إنها الأسمى من آيات التبريكات المحصنة بالنوايا الصادقة، نزجيها لسلطنة عُمان ولجلالة سلطانها المعظم وشعبها الكريم الأمين، فهذه البلاد عقدت حلفها مع الخير والنماء، وهي إذ تحتفل بعيدها الوطني فإنها تجعل من هذه المناسبة فرصة ثمينة للشكر والعرفان على ما قدمته لصالح شعبها وأمتها حين أهدتنا أكبر إنجاز في القرن العشرين، إذ قالت وأوفت بأن الأوطان تبنى وتعيش طويلًا قوية ومنيعة متى صح منها العزم، وصدق الوعد بإنجاز تتبدى ملامحه معاشةً في تدبير حياة أهلها تقدمًا وتنمية. إن الشعوب القادرة على إدارة شأنها الشخصي بصورة تعتمد الإيمان العميق بالتنوع وتحقيق أعلى درجات التعايش بين مواطنيها هي تلك التي استطاعت أن تخطو بفكرة الانتماء إلى المدى الذي يجعل كل شيء فيها ناطق باسم التطور وصريح في توظيفها سلطة أعلى من كل شيء، وكانت القاعدة التي تأسست عليها هذه البلاد متجاوزة قوانين البناء الاجتماعي التقليدية والتي تقول: إن إمكانية تغيير الواقع الاجتماعي أمر يقع خارج إرادة أفراده، وتتحكم فيه عناصر قاهرة تجعل من الأوضاع الداخلية في البنية الشاملة العليا قانون حتمي يفسر راهن المجتمع والصورة التي سينتقل إليها في المستقبل القريب، لكن أربعة وخمسين عامًا كانت كفيلة بتفكيك هذه القاعدة المتحججة بحتمية الأشياء والظواهر، فصح لعُمان أن تشير إلى أنه ليس كل شيء ما حتميًا، وأنه من الممكن أن يقدم المجتمع نفسه بشكل مختلف؛ مختلف في كل مرة. وهذا ما جعل فلسفة سلطنة عُمان تقول إن الطبيعة الاجتماعية ليست حَكَمًا على الظاهرة، بل هي لحظة من لحظات التعاطي والبناء فيها، وهذا يكشف عن رؤية عميقة حول قوانين التحول الاجتماعي للدرجة التي كرست بها سلطنة عمان وأضافت إلى دفتر علم اجتماع الشعوب أن التحول الجذري أمر ضروري طالما أنه يعمل من داخل البنية ويستهدف عناصرها الأكثر قدرة على إنتاج التفاعل، ليعيد تعريف وظائفها وصولًا إلى تمكين الإيجابي فيها ووضعه في مقدمة قنوات الاتصال والترابط مع جميع المكونات، إنه لدرس بليغ هذا الذي أنجزته سلطنة عُمان في منطقتنا العربية وهو السبب وراء القناعة الراسخة عندنا بأن التجربة العمانية في التعايش حالة تستحق الدرس بما أنها استطاعت وفي فترة وجيزة أن تعالج أم المشكلات في راهننا العربي، وهي أنها صالحت النموذج الحداثي وآخته مع أصالة مرنة جاعلة بذلك تجربة التعايش الاجتماعي فيها قانونًا اجتماعيًا يختبر فرضياته باستمرار ليتغذى على التعالي عن الفرقة وإعلاء أواصر التماسك بين مكونات الشعب.

إن فكرة البناء الاجتماعي جوهرية في علم الاجتماع وهي ثمرة سجال علمي واسع بين المشتغلين في هذا الحقل، بل حتى من ينتمون إلى حقول أخرى ذات صلة بالفاعلية الاجتماعية كالفلسفة وعلم السياسة وعلم الاقتصاد وفلسفة العلوم، وقد كان من مظاهر هذا السجال العلمي أن رفد علماء الاجتماع ومنهم فيلسوف العلوم الكندي إيان هاكينج (1936- 2023م) هذا الحقل بفرضية متماسكة حين قال: إن مسألة «البناء الاجتماعي» تطرح مشكلة أن الظواهر تبدو لنا واقعية وواضحة كونها نتيجة لتسلسل معين من العمليات الاجتماعية، لكننا لا نبصر الأبعاد المتشابكة التي تغطيها فكرة البناء الاجتماعي، إنه هنا يقول وبشكل واضح: إن أي ظاهرة تكتسب موضوعيتها عبر فحص ذاتيتها، وهو القول السابق بأن كل ظاهرة في المجتمع تشكلت واستقرت فإنها ما بلغت هذه الدرجة إلا بعد أن منحت نفسها موقعًا فعالًا في مجمل مظاهر السلوك الاجتماعي، وهذا ما يجعل تجلياتها قانونا حتميا وجب النزول عنده دون فحصه، لكن الجديد الذي أضافه هوكينج هو مقولته حول أثر التكوين الشخصي لمن يديرون هذه الظواهر ويتصرفون فيها، وهو أمر يتصل هنا في سلطنة عُمان بحكمة القيادة واتساع أفقها إذ ظلت تنظر إلى حقيقتها الاجتماعية كخط ناظم لعمليات البناء، وهي إذ استنفرت في هذا المجتمع مكامن العطاء والإحسان فإنها رسمت لنفسها خطة للتنمية والارتقاء بكل العُمانيين عبر تنويلهم الحق في قيادة هذا التغيير الذي يحقق آمال وتطلعات القوى الاجتماعية المختلفة، ولعمري هذا أمر يرقى لنظرية جديدة في الاجتماع الإنساني، نظرية تكشف عنها مسيرة هذا البلد المعطاء.

إن سلطنة عُمان أجابت عن أحد أكبر الأسئلة التي عجزت الكثير من المجتمعات العربية الإجابة عنها، وهو سؤال: كيف يمكن للتعدد في أطره كافة أن يصبح المدخل الوحيد لبناء المجتمع، ودوننا في ذلك ما تعانيه الكثير من دولنا العربية التي تحمل التنوع ذاته وإن كان بعضها أقل بكثير في هذا الجانب، لكنها لا زالت تعاني وبشدة من تطبيع العلاقة بين المكونات الاجتماعية المختلفة لتجعل من حضورها الثقافي طريقة لصناعة الوعي، وقد انبنت هذه الفلسفة على أن المكونات الاجتماعية بمثابة أشياء في الوعي وليست ظواهر ثابتة ومحصنة بالاستقرار، بل إنه من الممكن أن يتم تأليفها وبنائها وتجميعها في بوتقة واحدة، ومن هنا يصلح أن نضع شعارًا لهذه المسيرة الظافرة بأنها مسيرة زاوجت بين المنظور البنائي والمنظور الواقعي ما جعل تغيير المجتمع هدفًا في ذاته، هدف يريد أن يمنح المجتمع بكافة تشكيلاته القدرة على التعبير عن نفسه بحرية وبلاغة منتجة، وهذا هو الغائب في سياق الظاهرة الاجتماعية العربية.

إن تاريخ سلطنة عُمان نغمة مشحونة بثقة بالغة في شعبها، ثقة استقرت في وعي كل عماني، إذ هو ابن لقيادة تريد له الخير كله، وتستثمر في ذلك تشغيل كل القوى الثقافية فيه تحت هدف واحد، وهو أن يصنعوا لأنفسهم حاضرًا مجيدًا ولأبنائهم وطنًا جميلًا عقيدته الوفاء ومذهبه المحبة..

إلى سلطنة عُمان في عيدها لا نملك إلا أن نقول حفظ الله هذا البلد الاستثنائي، وأكرم شعبه الكريم، ولو كان الأمر لي لجعلت قلبي في يدي وصافحت به عُمان وأهلها.. عيدكم مجيد..