يمكننا الآن أن نطلق اسم بيروت على لبنان، أو أن نستعير لبنان لبيروت؛ فقد أصبح تاريخ البلاد منذ الاستقلال يعكس بشكل ما هذا التحول التدريجي للريف الذي كان نواة البلد ومصدره الأصلي بكل المعاني وعلى كافة المستويات، وتراجع بدأ بهجرة متتالية لم تلبث أن شملت البلد كله، واتجهت إلى إفريقيا وإلى الأمريكيتين، وصاحبها بالدرجة نفسها نزوح إلى المدن، وكانت الحصة الكبرى من ذلك لبيروت التي استقبلت أقوامًا من جميع الجهات، كان هذا النزوح إليها لفترة طويلة متسارعة الحلقات لدرجة خيالية، مخاضًا أول لتاريخ لبنان، بل هو بدايات التاريخ الحديث والأخير للبنان، الذي هو تاريخه الراهن، بل يمكن القول: إنه بكلمة واحدة التاريخ اللبناني بيروت كانت بحق عمدة ذلك وركيزته ونواته الأولى، بحيث يسعنا القول: إن لبنان الحالي كان يتأسس هنا، إننا حين نتكلم عنه، نتكلم عن هذا التفاعل والحراك الهائل الذي كانت بيروت وجهته ومنتهاه، بل نحن هكذا نفهم أنه لم يعد للريف حياة منذ أن بدأ عصر آخر، بل إن تعاقب الوقت عليه، الذي كان يشمل كساد الزراعة وتوالي الحروب الأهلية والهجرات المتصلة، أدى إلى حراكه البطيء والصامت وخرابه بالوتيرة نفسها، لدرجة الخلو والانجراد، لقد بدأ الريف هكذا يتحول إلى ساحة للمتقاعدين والشيوخ، وهذا بالطبع لا يمنع استمراره كأصل بعيد، ولكن بالرغم من ذلك، ظل ولو شبحًا أو ظلًا أو أصلًا أول لبُنى راكزة لا يزال لبنان يعيش في ذاكرتها، ولا تزال تدمغ روايته عن نفسه، بل لا تزال -وقد تهالكت مادتها وابتعدت وصارت ذكريات- صنمًا تاريخيًا وموضع استعادة حنينية، واسطة قائمة، شيء كالعائلة والمنطقة والطائفة لا تزال من بعيد ركائز للكيان اللبناني، بالطبع، تبقى هذه عناوين بعد أن تغلغلت هي في بنى أحدث وأوسع، والريف هذا كلغة وعناوين ثقافة، لم يغرب مع غروبه عن الاقتصاد والمعاش، فهذه العناوين عاشت أكثر، وحفظت نفسها بقدرتها على التحول والاستبدال والامتصاص.
تطور لبنان لم يكن في أي مكان بالزخم والسرعة اللتين كانتا له في بيروت، ولا يعني ذلك البتة أن هذا التطور ابتعد بالكامل عن الأصول الأولى للمجتمع نفسه، والأصول العشائرية والعرقية والطائفية، لقد بُنيت العاصمة وتكوّنت من عناصر وعوامل صدرت ونتجت عن أعراف تكونت قبلها، بل كانت في الحقيقة من فوائضها.
بيروت، التي كانت واحدة من المدن العادية في الساحل اللبناني، ما لبثت أن توسعت بحكم حربين أهليتين دارتا في جبل لبنان وفي دمشق، حربين طائفيتين بين الدروز والمسيحيين، ومن هاتين الحربين تدفق المسيحيون إلى المدينة، وكانت الحرب الأهلية ثمرة التكوين العشائري وراء توسع المدينة، وهكذا لا يمكننا أن نفصل قطعًا بين المدينة وما يسبقها، والواقع أن ما يتمدد وما يتوسع في المدينة هو ما يصدر إليها من أمكنة وعلاقات ورؤى سبقتها، تحولت أو تتحول فيها، والمدينة هكذا ترث وتوسّع وتراجع وتبدّل فيما تراه، وبيروت فعلت ذلك، فعلته بسرعة مذهلة وبزخم هائل لم يسمح لها بأن تتمايز عنه، أو ترسي مكانه ما يختلف جذريًا عنه، ولم تكن الحرب الأهلية فقط وراء نمو المدينة، بل بدا واضحًا أن هذا الإرث هو من أركان المدينة، إذ صارت بيروت مستقرًا لحروب أهلية متتالية، بحيث بدا أن هذا تاريخها الذي هو أيضًا تاريخ البلد.
المدينة التي تحوي الآن أكثر من نصف البلد هي العاصمة أولًا، وهي الثقل الاقتصادي، وهي الدولة في بلد لم يستطع العسكر أن يسطوا على سلطته، ولم تتمكن قشرة اجتماعية من مؤسسة مهنية أو عشيرة أو وظيفة من السيطرة وتحويل الدولة بذلك إلى هامش حاكم، هكذا بدا لأول وهلة أن بلدًا مثله يمكنه صناعة دولة، بالمعنى الدارج لها، دولة تقابل الأكثرية، وتتوسط بينها، وتطرح مشروعًا شاملًا، وترعى قانونًا واحدًا يؤمن المساواة، لقد بدا بعد أن غادر الاستعمار أن لهذا المشروع مقوماته الاجتماعية والثقافية والسياسية.
وكان هناك إلى جانب ذلك، الثقافة التي حفظت شيئًا من الإرث الكولونيالي، شيئًا من التغريب الذي يسمح بالتعدد، والليبرالية، ومشروعية الاختلاف.
لقد بدا أن للبنان مشروعًا مقبولًا أو متحفظًا عليه في المحيط العربي لغير سبب، من هنا كسب لبنان في المنطقة سمعة خاصة وبدا نموذجًا حاضرًا، بدا أنه من الأقلية التي تملك مستقبلًا وتتطلع إلى أفق، ومن البديهي القول: إن هذا التعدد ما لبث أن انقلب على المشروع كله وأحاله إلى قصة دامية، نشهد اليوم أحدًا من فصولها، لبنان الذي كان أملًا لكثيرين من داخله ومن خارجه، ينذر اليوم بأن مشروعه انتهى أو كاد، ولم تستطع النخب أن تكون سائدة أو أن تنشر ثقافة بحجم الأمة أو الشعب.
هكذا انزلق الخلاف ليصبح داميًا، وتحول معه مشروع الدولة والمجتمع إلى وهم، وما كنا نطلق عليه «المعجزة اللبنانية»، التي كانت مستغلقة على التفسير وتقارب كمعجزة، تتعرض اليوم لما يكاد يكون زوالًا، بل إلى ما يشبه الفضيحة، والآن لم يعد لبيروت ما كان يُعد امتيازها، إنها الآن تواكب المنطقة في كل شيء، بل إن دولًا أخرى في المنطقة تتجاوزها فيما كان يُعد خاصيات لها، التغريب على سبيل المثال، لم يعد وقفًا عليها، وفي هذا المجال لم تعد الأولى، أما في تلك المزاوجة بين التراث والوارد الغربي، فهي الآن سائرة في العديد من البلدان التي تقدم في كل منها نموذجها الخاص، وإذا عدنا إلى كتابات لبنان الاشتراكي منذ أواسط قرن تقريبًا، سنجد أن ما عُدَّ في حقبة امتيازات لبنان كان يعوَّل بالدرجة الأولى على مصادر عربية في تلك الآونة، واعتُبر بعضها كارثيًا، كالمسألة الفلسطينية التي أفضت على الأقل في عنوانها إلى أنظمة عسكرية كانت في واقعها رأسماليات دولة، وأفضت إلى هروب رساميل إلى البنوك اللبنانية، ثم كان النفط أحد العوامل التي كان لها نتائجها على الوضع اللبناني، وإذا وقفنا عند هذا التحليل نفهم أن هذه المعجزة فقدت مع الوقت كل مقوماتها، وتطور الأوضاع العربية لم يترك لها فرصة، بل انقلبت عليها وأفرغتها بالتدريج، إلى أن أتى الوقت الذي بدت فيه هذه المعجزة بوارًا، ولم تترك خلفها سوى هذا التآكل والهبوط التدريجي.
ثمة غطاء تاريخي لكل ذلك، هو الحروب الأهلية الملحوظة، ويمكن القول: إن هذه الحروب كانت بسبب الموازاة بين الطوائف في العدد والقوة، أو بالسعي إليها والصراع عليها، وبسبب التدخل الخارجي الذي كان في أحيان كثيرة نظيرًا للعامل اللبناني، وهذه الحروب التي كانت دائمًا عاملة ولو باستتار وإضمار، هي الأساس في بنية النظام اللبناني، وبه وبقوته كان يمكن امتصاص كل شيء وإيجاد مجارٍ أخرى لكل شيء، هنا كانت السياسة، وكان الاقتصاد، وبدون أن تنجو الثقافة، كان ذلك يحفر مسارات خاصة وإن بعناوين مختلفة، مسارات لها مزيجها وطوابعها التي تعمي على كنهها وحقيقتها.
يمكن القول: إن هذا ديدن المجتمعات العربية التي في جانب منها تعيش على حافة الحروب الأهلية، أو تضمر حروبًا أهلية، لكن الحروب اللبنانية كانت على نحو ما قادرة على أن تكون علانية، وبعناوين إيديولوجية، أساس نظام لم يعد أمامه سوى تكرار الحرب، بحيث يبدو بقيتها أو ذيلها أو صيغتها الضمنية.
ربما تكون الحرب الأهلية التي اندلعت في السبعينات إلى الآن، في حلقاتها وأطوارها وانتقالاتها، هي الصورة الراهنة للنظام اللبناني، وكانت العاصمة هي المسرح الرئيسي لهذه الحرب، ولقد تكوّنت في حلقتها الأخيرة من هذه الحرب، وهذا بالتأكيد وجد مظاهره في كل شيء، في السياسة بالطبع، ولكن على نحو أقل ظهورًا في الاقتصاد وفي الثقافة وربما من بعيد في الثقافة، وهكذا غدت الدولة نمطًا كرتونيًا لها، ومساحات للصراع عليها، وما يجري الآن من حرب راهنة قد يكون حلقة أخرى منها؛ إذ إن وقوعها على واحدة من طوائف البلد هو أيضًا من الخارج امتداد للصراع الأهلي، وهناك طائفة متهمة من قبل الطوائف الأخرى بجر البلد إلى حربها وبالاستيلاء على الحكم وعلى الدولة والتضامن الإنساني والاحتجاج بالتعايش والجيرة والأخوة لا يمنع من بقاء الاتهام والاستمرار فيه، ولا يمكن والحالة هذه أن نغفل عن الوجه الأهلي لذلك كله، كما لا يمكن أن ننسى أن في هذا التفضيل على الطائفة المتهمة بكل ذلك درسًا أخلاقيًا لا يبتعد عن الحرب ولا ينفيها، وهذا الكرم يمكن اعتباره أهليًا، ويمكن الحديث هنا عن ترييف المدينة الذي يؤدي ولو بقليل من الاختلاف إلى استقرار طوائف بعينها في مناطق تغلب هي عليها وتغدو لها، وهذا بالطبع خلفية الحرب، وفي بيروت، بل ولبنان كله، بدأت في ماضٍ قريب تغييرات في السكن، وصرنا نجد في منطقة آخرين من غير طائفتها، كما صرنا نجد زيجات مختلطة، وكان هذا فعل نخب لم تكد تظهر حتى باغتتها الحرب، ومع ذلك بقيت تفعل حتى انفجر عام 2019 وخرج من ذلك ما سُمي «ثورة»، لكن هذه النخب لم تكن بالقوة الكافية، فكان هذا الانفجار عسيرًا عليها، وكان غير قادر على الصمود، فتراخت الثورة التي لم تجد دولة مقابلها، بل مجتمعًا منقسمًا.
قد يكون مهمًا أن نعود مع ذلك إلى النخب المثقفة التي خسرت ثورتها، لكنها أُجبرت بذلك على أن تزداد انعزالًا وتفردًا، ويمكننا أن نتكلم عن الثقافة، والفكر، والأدب، والفن خصوصًا، بوصفها جزءًا أساسيًا من امتياز لبناني، وبيروت هي الآن حصنه ومركزه.
ليس في قدرة الأدب أن يملك وتيرة النزاعات السياسية، وليس هذا في إمكان الفكر أو الفن، وإذا كان لنا أن نتحدث عن الأدب، عن الشعر والرواية، فإننا بالطبع نتكلم عن مبانٍ لها تاريخها ولها تراثها ووجودها، وهنا قد يكون من خواص الأدب اللبناني هذه المزاوجة بين التراث الموروث والوارد الغربي، وليس أدباء المهجر الأمريكي اللبنانيين سوى ذلك، ويمكننا أن نقرأ جبران ونعيمة على هذا النحو، فلقد أحدث جبران شيئًا في الكتابة العربية، ولا بد أن من تابعوه فعلوا الأمر نفسه، ولم يكن استثناءً أن ذلك نشأ في المهجر الأمريكي، وغيّر هؤلاء في الفصاحة العربية والجملة العربية؛ لكننا مع ذلك لن نجد لبنانية هذا الأدب إلا هنا، وكنا أمام انقلاب في اللغة والأسلوب بحق، لكن الحرب -مضمرة أو ظاهرة- هي التي أوجدت ما يمكن أن نعتبره أدبًا لبنانيًا، وفي الحقيقة بقي الأدب شعرًا أو رواية فيما اعتبره النقاد حكاية ريفية، أو تفلسفًا، أو حنينًا وغناءً على هذا اللحن، ولم تكن بيروت -المدينة النامية- حاضرة تمامًا هنا، وكان الأدب حتى هذه اللحظة بين شعبوية ريفية، أو غناء رومانسيات، أو تفكر على طريقة مفردة.
ومع الحرب وفي مواجهتها كان هذا الصحو على واقع متدحرج متفاعل ومتنامٍ، واقع فرض نفسه بغليانه وهياجه وحرارته، وكانت الحرب هي الواقع، أو هي التي تريده واقعًا، وهذا ما كان في الرواية، وتقريبًا ما صار الشعر، وكان جيل الرواية الجديد يصنع ما يمكن اعتباره رواية، بل ما يرد الرواية إلى واقع، وفي الحقيقة كانت المدينة أمامها، المدينة بوصفها معدن الرواية ومنطلقها ومادتها، ولقد وجدت هكذا الرواية بمفهوم آخر، وجدت الرواية حقًا، والشعر كان في المقلب نفسه، وعادت بيروت في شعر خليل حاوي، لكن أيضًا في قصائد التفعيلة وقصائد النثر، ونحن هكذا أمام بيروت وهي تتنفس وتتململ في الرواية والشعر، ويمكننا أن نقول الكلام نفسه عن المسرح وعن الموسيقى والفن التشكيلي، ونحن في كل ذلك أمام روح، أمام تنوع وتخيّل وسردية مدينية، فيما لبنان يغرق، وفيما مدنه وواقعه قيد التمزق، يستمر في الفكر الذي يتشكل في مبانٍ وأطروحات تلامس الواقع وتتآلف بموازاته ومقابله وفيه، في فن له ركيزته وقواعده، وأدب يخرج من المدينة ويعود إليها.
تطور لبنان لم يكن في أي مكان بالزخم والسرعة اللتين كانتا له في بيروت، ولا يعني ذلك البتة أن هذا التطور ابتعد بالكامل عن الأصول الأولى للمجتمع نفسه، والأصول العشائرية والعرقية والطائفية، لقد بُنيت العاصمة وتكوّنت من عناصر وعوامل صدرت ونتجت عن أعراف تكونت قبلها، بل كانت في الحقيقة من فوائضها.
بيروت، التي كانت واحدة من المدن العادية في الساحل اللبناني، ما لبثت أن توسعت بحكم حربين أهليتين دارتا في جبل لبنان وفي دمشق، حربين طائفيتين بين الدروز والمسيحيين، ومن هاتين الحربين تدفق المسيحيون إلى المدينة، وكانت الحرب الأهلية ثمرة التكوين العشائري وراء توسع المدينة، وهكذا لا يمكننا أن نفصل قطعًا بين المدينة وما يسبقها، والواقع أن ما يتمدد وما يتوسع في المدينة هو ما يصدر إليها من أمكنة وعلاقات ورؤى سبقتها، تحولت أو تتحول فيها، والمدينة هكذا ترث وتوسّع وتراجع وتبدّل فيما تراه، وبيروت فعلت ذلك، فعلته بسرعة مذهلة وبزخم هائل لم يسمح لها بأن تتمايز عنه، أو ترسي مكانه ما يختلف جذريًا عنه، ولم تكن الحرب الأهلية فقط وراء نمو المدينة، بل بدا واضحًا أن هذا الإرث هو من أركان المدينة، إذ صارت بيروت مستقرًا لحروب أهلية متتالية، بحيث بدا أن هذا تاريخها الذي هو أيضًا تاريخ البلد.
المدينة التي تحوي الآن أكثر من نصف البلد هي العاصمة أولًا، وهي الثقل الاقتصادي، وهي الدولة في بلد لم يستطع العسكر أن يسطوا على سلطته، ولم تتمكن قشرة اجتماعية من مؤسسة مهنية أو عشيرة أو وظيفة من السيطرة وتحويل الدولة بذلك إلى هامش حاكم، هكذا بدا لأول وهلة أن بلدًا مثله يمكنه صناعة دولة، بالمعنى الدارج لها، دولة تقابل الأكثرية، وتتوسط بينها، وتطرح مشروعًا شاملًا، وترعى قانونًا واحدًا يؤمن المساواة، لقد بدا بعد أن غادر الاستعمار أن لهذا المشروع مقوماته الاجتماعية والثقافية والسياسية.
وكان هناك إلى جانب ذلك، الثقافة التي حفظت شيئًا من الإرث الكولونيالي، شيئًا من التغريب الذي يسمح بالتعدد، والليبرالية، ومشروعية الاختلاف.
لقد بدا أن للبنان مشروعًا مقبولًا أو متحفظًا عليه في المحيط العربي لغير سبب، من هنا كسب لبنان في المنطقة سمعة خاصة وبدا نموذجًا حاضرًا، بدا أنه من الأقلية التي تملك مستقبلًا وتتطلع إلى أفق، ومن البديهي القول: إن هذا التعدد ما لبث أن انقلب على المشروع كله وأحاله إلى قصة دامية، نشهد اليوم أحدًا من فصولها، لبنان الذي كان أملًا لكثيرين من داخله ومن خارجه، ينذر اليوم بأن مشروعه انتهى أو كاد، ولم تستطع النخب أن تكون سائدة أو أن تنشر ثقافة بحجم الأمة أو الشعب.
هكذا انزلق الخلاف ليصبح داميًا، وتحول معه مشروع الدولة والمجتمع إلى وهم، وما كنا نطلق عليه «المعجزة اللبنانية»، التي كانت مستغلقة على التفسير وتقارب كمعجزة، تتعرض اليوم لما يكاد يكون زوالًا، بل إلى ما يشبه الفضيحة، والآن لم يعد لبيروت ما كان يُعد امتيازها، إنها الآن تواكب المنطقة في كل شيء، بل إن دولًا أخرى في المنطقة تتجاوزها فيما كان يُعد خاصيات لها، التغريب على سبيل المثال، لم يعد وقفًا عليها، وفي هذا المجال لم تعد الأولى، أما في تلك المزاوجة بين التراث والوارد الغربي، فهي الآن سائرة في العديد من البلدان التي تقدم في كل منها نموذجها الخاص، وإذا عدنا إلى كتابات لبنان الاشتراكي منذ أواسط قرن تقريبًا، سنجد أن ما عُدَّ في حقبة امتيازات لبنان كان يعوَّل بالدرجة الأولى على مصادر عربية في تلك الآونة، واعتُبر بعضها كارثيًا، كالمسألة الفلسطينية التي أفضت على الأقل في عنوانها إلى أنظمة عسكرية كانت في واقعها رأسماليات دولة، وأفضت إلى هروب رساميل إلى البنوك اللبنانية، ثم كان النفط أحد العوامل التي كان لها نتائجها على الوضع اللبناني، وإذا وقفنا عند هذا التحليل نفهم أن هذه المعجزة فقدت مع الوقت كل مقوماتها، وتطور الأوضاع العربية لم يترك لها فرصة، بل انقلبت عليها وأفرغتها بالتدريج، إلى أن أتى الوقت الذي بدت فيه هذه المعجزة بوارًا، ولم تترك خلفها سوى هذا التآكل والهبوط التدريجي.
ثمة غطاء تاريخي لكل ذلك، هو الحروب الأهلية الملحوظة، ويمكن القول: إن هذه الحروب كانت بسبب الموازاة بين الطوائف في العدد والقوة، أو بالسعي إليها والصراع عليها، وبسبب التدخل الخارجي الذي كان في أحيان كثيرة نظيرًا للعامل اللبناني، وهذه الحروب التي كانت دائمًا عاملة ولو باستتار وإضمار، هي الأساس في بنية النظام اللبناني، وبه وبقوته كان يمكن امتصاص كل شيء وإيجاد مجارٍ أخرى لكل شيء، هنا كانت السياسة، وكان الاقتصاد، وبدون أن تنجو الثقافة، كان ذلك يحفر مسارات خاصة وإن بعناوين مختلفة، مسارات لها مزيجها وطوابعها التي تعمي على كنهها وحقيقتها.
يمكن القول: إن هذا ديدن المجتمعات العربية التي في جانب منها تعيش على حافة الحروب الأهلية، أو تضمر حروبًا أهلية، لكن الحروب اللبنانية كانت على نحو ما قادرة على أن تكون علانية، وبعناوين إيديولوجية، أساس نظام لم يعد أمامه سوى تكرار الحرب، بحيث يبدو بقيتها أو ذيلها أو صيغتها الضمنية.
ربما تكون الحرب الأهلية التي اندلعت في السبعينات إلى الآن، في حلقاتها وأطوارها وانتقالاتها، هي الصورة الراهنة للنظام اللبناني، وكانت العاصمة هي المسرح الرئيسي لهذه الحرب، ولقد تكوّنت في حلقتها الأخيرة من هذه الحرب، وهذا بالتأكيد وجد مظاهره في كل شيء، في السياسة بالطبع، ولكن على نحو أقل ظهورًا في الاقتصاد وفي الثقافة وربما من بعيد في الثقافة، وهكذا غدت الدولة نمطًا كرتونيًا لها، ومساحات للصراع عليها، وما يجري الآن من حرب راهنة قد يكون حلقة أخرى منها؛ إذ إن وقوعها على واحدة من طوائف البلد هو أيضًا من الخارج امتداد للصراع الأهلي، وهناك طائفة متهمة من قبل الطوائف الأخرى بجر البلد إلى حربها وبالاستيلاء على الحكم وعلى الدولة والتضامن الإنساني والاحتجاج بالتعايش والجيرة والأخوة لا يمنع من بقاء الاتهام والاستمرار فيه، ولا يمكن والحالة هذه أن نغفل عن الوجه الأهلي لذلك كله، كما لا يمكن أن ننسى أن في هذا التفضيل على الطائفة المتهمة بكل ذلك درسًا أخلاقيًا لا يبتعد عن الحرب ولا ينفيها، وهذا الكرم يمكن اعتباره أهليًا، ويمكن الحديث هنا عن ترييف المدينة الذي يؤدي ولو بقليل من الاختلاف إلى استقرار طوائف بعينها في مناطق تغلب هي عليها وتغدو لها، وهذا بالطبع خلفية الحرب، وفي بيروت، بل ولبنان كله، بدأت في ماضٍ قريب تغييرات في السكن، وصرنا نجد في منطقة آخرين من غير طائفتها، كما صرنا نجد زيجات مختلطة، وكان هذا فعل نخب لم تكد تظهر حتى باغتتها الحرب، ومع ذلك بقيت تفعل حتى انفجر عام 2019 وخرج من ذلك ما سُمي «ثورة»، لكن هذه النخب لم تكن بالقوة الكافية، فكان هذا الانفجار عسيرًا عليها، وكان غير قادر على الصمود، فتراخت الثورة التي لم تجد دولة مقابلها، بل مجتمعًا منقسمًا.
قد يكون مهمًا أن نعود مع ذلك إلى النخب المثقفة التي خسرت ثورتها، لكنها أُجبرت بذلك على أن تزداد انعزالًا وتفردًا، ويمكننا أن نتكلم عن الثقافة، والفكر، والأدب، والفن خصوصًا، بوصفها جزءًا أساسيًا من امتياز لبناني، وبيروت هي الآن حصنه ومركزه.
ليس في قدرة الأدب أن يملك وتيرة النزاعات السياسية، وليس هذا في إمكان الفكر أو الفن، وإذا كان لنا أن نتحدث عن الأدب، عن الشعر والرواية، فإننا بالطبع نتكلم عن مبانٍ لها تاريخها ولها تراثها ووجودها، وهنا قد يكون من خواص الأدب اللبناني هذه المزاوجة بين التراث الموروث والوارد الغربي، وليس أدباء المهجر الأمريكي اللبنانيين سوى ذلك، ويمكننا أن نقرأ جبران ونعيمة على هذا النحو، فلقد أحدث جبران شيئًا في الكتابة العربية، ولا بد أن من تابعوه فعلوا الأمر نفسه، ولم يكن استثناءً أن ذلك نشأ في المهجر الأمريكي، وغيّر هؤلاء في الفصاحة العربية والجملة العربية؛ لكننا مع ذلك لن نجد لبنانية هذا الأدب إلا هنا، وكنا أمام انقلاب في اللغة والأسلوب بحق، لكن الحرب -مضمرة أو ظاهرة- هي التي أوجدت ما يمكن أن نعتبره أدبًا لبنانيًا، وفي الحقيقة بقي الأدب شعرًا أو رواية فيما اعتبره النقاد حكاية ريفية، أو تفلسفًا، أو حنينًا وغناءً على هذا اللحن، ولم تكن بيروت -المدينة النامية- حاضرة تمامًا هنا، وكان الأدب حتى هذه اللحظة بين شعبوية ريفية، أو غناء رومانسيات، أو تفكر على طريقة مفردة.
ومع الحرب وفي مواجهتها كان هذا الصحو على واقع متدحرج متفاعل ومتنامٍ، واقع فرض نفسه بغليانه وهياجه وحرارته، وكانت الحرب هي الواقع، أو هي التي تريده واقعًا، وهذا ما كان في الرواية، وتقريبًا ما صار الشعر، وكان جيل الرواية الجديد يصنع ما يمكن اعتباره رواية، بل ما يرد الرواية إلى واقع، وفي الحقيقة كانت المدينة أمامها، المدينة بوصفها معدن الرواية ومنطلقها ومادتها، ولقد وجدت هكذا الرواية بمفهوم آخر، وجدت الرواية حقًا، والشعر كان في المقلب نفسه، وعادت بيروت في شعر خليل حاوي، لكن أيضًا في قصائد التفعيلة وقصائد النثر، ونحن هكذا أمام بيروت وهي تتنفس وتتململ في الرواية والشعر، ويمكننا أن نقول الكلام نفسه عن المسرح وعن الموسيقى والفن التشكيلي، ونحن في كل ذلك أمام روح، أمام تنوع وتخيّل وسردية مدينية، فيما لبنان يغرق، وفيما مدنه وواقعه قيد التمزق، يستمر في الفكر الذي يتشكل في مبانٍ وأطروحات تلامس الواقع وتتآلف بموازاته ومقابله وفيه، في فن له ركيزته وقواعده، وأدب يخرج من المدينة ويعود إليها.