سيظل باب بيروت مفتوحًا على وسعه أمام كل احتمالات الحياة والموت معًا، هكذا فقط يمكن أن تحيا بيروت، قليلٌ من الحب قد يكفيها لتفرح، مقابل موتٍ كثير يمرّ على جسدها بأشكالٍ متعدّدة تُحدث ندوبًا عميقة، ولكن حصيلة ذلك ليس فقط ضحاياها البريئون، إنما أيضًا كثيرٌ من الشعر والرواية والفن التشكيلي والمسرح والسينما، فذاكرة بيروت، الابنة الشرعية وشبه الوحيدة للحداثة العربية، ممتلئة بكل ذلك. كل مبدع كان ينبش حزن بيروت ويُعبّر عنه على طريقته في الحب، وإذ نشهد على دفق شعري ولوني عن حروب بيروت تمكنت من توثيق لغة المدينة المنكوبة وإحياء موتاها في الذاكرة الجماعية لكنها وثّقت أيضًا إصرار هذه المدينة على الحياة في آن معًا؛ ألم يقل الشاعر شوقي بزيع إن "القصائد التي كُتبت عن حصار بيروت في عام 1982 تضاهي بغزارتها عدد القذائف التي سقطت على المدينة في الفترة نفسها". هكذا يحلّ الشعر وكل فن عن بيروت مكان الحرب. هي حرب سائلة، تتوقف ثم تنطلق من جديد، وتترك وراءها دائمًا ثقوب الرصاص والشظايا في المباني والنفوس، ليتم حشوها بالقصائد واللوحات لتُشفى.

**media[2845297]**


  • قصائد لبيروت في زمن الحرب




خارطة بيروت شعريًا قديمة ومشتبكة إما بألم المدينة أو بحالة العشق لها التي تصيب كل من مرّ فيها، وربما كانت أقدم القصائد عن مأساة بيروت ما كتبه الشاعر اليوناني أغاتيوس اليوناني في سنة 566م عندما مرّ بالمدينة بعد تعرّضها لزلزال مدمّر، فإذ به يوثّق خراب بيروت:

"ها أنذا- المدينة التاعسة كومة من خرائب، واأسفاه.. إني لمن أشأم المدن وأسوأها حالًا، رأيت جثث أبنائي متراكمة في شوارعي وساحاتي، يا لتعاستي، مجسم الجمال أصبح رمادًا، هل تأسون لمجد بيروت، هل تبكون عليّ أيها العابرون الماشون فوق أطلالي، هل تسكبون دمعة حزن، هل تأسون لمجد بيروت؟".

ربما كان الشعراء، الذين عايشوا حبّ بيروت للحياة وتعاستها، يكتبون لها على قاعدة برتولد بريخت "لن يقولوا كان ذلك في أزمنة مظلمة، سيقولون: لماذا صمت الشعراء؟"، فانهمكت بيروت بكثير مما كُتب عن جروحها، كأنها امرأة قلقة تداوي خساراتها بما تجنيه من كلمات يصعب تتبّعها كاملة، ففي كل زمن كان ثمة من يداويها على طريقته، أما في أدبنا المعاصر فقد كانت قصائد الشعراء مثل قراءات تسجيلية لحروب بيروت؛ حروب تغيّر شكل المدينة كل مرة حتى لم تعد تشبه نفسها، يقول الفنان أحمد قعبور عنها "من الغريب فعلًا أن بيروت التي عاشها جدي لا يعرفها أبي، وبيروت التى عزفها أبي على كمانه بالكاد أعرفها أنا".

**media[2845298]**

قبل أن تعرف بيروت حروبها المعاصرة كتب الشاعر اللبناني بشارة الخوري (1885-1968) قصيدة يستشرف فيها ما سيمرّ عليها انطلاقًا ممّا كانت تعانيه هذه المدينة من مسامير تحت مسامات جلدها الطريّ القابل للجرح بسهولة، ومما يقول فيها:

"لهفي عليك أكلّ يوم مصرع/ للحق فيك وكل عيد مأتم/ والأمر أمرك لو رجعت إلى الهدى/ الحب يبني والتباغض يهدم/ ربّاه هل ترضى الشقاء لأمة/ ما أذنبت إلّا لأنك تحلم/ عدلٌ قصاصك كم نبي جاءهم/ وأراد أن يتجمّعوا فتقسّموا".

يصوّر الشاعر في هذه القصيدة الانقسامات التي تختزل هوية بيروت منذ تأسيس لبنان الكبير عام 1920 ويتوقع لها أن تظل منقسمة على ذاتها، ما يشير إلى رؤية عميقة لدى الشاعر لتكون قصيدته تظهير لصورة فوتوغرافية عن بيروت اليوم وكل يوم.

**media[2845299]**

أما الشاعر خليل حاوي فقد كتب قصيدة "ليالي بيروت" التي تنمّ عن إحساس الشاعر القلق والمنكسر مما حلّ بمدينته وربما بكل ما يحيط به في هذا العالم، إذ يقول:

"في ليالي الضِيق والحرمان/ والريح المدوّي في متاهات الدروب/ من يُقَوِينا على حَمل الصليب/ من يقينا سأم الصَّحراء/ من يطرد عنَّا ذلك الوحش الرهيب/ عندما يزحفُ من كهف المغيب/ إنّ في بيروت دنيا غير دنيا الكدح والموت الرتيب/ إنَّ فيها حانةً مسحورة/ خمرًا، سريرًا من طيوب/ للحيارى في متاهات الصحارى/ في الدهاليز اللعينة/ ومواخير المدينة".

يقصّ علينا الشاعر هنا حكايتان متداخلتان، تحاول الأولى أن تنفي الثانية، حكاية موت وحكاية حياة يدافع عنها حاوي، يتمسّك بها، فهذه الحياة لا تخصّه وحده، بل تخصّ كل أولئك القلقين الذين مرّوا على بيروت فهدّأتهم، وإذ ثمة تمرين على يأس ينقله الشاعر إلينا، فلا أمل للمدينة من الخلاص من طواغيتها الكبار، يقول حاوي:

"رُدَّ لي يا صبحُ وجهي المستعار/ رُدَّ لي، لا، أي وجه/ وجحيمي في دمي، كيف الفرار/ وأنا في الصبح عبدٌ للطواغيت الكبار/ وأنا في الصبح شيءٌ تافهٌ، آهِ من الصبحِ/ وجبروت النَّهار!/ أَنَجُرُّ العمر مشلولًا مدمًّى/ في دروبٍ هدَّها عبء الصليب/ دون جدوى، دون إيمانٍ/ بفردوسٍ قريب؟".

**media[2845300]**

ومن منا لم يسمع الفنانة اللبنانية ماجدة الرومي وهي تغني أبياتًا من قصيدة "ست الدنيا يا بيروت" للشاعر نزار قباني، وهي إحدى أجمل قصائد قباني، بل إحدى أجمل القصائد التي كُتبت عن بيروت، يوم حلّت بها حرب أهلية رسمت معالمها أيدٍ خارجية والتهمت عنقها وحوّلتها إلى خراب يخفت ثم ما يلبث أن يصعد؛ يقول قباني في قصيدته: "من شطب وجهك بالسكّين/ وألقى ماء النار على شفتيك الرائعتين/ من سمّم ماء البحر ورشّ الحقد على الشطآن الوردية/ هل نحن أتينا معتذرين/ ومعترفين/ أنّا أطلقنا النار عليك بروح قبلية/ فقتلنا امرأة كانت تُدعى الحرية".

وسلّم الشاعر محمود درويش بيروت قصيدتان عنها، وهو الذي عاش فيها بين العامين 1973 و1982. مطوّلتان شعرية بعنوان "بيروت" و"مديح الظل العالي"، كانت الأولى توثيقًا لما تعنيه بيروت للّاجئين الفلسطينيين وهو يقول عنها "بيروت خيمتنا الوحيدة/ بيروت نجمتنا الوحيدة"، والثانية توثيقًا لمأساة بيروت العام 1982، وغنّت ماجدة الرومي أيضًا من كلماتها، وممّا قال فيها:

"بيروت قلعتنا/ بيروت دمعتُنا/ ومفتاحٌ لهذا البحر...

بيروت قصَّتُنا/ بيروت غصَّتنا...

نامي قليلًا، يا ابنتي، نامي قليلًا/ الطائرات تضُّني/ وتعضُّ ما في القلب من عَسَل/ فنامي في طريق النحل/ نامي قبل أن أصحو قتيلًا/ الطائراتُ تطير من غُرَفٍ مجاورةٍ إلى الحمَّام/ فاضطجعي على درجات هذا السُّلّم الحجريِّ/ انتبهي إذا اقتربتْ شظاياها كثيرًا منكِ/ وارتجفي قليلًا".

إننا لسنا أمام قصيدة هنا أو ملحمة شعرية، هي أكثر من ذلك، نحن ندخل فيها كأننا ندخل في متاهة صورية، وننتقل مع كل سطر داخل مشهديات من فيلم توثيقي طويل يكاد لا ينتهي عن وجع بيروت، مشاهد مقتطعة من أسى عميق كانت تشعر به بيروت وتلمّسته روح الشاعر؛ التقط درويش لحظاتها بحساسية بالغة، كل مشهد هو دعوة لمأتم عن هذه المدينة الخائفة والمرتجفة والتي كانت آخر ما تبقّى لدرويش ورفاقه قبل تجدّد المنفى الذي عاينوه من على سطح مرفأ بيروت.

ولانكسار مرفأ بيروت قصائد أيضًا، احتجّ فيها شعراء بيروت على انفجاره في 4 أغسطس 2020 بنيترات الأمونيوم التي تعدّ أقوى مرتين من "أم القنابل" الأميركية. ومن بين من كتبوا عن انكسار بيروت في ذلك اليوم، الشاعر عبده وازن الذي كتب قصيدة "بيروتشيما"؛ عنوان يجمع بين "بيروت" و"هيروشيما" التي شهدت على أول قنبلة نووية ألقيت عليها يوم 6 أغسطس عام 1945، وقد صدرت قصيدة وازن بثلاث لغات، العربية، الإنكليزية، والفرنسية بعنوان "بيروت 4 أغسطس الساعة السادسة مساءً" عن منشورات لانسكين في فرنسا، ومما يقول وازن فيها:

"نسيم البحر يهبّ في الفجر فوق الخرائب/ سرب يمام يحلّق حائرًا فوق حطام المرفأ/ بكاء ما برح صداه يتردّد في الأفق/ راسمًا فوق بيروت قوس قزح رماديًا/ أمهات وأرامل ينحن وما من عزاء/ الجراح مفتوحة والعيون متورّمة/ شقيقات يبكين أشقاء/ آباء يبكون أبناء/ أبناء يبكون آباء/ نسوة باكيات ينحنين/ مثل صفصافات باكيات/ فوق حطام بشر ومدينة".

تبدو القصيدة تصويرًا حادًّا لمشهديات الموت الموزّعة في كل مكان عند مرفأ بيروت، وكأن كاميرا وازن تعدّ الموتى وتجمعهم في قصيدته لتأريخ الفاجعة، فتحيلنا إلى صدى موت مدينة بأكملها أكثر من كونهم ضحايا فقط. هي قصيدة شاهدة على مجزرة اشترك فيها عدد من "رجالات" الوطن، ما يذكّرنا بأعمال فرانسيسكو غويا السوداء ولوحته "ساتورن يأكل ابنه".

وفي العام 2021، أصدرت الشاعرة ڤينوس خوري غاتا، المقيمة في باريس، مجموعة شعرية بالفرنسية بعنوان "ابتعدوا عن نافذتي" عن منشورات "مركور دو فرانس" نقلها الشاعر هنري زغيب للعربية، وفيها قصيدة معنونة أيضًا بتاريخ الانفجار "بيروت 4 أغسطس 2020"، ومما تقول فيها:

"المصابيح والرفوش والأَيدي وجدت الكرسيّ/ ولم تجد من كان جالسًا على الكرسيّ/ ففي أيّ صفحة كان يقرأُها/ لم يكن ما يُنذر بالموت الآتي إلى بيروت/ ولا أن تتشظَّى الأبنية/ وتصَّاعد من تحت الأرض نداءاتٌ مذعورة/ وتنجرف الأنقاض مع فتات الوليمة الأخيرة/ شاخت الكتب/ ولم يبقَ من الأحياء سوى صوَرهم معلقةً على جدران/ لو كانوا يعلمون لكانوا بجلودهم لَفُّوا أَطفالهم/ لو كانوا يعلمون لَزَرَعوهم في أَرضٍ أَكثر ثقةً ينمون مع عشبها/ ولكانوا اندفنوا بأَيديهم ليوهموا الموت بما هو أكثر منه موتًا".

إنها قوة الانفجار، اختزلتها الشاعرة بكرسيّ وجدوه ولم يجدوا من كان جالسًا عليه، بأحياء لم يعودوا موجودين، بأطفال غابوا. إننا هنا أمام لوحات موجوعة لم تجد أجسادًا لتدفنها، تحاول الشاعرة تفكيك الصدمة فلا تجد غير التمنّي "لو" لإعادة الجسد لمكانه، لإعادة الوقت الذي لن يعود؛ ثمة كثافة مشهدية مخزّنة بشقاء مدينة، بموت يتمدّد فوقنا جميعًا، ما يذكّرنا بالنهايات التي تخطّها الكتب المقدّسة.

**media[2845301]**

وأصدر الشاعر عقل العويط ديوانًا عبارة عن قصيدة واحدة بعنوان "الرابع من آب 2020" (دار شرق الكتاب، 2021)، لا بل هي دفق شعري وكولاج شعري يتّحد مع الموتى جميعهم، معنا نحن الجالسون وراء الغيم نتعقّب الشعر والحزن، مع بيروت التي تراودها فكرة الانتحار، يقول العويط في مطوّلته الشعرية التي لا تكفيها سطور لتعريف وجعها:

"يجب ألّا تموتي/ من المحتمل أن تظلّي محكومة بأقدارك/ وأن تعبري جحيمًا تلو جحيم. لكنك لن تموتي/ يجب ألّا تموتي.

"يا مدينة الكبريت والصدأ/ لن يُؤويك ميناؤك بعد الآن/ ولا الأرصفة المعدّة لشحن البضائع على عجل/ ستنامين في المقبرة العارية/ بلا قمر عليك، بعد وقوع رجال الإطفاء والمسعفين في حقول مدجّجة بثأر الألغام/ وستُتركين للضباع والغربان، كما تُترك جيف مغدورة لتتدثّر بأحلامها المجهضة".

"هل حقًا بقي منك ما يبقى من الحياة بعد الموت؟"

ثمة شريط طويل من الخوف نسير وراءه ونحن نتبع عقل العويط، تستولي علينا القصيدة بتراجيديتها واستعاراتها الكافكاوية، إنها بيروت، سلّم الموت نزولًا، إيقاع لموت متواصل. يحكي الشاعر هنا عن موتين، حدث الانفجار فهرع رجال الإطفاء ولما وصلوا حدث الانفجار الثاني الأقوى، عبّر عنها بـ "حقول مدجّجة بثأر الألغام"، موتان فتكا بقلب المدينة المهشّمة والمتروكة لمن يخنق فرحها في كل مرة تحاول أن تنهض. وينُهي العويط مطوّلته بهذه الكلمات التي تشير إلى مواصلة القاتل فعل قتل المدينة التي لا تنسى ألمها:

"على سبيل الرواية/ يقف الرائي ليرى/ فيرى/ بأي حقيقة تحبل الحقيقة/ حين يد القاتل تمعن في القتل/ ويد القتيل، لا تمعن في توضيب الجريمة".

ولا يمكن أن نمرّ على من كتب عن انكسارات بيروت شعرًا دون أن نذكر إيتيل عدنان، شاعرة لا يمكن العبور بدونها، وهي المنحازة للقضايا الإنسانية عربيًا وعالميًا، وصاحبة العبارة الأجمل "أيها الشعراء، غيّروا العالم أو لازموا بيوتكم" من قصيدتها "بيروت 1982" التي كتبتها بالفرنسية وترجمها فواز طرابلسي، وكانت قبلها قد كتبت قصيدة "قطار بيروت نحو الجحيم" في العام 1973 تستشرف فيها مستقبل المدينة المظلم كما استشرف ذلك الشاعر بشارة الخوري، وحيث تتناوب عليها موجات من الجحيم كل فترة. وبيروت إيتيل هي الشاحنة الملغومة في كل وقت، مدينة لها مزاج الألغام، ثمة لغم قد يدمّر الجسد كل مرة، ويسقط معه شيء من قلوبنا "لن أرى بعد اليوم تلك النظرة الخضراء/ التي حوّلها الموت إلى حجر!/ وفي برك الماء المنتشرة في الشوارع/ كان ظلي يتأوه طوال سنوات/ لكَم قلتُ لكم إن حياتي شاحنة ملغومة/ في القصيدة اكتملتْ فحولة رامبو المنقوصة/ هذا الطفل امتزج بعرَقي في الثكنة الخاوية/ في ضاحية بيروت".

بيروت في الفن التشكيلي

لا شك أن حصة بيروت تشكيليًا تشبه حصتها شعريًا، كلاهما تسرّبت المدينة من بين أيديهما، فأخرجت أعمق القصائد واللوحات.

في تشكيل بيروت، ثمة وجع لا ينضب، نحصيه من بين ضربات الريشة، بين اللون واللون، تأخذنا مسامات كل لوحة إلى بيروت الحرب الأهلية، بيروت الاجتياح، وبيروت العدوان الإسرائيلي، بيروت الملاجئ، بيروت الثورة، وبيروت الهجرة التي تستبعدنا بيد وتتمسّك بنا باليد الأخرى.

في زمن "المرحلة الرمادية" كما يسمّيها الفنان اللبناني رفيق شرف (1932-2003)، تطالعنا لوحة "الحرب الأهلية"، وهي لوحة تشبه "المرحلة"، بالأبيض والأسود وما يجمعهما، ثمة مبانٍ نصف مهجورة، وأجساد مهشّمة ملقاة على الأرض، وقنابل تقطع سماء المدينة الرمادية ذهابًا وإيابًا، دخان يتصاعد من بين البيوت، حصان مجروح مرتعب، حطام على بُعد مسافة قصيرة من الشقاء الأزلي، هذه هي مفردات لوحة رفيق شرف، هي مفردات بيروت في زمن الحرب، وهي إن كانت قد رُسمت عن مرحلة الحرب الأهلية، إلا أنها تمثّل كل حرب تمرّ على لبنان المنهك، وهو إذ يقول "لوحات هذه المرحلة ليست لوحات فقط. إنها تفتح سرّ البلاد على حقائقها المدمرة في غابات التناتش المحلية".

أما الفنان اللبناني عبد الحليم بعلبكي (1940-2013) فقد قدّم للتاريخ جدارية "الحرب الأهلية" ترك فيها أجساد معذّبين وسرديات كثيرة، فكيفما تأملنا اللوحة ثمة قصة تُروى. جدارية لها لغة تتقاطع مع "غيرنيكا" بيكاسو، حتى أن بعض رفاق الفنان أطلقوا عليها اسم "غيرنيكا الحرب الأهلية"، كان قد أنجزها بعلبكي عقب "حرب السنتين" (1975-1976) في لبنان، ليمثّل فيها ضحايا الحرب، ضحايا التوحش الإنساني، تصدمنا اللوحة بكثرة صراخها، أجساد ملقاة على الأرض، ثمة جسد يشتعل نارًا، آخرون يندبون موتاهم، آخرون مرتعبون، بومة تقف خلف بيضة مكسورة خرج منها ديك ضخم يلقي القنابل من فمه، قنفذ، ألواح سومرية مكسورة، امرأة متشحة بالسواد تضع ابنها الميت بسبب الجوع على يديها، أشكال متحاربة، أخرى بثياب سوداء وأخرى بيضاء في مدينة تلتهب بالنار والدخان، وطواط أسود كبير يفرد جناحيه في المدينة، وبعد.. جموح لوني لكائنات ما بين الخيال والواقع، لكن ما يختصرها هو أنها لوحة مرعوبة مما يحصل ومما هو آتٍ. يقول بعلبكي عن عمله هذا: "لم يشغلني البحث عن الرابح والخاسر في تلك الحقبة من الحرب، بل كانت الضحية شغلي الشاغل، وهذا ما عبّرت عنه في العناصر التي شكّلت جدارية الحرب".

ولا ننسى إيتيل عدنان أيضًا، التي وجدت في الدفاتر اليابانية ذات الصفحات المطوية مثل لفائف أفقية، ما يمكّنها من الرسم وكتابة قصائدها، فكتبت بخطّها "غير السويّ"، كما تعبّر عن نفسها، على دفاترها باعتبارها لوحات فنية، أحد أعمالها نقرأه كتوثيق لانتحار الشاعر خليل حاوي بسبب احتلال الجيش الإسرائيلي بيروت عام 1982، نقرأ في لوحتها:

"في شقته في رأس بيروت، أخذ شاعر نهر الرماد حياته بيده. هكذا اختار خليل حاوي أن يسيطر على موته. هكذا اختار أن يحوّل انفجاره الغاضب الأخير على موت الأحلام الكبيرة، لجيله، التي اغتالتها الأزمنة العربية الرديئة قبل أن تهرسها الدبابات الإسرائيلية الزاحفة على بيروت".

نص إيتيل على عملها الفني تخترقه ألوان متعددة، ثمة ما هو غائم، وآخر يوحي بالحرب والانفجارات، مع مسحة زرقاء لبعض أمل بحياة في بيروت.

ورسم حسن الجوني بيروت بكل تفاصيلها، رسم خوفها وحزنها ورسم فرحها وبساطة أهلها. ألوان الجوني تشبه عالمنا، فهي تسير على مسافة واسعة من الألوان، هي لوحات خصبة باللون والمعنى. من أعماله، لوحة توثّق هجرة أهل بيروت منها، رسمها عقب انفجار مرفأ بيروت الذي صاحبه هبوط حادّ في العملة اللبنانية وسعي أبناء بيروت للرحيل، وقد شهد ذلك العام هجرة نسبة كبيرة من اللبنانيين. . لوحة الجوني لا تتردّد في إدخالنا معها في مزاجها اللوني، فرغم الحزن العميق الذي تمثّله إلا أن عدّة ألوان الحياة تتواصل معها كأنها مسحات ضوئية من الأزرق والبرتقالي والأبيض والأصفر، كل ما يضيء يمكن أن يصلنا من هذه اللوحة، على الرغم من تصويرها لألم الاقتلاع من المكان.

وأبدع الفنان التشكيلي البريطاني توم يونغ في رسم بيروت، لا بل أنه وثّق ثقوب المدينة ورصاصاتها منذ العام 1975، أكثر ممّا وثّقتها أيدي أبنائها، فإذ به يرسم كل ما تقع عليه عيناه من مشاهد تَرَكَ الماضي أيديه عليها قبل أن ينسحب. رسم يونغ تمامًا الصور التي تم إنقاذها من "فندق صوفر الكبير" فإذ به يرسم الفندق حيًا وميتًا، كما فعل ذلك مع مدينة صيدا و"حمام الجديد"، ومع فندق "هوليدي إن" في بيروت "والبيت الزهري" والكثير، كان يونغ في كل مرة يحيي موتى هذه الأمكنة، كأنه يريد أن يشفي ندوبها النفسية من الحروب.

من أعمال يونغ "انفجار مرفأ بيروت" بتعبيرية لونية ما بين الرمادي والأبيض والأزرق الخفيف نشاهد خراب المرفأ كما يشاهده الواقفون في اللوحة، الصدمة والقلق هو كل ما يعتري الرائي من هول الانفجار الذي كسر قلب المدينة وحوّلها إلى مدينة منكوبة، كأن يونغ يشير إلى خراب مدينة بأكملها وليس فقط مرفئها. كأن المرفأ بخرابه نسخة مصغّرة عن بيروت.

رسم يونغ أيضًا فندق "الهوليدي إن"، بثقوب الرصاص التي لا تزال منذ العام 1975، يطلّ الفندق على بحر بيروت، ويتألف من 29 طابقًا، شهد المبنى على العصر الذهبي لبيروت، مع اندلاع الحرب تحوّل الفندق إلى قلعة للمسلّحين، وشهد على ما كان يُعرف بـ"معركة الفنادق" عام 1976 بين الأحزاب اليمينية والأحزاب اليسارية. لم يتم تأهيله بعد انتهاء الحرب الأهلية.

ألهم هذا الفندق الكثير من الأدباء والفنانين، من بينهم توم يونغ، وكذلك الفنان أيمن بعلكبي في لوحة بعنوان "القنّاص"، فنظرًا لارتفاع الفندق وإطلالته على بيروت كلها شرقًا وغربًا، كان الاستيلاء عليه هدفًا حيويًا للمقاتلين من الجهتين، وكان يُستخدم للقصف منه وللقنص. لوحتا يونغ وبعلبكي تعبيريتان، فيهما ما يوحي بهدوء ما بعد الحرب، وفيهما أيضًا حزن كثير، على بلد لا يزال يمتلك عدّة الحرب، ولا يزال كل ما فيه شاهدًا على أزمنة الموت التي مضت ولم تمضِ.