**media[2845426]**

تساؤل وجودي وحضاري عميق هو ما فعلته المبدعة الفلسطينية، ابنة يافا عروس فلسطين:

«لقد أتاحت لي كتابة هذه القصص فرصة التأمل في أفكار راودتني منذ الطفولة ولا تزال: كيف كانت ستكون عليه الحياة في فلسطين لو نجت من السلب والفقدان المأساوي لأرضها والطرد القاسي لشعبها؟ ماذا لو أتيح لنا أن نستمر في العيش بأمان في بيوتنا، قرانا، ومدننا، ماذا لو أتيح لنا أن نعيش الرفاه والاستقرار، بشكل متواصل دون انقطاع بسبب توترات الحرب والاحتلال والمنفى؟ ببساطة، كيف كان سيكون الوضع عليه لو أتيح لنا، كأفراد وكأمة، أن نسعى وراء شغفنا وأحلامنا؟ مع أن هذا الكتاب لم يحررني من هذا الحلم المستحيل، إلا أنه حملني على جناح «عودة» ذهنية متخيلة إلى يافا وفلسطين المفقودة».

**media[2845428]**

وهو تساؤل سبق أن فعله آخرون مرددين، بأن فلسطين كان يمكن أن تكون مثل جنوب أوروبا لو لم تتعرض للاحتلال. وهو ما يذكرنا بصك الانتداب البريطاني على فلسطين حين اعتبرها من البلاد الأكثر استحقاقا للاستقلال بعد الحرب العالمية الأولى، بما كانت له علاقة بواقعها السياسي كجزء من السلطنة العثمانية.

فاجأتنا الفنانة فيرا تماري، الكاتبة الآن، بهذا المستوى من كتابة أدبيات تستخدم السرد الاستعادي من جهة، بالاستفادة من ذاكرة طفلة صغيرة، نمت بذاكرة الأهل، خاصة ما وفرته الصور الفوتوجرافية الناجية من النكبة، كذلك الروايات الشفوية. بالإضافة لبحثها الخاص عن مصائر شخصيات الكتاب - الصور، وأكثر ما ظهر ذلك في «من هو ارنست».

ولعل الكاتبة هنا مسكونة بيافا وفلسطين عام 1948، بما حملته من مشاعر وطنية وحنين جارف، كذلك وعيها على الحداثة الفلسطينية التي امتدت من أواخر القرن التاسع عشر حتى عام 1948، حيث اختارت الكاتبة زمن أرشيف والدها فايق تماري المصور الممتد من أوائل العشرينيات حنى النكبة.

**media[2845430]**

إننا إزاء فردوس فيرا تماري المفقود، الذي يصعب عليها نسيانه، كأنها ترى أن العودة الذهنية ستكون عودة حقيقية في قادم الأيام؛ حيث إنها لم تتقبل يوما عدم العودة: «الروايات الناتجة بطبيعتها ليست فقط عن الخسارة والتهجير، ولكنها تحث القارئ على التذكر والتجديد كأدوات وإن كانت حاليا ذهنية، لكيف نعود». أي أنها من خلال هذا العمل تضع خطة العودة.

ولعل اقتباس سهى شومان فيما كتبته على الغلاف قول جورج أورويل: «كل من يتحكم بالماضي يتحكم في الحاضر، وكل من يتحكم في الحاضر يتحكم في المستقبل»، سيعني شيئا هنا.

سكنت يافا وأحداث أسرها ذاكرة فيرا تماري وقلبها ووعيها، من خلال دوام تواصلها مع الأهل من جهة، ومن خلال الصور الفوتوغرافية، كأن الطفلة التي كانتها فيرا إنما كانت تنتظر مثل اللاجئين العودة إلى هناك «يافا».

بعد عقود على التهجير القسري، ومن خلال وقوع فيرا تماري، تحت وطأة الحنين، راحت تحاكي إبداعيا بعضا من تلك الصور بين السنوات 1989 و1996فأنجزت خمس عشرة لوحة طينية بارزة.

يبدو أن وجود ألبومات الصور العائلية التي نجت من الاستلاب ظلت تذكر الطفلة الصغيرة بيافا، خاصة في السنوات ما بعد عام 1948، إضافة إلى الروايات الشفوية اليومية التي كانت تسمعها فيرا تماري الطفلة والفتاة. قصص الوالدين والعمات والخالات والجدات من عائلات تماري ودباس وعبده.

امتلك والد فيرا فائق تماري في أوائل العشرينيات من عمره كاميرا «روليفليكس»، حيث راح يصور ما يراه حوله، خصوصا ما جدّ من عادات مدنية من مناسبات وتجوال هنا وهناك. ويبدو أن خلفية الصور التاريخية كانت حاضرة، في ظل الانتداب - الاحتلال البريطاني.

**media[2845427]**

لقد عاشت فيرا مع صور والدها، وهو الإرث البصري عن يافا، حيث احتفظت الأسرة بها كألبومات عائلية؛ فلم يكم هناك توقع بأن هذه الصور ستصير وثائق تاريخية بل نصوصا سردية مهمة، تستعيد من خلالها فيرا تماري أيام يافا. ويبدو أن فيرا تماري استفادت معلوماتيا من والديها والأهل والأقرباء والأصدقاء، بمعنى أنها راحت تبحث عما لم تعرفه تماما عبر سماع قصص الآخرين عن الصور أو من يحضرون فيها.

بعد 27 عاما، ولأنها ظلت تحت تأثير ذلك الحنين/ الوعي، راحت تكتب تلك القصص التي في الصور، فكأنها لم تشبع نفسها من فعل المنحوتات الطينية. لربما من هذا الوحي كتب رجا شحادة على غلاف الكتاب واصفا يافا الساحلية بالقريبة البعيدة.

بدأت فيرا تماري برحيل جدها وجدتها لأنها، نقولا واديل إلى الإسكندرية عبر مطار اللد، مذكرة بهذه العائلة العريقة، حين أسست عائلة الدباس عام 1830مصنع الصابون، والكنيسة فيما بعد، وكم كان مؤثرا سردها عن رواية الأم بعد عام 1967، حين تيسرت لهم العودة ليافا للزيارة فقط، بعد أن تم توحيد فلسطين التاريخية تحت الاحتلال. «المنزل عام 1967، «كان لا زال قائمًا، ولكنه بدا متداعيا والحديقة مهجورة». جميل كان وصفها المكتمل وللجد الجاد والعمليّ وحب الحياة والترفيه من خلال النزهات على بحر يافا.

اختتمت تماري هذا الفصل بجرعة شجن كبرى، تتعلق بمآلات المهجرين من العائلة الذين توفوا خارج يافا: إسكندرية ودمشق والدار البيضاء ورام الله وبيروت واللاذقية وبيرث بأستراليا.

في فصل «أصدقاء الوالد فايق»، الذي أفاضت فيه عن حياة شباب من الطبقة الوسطى كلهم حب للحياة والتحديث، نقتبس تخيّل فيرا تماري أيام يافا: «يغلبني الحزن في زياراتي النادرة إلى يافا. أرى مدينة تكافح من أجل الحفاظ على هويتها الحقيقية، هوية بناها وكوّنها أهلها على مدى آلاف السنين، وليست هوية مستعارة لهؤلاء القادمين الجدد المحتلين. أنظر داخل بعض نوافذ المنازل في الأحياء القديمة التي تغيرت الآن وأحاول أن أتخيل وجود عائلات يافيّة: تماري، ظريفة، دباس، الخالدي، روك، غرغور، العامري، عبد الرحيم، وعبد النور، هناك في داخل تلك البيوت، أتخيل سكانها يواصلون إيقاع حياتهم اليومية كما كانت عليه قبل أربعة وسبعين عامًا. أتخيل رجلًا فلسطينيًا جالسًا في شرفته يشرب قهوته الصباحية ويدخن سيجارة ويلوح محيّيًا أصدقاءه ومعارفه أثناء مرورهم. في نافذة منزل آخر، هناك امرأة تعد أطفالها للمدرسة بينما ينبح كلبهم الأليف بإلحاح في محاولة للفت الانتباه إلى حاجته للطعام. أما في منزل آخر، أستطيع رؤية عمال النظافة ينظفون المكان استعدادًا للحفلة التنكرية المسائية ويمكنني أن أتخيل والدي على الهاتف وهو يخطط بلهفة لزيارة استوديو التصوير مع صديقه جان ظريفة - فقد حان الوقت لالتقاط صورة شخصية أخرى..».

من جهة أخرى، شكلّ نص فصل «نزهة في الخليل» 1927 الذي روى حياة الوالد فائق تماري موظفا زمن الانتداب البريطاني في مدينة الخليل، بيان كيف كانت حياة مواطني الخليل من أديان مختلفة بعيدا عن العنصرية، من خلال علاقة عائلة أسرتها بعائلة يهودية، ما يعني تأمل التعددية الطبيعية في فلسطين التي ضربتها الحركة الصهيونية في مقتل.

أما فصل «على الشرفة»، فقد أوضح علاقة رام الله البلدة الصغيرة بيافا بل وكشف سرّ وجود مظاهر التحديث في رام الله، المدينة الجبلية الصغيرة. وتعرفنا على حياة اليافيين الذين كانوا يقضون جانبا من فصل الصيف في رام الله المشهورة كمصيف جميل. ظهرت الحياة الفندقية، وقد ضمن الفصل صورة من صحيفة مرآة الشرق عن حفلات فنية منها حفلة اختيار ملكة جمال. إنه حراك اجتماعي عظيم بين يافا مدينة البحر وبين رام الله مدينة الجبل، التي لا تبعد عنها كثيرا.

ولعلنا نقدم الحديث عن فصل «عطلة استثنائية» كونه يتعلق بالعلاقة بين يافا وبيروت. يتحدث النص عن بيروت 1950، أي «خارج الإطار الزمني الذي اختارته تماري أي من بداية العشرينيات حتى 1948»، لكن ما ورد فيه من استعادة يجعل النص ضمن الإطار، كونه سرد عن الرحلات قبل عام 1948، من مطار اللد إلى مطار بيروت قبل النكبة، وبعدها ولكن من خلال مطار القدس.

في «أحلام غير مكتملة»، نقرأ بتشوق قصة عمتها ألكسندرا الفتاة الصغيرة التي تسافر إلى دمشق، بصحبة أخيها فائق لاستعطاف جمال باشا التركي لتسريح أخيهما عبدالله من الخدمة العسكرية، الذي سمح لها بالتقدم، عندما رأى الحراس يبعدونها، فخاطبته بالفرنسية ووعدها خيرا.

فاجأنا فصل «امرأة وراء الباب»، الذي كرسته عن والدتها مارجريت، والتي روت عنها تاركة مسافة (الأم-الابنة) فكأنها تتحدث عن امرأة طموحة تكتب باللغة الفرنسية، ليلة زفافها عن طموحها وأفكار تراودها، وهي تصور علاقة مارجريت بالطبيعة، وظهر الوالد هنا عاشقا لها. ثمة دلالات ثقافية واجتماعية عن المرأة الفلسطينية الباحثة عن دور خارج المنزل.

«من هو ارنست»، أحد شخصيات أرشيف الصور الفوتوجرافيا، نص مشوق لا لتعرفها هي عليه فقط، بل والقراء أيضا، حيث تعثر عليه:

«بعد أن كتبت مؤخرًا رسالة تعزية عبر الإنترنت لعائلة أبكاريوس في كندا أعزيهم بوفاة مايكل أبكاريوس، تفاجأت بأول رد وبأول اتصال ملموس مع العائلة.

استجابت فيرا أبكاريوس، الأخت الأصغر لبرنارد ومايكل، لرسالتي برسالة لطيفة جدا قالت فيها: إنها بالفعل سمعت عن أبي، فائق تماري، من والديها مضيفة ملاحظتها بأننا نحمل نفس الاسم، «فيرا»، وهذا قد لا يكون من قبيل المصادفة. أتطلع لمراسلات مستقبلية مع فيرا أبكاريوس لاستكمال قصتي حول من هو والدها، إرنست، لربما كونت فكرة أوضح عن تلك الصداقة بينه وبين والدي».

«امرأتان من يافا ولعبة ورق الشدة الصينية» وهو نص خارج الإطار الزمني تتحدث الكاتبة الوالدة وزوجة عمها، ولعلنا نقتبس:

«لقد نشأتا كلاهما قبل النكبة في مجتمع يافا المنفتح والمتنوع. لم تتوقف ماري أبدًا عن الإشارة إلى هذا التمييز؛ غالبًا ما كانت تبدأ بـ «إحنا في يافا» ... (نحن في يافا)، وتستخدم المضارع في سردها، وكأنها لا تزال تعيش هناك بالفعل. كانت تتذكر بحنين انفتاح محيطهم الاجتماعي، وحرية اختلاط الشبان والشابات بحرية في النادي «كلوب» (كما كانت تشير إليه بالفرنسية) يمارسون لعبة التنس والسباحة ويشاركون في حفلات رقص مختلطة». كم كان لافتا للنظر انتباه الكاتبة لاستخدام ماري الفعل المضارع، ولعل ذلك ينسجم مع اتجاهات الكاتبة التي ترى نفسها ما زالت تعيش هناك أيضا.

وبعد، فقد أبدعت الكاتبة في كتابة النص وتحليل الصور ودلالاتها اعتمادا على حركة التصوير واتجاهاتها الاستشراقية في ذلك الوقت، وظهر لنا نص متحرر من اللغة الجمالية الثقيلة، كما تحرر من الشكل التقليدي والمضمون النمطي. ثمة نزعة وجودية في النصوص، منها تخيّل الكاتبة فيرا نفسها مكان أمها التي تقف في إحدى الصور.

إن خبرة الفنانة تماري في الذاكرة والتاريخ والمرأة والمشهد الطبيعي الفلسطيني، أضفت الكثير من الوعي على النص.

إنها سيرة ذاتية عائلية، من خلالها ظهرت يافا وطبقاتها، خاصة الطبقة المتوسطة المثقفة التي كانت تتأسس في فلسطين والمدن العربية قبل عام 1948. سيرة ذاتية، ووجودية من خلال تجليات المكان والزمان اللين استلبا.

ونختتم بكلمات المحررة «فنيتا جوبتا» المتخصصة بالرواية والسيرة الذاتية، حين نحت منحى مقارنا: قد تستجلب الأحداث التي مرت على عائلة فيرا لدى القارئ أو القارئة، كما حدث معي شخصيا.. وجدت الكثير من أوجه الشبه بينهم وبين حياتي في الهند، إذ ترك الاستعمار البريطاني نفس الإرث الكولونيالي في كلا البلدين: اللغة الإنجليزية، والمدارس التبشيرية، والنوادي الثقافية والمعمار الكولونيالي. ولم يخلُ هذا الإرث في الحالتين كلتيهما من الانقسامات والحدود المفروضة التي مزقت عائلات بأكملها، وقرى، ومدن، وما زالت الصدمة النفسية التي نتجت عن تقسيم الهند والباكستان تؤثر على حياة الملايين حتى اليوم».