تقييد) أسعار الفائدة التي يهدد ارتفاعها بجعل دينها غير قابل للاستدامة، وقد يرعب "القمع المالي" أنصار حرية السوق. لكن يمكن للحكومات ممارسته بطرق شتى وغير محدودة، (مصطلح القمع أو التقييد المالي يقصد به السياسات التي تحوِّل الأموال إلى الحكومة بطرائق تقلل من تكلفة الاقتراض- وفكرة القمع تنشأ من حقيقة أن هذه السياسات تحدّ من حرية المستثمرين أفرادا ومؤسسات في استثمار مواردهم على نحو يحقق لهم عائدات أفضل- المترجم)، معظم هذه الطرائق، بحسب كارمن راينهارت أستاذة النظام المالي الدولي بجامعة هارفارد، يتلخص في إيجاد الحكومات مجموعة مستثمرين محليين مضمونين (أفراد، شركات ومؤسسات أخرى) تُجبَر أو تُدفع لشراء السندات الحكومية، إن ضوابط رأس المال على النمط الصيني تمنع السكان من نقل المدخرات إلى الخارج، ووضع حد أعلى لأسعار الفائدة على الودائع المصرفية على سبيل المثال يمكن أن يدفعهم إلى شراء سندات سيادية بعائدات أعلى.

ثمة طريقة أكثر فعالية وهي إجبار البنوك على شراء الدين، ويشير جيسون تيرفي نائب رئيس قسم الأسواق الصاعدة بشركة الأبحاث الاقتصادية "كابيتال ايكونومكس" إلى تركيا التي توجد نسبة 40% من ديونها بالليرة التركية كمثال رئيسي على ذلك. فبداية من عام 2022 أجبر "وابلٌ" من القوانين الجديدة المقرضين المحليين في تركيا على شراء سندات الحكومة، هذا (القمع المالي) إلى جانب الضغط على مسئولي البنك المركزي للتخفيف من السياسة النقدية أدي الى هبوط العائد على سندات الدين لمدة 10 سنوات من 24% في سبتمبر 2022 إلى 9% في مايو 2023، وبمجرد التراجع عن كلا هاتين السياستين ارتفع العائد إلى أكثر من 25%، إن الحاجة إلى هذا التراجع تظهر إلى أي حد هي مؤلمة الآثار الجانبية للقمع المالي. كبحُ سعر الفائدة لدى البنك المركزي يخاطر بإطلاق التضخم من عقاله (ارتفع في تركيا إلى 86%)، وإجبار المقرضين على تمويل العجز الحكومي يجعل الأمور أكثر سوءا؛ فمعاقبة المستثمرين لأنهم يقرضون القطاع الخاص وليس الحكومة قد تقود إلى توقف القروض، وهذا ثمن غالٍ للدَّين الرخيص. وعلى الرغم من أن البلدان الغنية قد تتردد في اتخاذ مثل هذه الإجراءات وجدت كارمن راينهارت في ورقة نشرتها عام 2015 أن بلدانا عديدة لجأت بالضبط إلى سياسات شبيهة لتقليص ديونها بعد الحرب العالمية الثانية، وحين سئلت راينهارت عن إمكانية تكرارها أشارت إلى قواعد ما بعد الأزمة المالية العالمية والسارية في بلدان مثل الولايات المتحدة وبريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي والتي تجبر البنوك وصناديق التقاعد على "إعادة الرسملة" والاحتفاظ بالمزيد من الأصول السائلة التي تعني السندات الحكومية.

تقول راينهارت: الهدف المقصود من هذه القواعد قد يكون الاستقرار المالي. لكنها تشير إلى أن هذه السياسات حتى إذا كانت تستهدف الاستقرار المالي إلا أنها تماثل سياسات القمع المالي (بمعنى إنها قد تخدم غرضا آخر هو شراء السندات الحكومية وبالتالي خفض عبء الدين - المترجم). الإشكال هو أن مخاوف التضخم التي يكرهها الناخبون عادت الآن وبقوة، قد تعتقد الحكومات أن الحد من الإنفاق (ضبط الموازنة) قد يكلفها إعادة انتخابها. الديمقراطيون في أمريكا لم يتجهوا بأي حال إلى التقشف المالي ورغم ذلك أزيحوا من الحكم بواسطة ناخبين ضاقوا ذرعا من ارتفاع الأسعار، وأي تلميح بأن اقتراضهم زاد التضخم قد يقود إلى التعامل مع الساسة في البلدان الأخرى بطريقة مماثلة.

هذا يترك خيارين: إمَّا شدَّ الحزام (التقشف وخفض الإنفاق) أو المخاطرة بتكرار أزمة سوق السندات الحكومية في بريطانيا عام 2022 والذي من المؤكد أن يطيح الحكومة كما يبدو (على نحو ما فعلت تلك الأزمة بإسقاط رئيسة وزراء بريطانيا ليز تراس بعد 44 يوما فقط من توليها المنصب – المترجم) في نهاية المطاف أية استراتيجية حكومية تستهدف تحقيق عجوزات كبيرة ستصطدم في نهاية المطاف بقانون حديدي هو وجوب توقفها عن التوسع في عجز الموازنة في لحظة ما.

**media[2848862]**