في السادس عشر من نوفمبر سنة 1972، أطلق العلماء رسالة إذاعية مدتها ثلاث دقائق إلى الفضاء بهدف صريح يتمثل في التواصل مع الحياة الذكية خارج كوكب الأرض. تم إطلاق الرسالة من أضخم تليسكوب إذاعي في العالم آنذاك في آرسيبو ببورتوريكو، وتم إطلاقها في اتجاه مجموعة (إم 13) النجمية التي تبعد عن الأرض بنحو خمس وعشرين ألف سنة ضوئية. وقد تم اختيار هذه المجموعة جزئيا؛ لأنها تحوي مئات آلاف النجوم، وتمنى العلماء أن يكون في فلك نجم واحد منها على الأقل كوكبا يحمل حياة ذكية من نوع ما. كانت رسالة آرسيبو استعراضا مجيدا لجنسنا البشري؛ إذ يبسط يده إلى الخارج في الكون رغبة في التواصل مع أي كيان يستمع. كانت تلك الرسالة على وجه التحديد استعراضا للقوة التكنولوجية الكبيرة الممثلة في تليسكوب آرسيبو الإذاعي وقدرته على إطلاق إشارة قوية إلى أقاصي الفضاء. ولم يكن وراءها توقع جاد للقيام بتواصل مع حياة فضائية. ويجدر بذلك أن يتغير. فقد حان الوقت لأن نتبع هذه الرسالة بعد خمسين سنة بمشروع جديد عابر للأجيال يبحث عن برهان على أننا لسنا وحدنا في الكون. إننا نعيش في عصر غريب وخطير، تسمه الحروب المتصلة وأزمة المناخ العالمية والمشاعر الاستقطابية تجاه وضع العالم. وفي هذه اللحظة التي تمزق فيها المخاوف الأرضية أوصالنا، ماذا علينا لو نظرنا إلى السماوات بحثا عن داع للأمل؟ فمعرفتنا بوجود حضارة أخرى ناجية مما تواجه من تحديات قد يعيد إلينا الطمأنينة. وفيما نرجو النجاح في اكتشاف حياة أخرى والاتصال بها، أو حتى التوصل إلى أننا لسنا بمفردنا في الكون قد يكون كشفا يساعد في توحيد سلالتنا. إن رسالة آرسيبو تحاول تأسيس لغة مشتركة مع سلالات أخرى من خلال الرياضيات والعلم، وهما موضوعان يجدر بهما أن يكونا مفهومين فهما مطلقا لدى أي مهندسين خارج الأرض قادرين على إقامة مستقبلات إذاعية. تتألف الرسالة من 1679 نبضة إذاعية، ينبغي تنظيمها في صورة ثنائية الأبعاد تتألف من ثلاثة وسبعين سطرا، في كل سطر ثلاثة وعشرون حرفا. وعند فك شيفرتها، تبدأ الرسالة بالعد من عشرة إلى واحد في النظام الثنائي، ثم تسرد العناصر الأساسية اللازمة للحياة على الأرض من خلال أرقامها الذرية. وتمضي الرسالة فتوضح المعادلات الكيميائية التي تجمع هذه العناصر في تكوين اللبنات الأساسية للحمض النووي. ويتزاوج مع شكل اللولب المزدوج (وهو البنية الجزيئية للحمض النووي) عدد الوحدات التي تؤلف الجينوم البشري. ثم يوصف البشر من حيث طول قامتهم وعدد سكانهم على كوكب الأرض. وثمة إشارة على شكل عصا تحوم أعلى مخطط لنظامنا الشمسي توضح أن سلالتنا تعيش على الكوكب الثالث بعدا عن الشمس. واحتفاء بالتكنولوجيا التي تجعل الاتصال بين النجوم ممكنا، تنتهي الرسالة بمخطط لتيلسكوب آرسيبو الإذاعي نفسه. في حال وصول هذه الرسالة إلى حضارة أخرى واستدعائها ردا، فسوف يكون أثر ذلك أن يغير العالم. فمن الناحية الإحصائية، ستكون أي سلالة نتصل بها من خارج الأرض على الأرجح أقدم كثيرا ـ ويرجى أن تكون أحكم أيضا ـ من سلالة الهوموسابينز. وفي حين أن الإنسانية حديثة العهد نسبيا بالأخطار الوجودية الناجمة من صنع أيديها (من قبيل الفناء النووي)، فإن أي حضارة نتلقى رسالة منها ربما أدركت استقرارا ودواما يستعصي حتى على تخيلنا. وحتى لو أن ردهم لم يتجاوز في بساطته تأكيدا لتلقيهم الرسالة، فمعرفة أن بالإمكان النجاة من التهديدات الضخمة المماثلة سوف تكون معرفة عميقة. لكن الالتزام بهدف الاتصال بحياة فضائية ذكية يستوجب أكثر من محض رسائل إلكترونية مبعوثة عشوائيا في الفضاء شأن رسالة آرسيبو. فذلك يحتاج إلى سعي دائم؛ لأن التواصل العابر للنجوم بطيء أشد البطء. فمجموعة (إم 13) بعيدة للغاية عن أن تكون الهدف المثالي لتأسيس تواصل مع حضارة أخرى. والرسالة الإذاعية تستغرق خمسا وعشرين ألف سنة لكي تقطع مسافة خمسة وعشرين ألف سنة ضوئية. وفي حال تلقينا ردا فوريا على رسالتنا الأولى، فلن يكون ذلك قبل خمسين ألف سنة على أقل تقدير. من المؤكد أننا قادرون على ما هو أفضل. فيجب أن نستهدف أنظمة نجمية أقرب إلى الأرض من قبيل بروكسيما سنتوري الذي يقع على بعد أكثر قليلا من أربع سنوات ضوئية ويدور في فلكه كوكب صالح للحياة. وتوجيه رسائل إلى أنظمة نجمية في جوارنا المجري من شأنه أن يقلص بشكل كبير من الوقت اللازم لتبادل الإشارات. وكلما اقترب النجم من الأرض، ازدادت إشارتنا الإذاعية وضوحا للفضائيين، فيسهل استماعهم لرسالتنا. فعلى سبيل المثال، لو أننا بعثنا رسالة آرسيبو إلى نجم على بعد خمس وعشرين سنة ضوئية من الأرض ـ أي أقرب بألف مرة من إم 13 ـ سيكون احتمال اكتشافها أكبر مليون مرة. لماذا يجب أن نبدأ الآن؟ لأننا إن انتظرنا، فإننا نرجئ الاحتمال لأجل غير مسمى. هناك أكثر من مائة نجم في نطاق عشرين سنة ضوئية من الأرض. ولو كانت أي رسالة قد وصلت إلى أي من تلك النجوم قبل خمسين سنة، فقد نتلقى ردا اليوم. وفي نطاق خمسين سنة ضوئية، هناك قرابة ألف وثمانمائة نجم. ووفقا لأحد التقديرات فإن في نطاق مائة سنة ضوئية قرابة ستين ألف نجم. فقد يؤدي توجيه رسائل الآن إلى أول اتصال في غضون عقود أو قرون قليلة. لا يعني هذا أننا سوف نسمع ردا فوريا، أو سنسمع ردا أصلا. فمنذ اللحظة التي نبدأ فيها الإرسال وحتى القرون أو الألفيات التي نقضيها منصتين انتظارا لرد، قد لا يصادفنا غير صمت كوني هائل. لكن بمرور الوقت، سوف ندرك أنه من خلال التزامنا بمشروع ذي نطاق لم تشهد له الإنسانية مثيلا من قبل ـ ومواصلته برغم ما يحيط به من شكوك ـ نكون قد أصبحنا هذه الحضارة المستقرة الدائمة التي نبحث عنها طوال سعينا. كاتب المقال هو رئيس معهد ميتي الدولي ومحرر كتاب «Xenolinguistics: Towards a Science of Extraterrestrial Language». خدمة نيويورك تايمز |