رغم أن الدكتور محمد بن عبدالكريم الشحي بدأ نظم الشعر ونشره في المجلات منذ نهاية التسعينيات، إلا أن صدور ديوانه الأول تأخَّر أكثر من ربع قرن، وقد اعتبر نفسه -بتواضع- في تمرين طويل جدًا، طوال تلك السنوات.

الديوان الذي صدر عن بيت الزبير بعنوان "مقامات لام وضمَّة ميم"، يستكشف الأبعاد الجمالية في تجربة الفنان العراقي الراحل شاكر حسن آل سعيد، ويوقظ بعض رموز التصوف والشعر العربي الراحلين من سباتهم الطويل ويحاورهم، كما يقتنص الشعر الجميل من الأشياء التي تبدو أحيانًا عادية، بعد أن يمكِّننا من ملامسة جوهرها. في هذه المساحة نحاور الشحي حول الديوان المتميز ورؤيته للأدب العربي.

- من خلال ديوانك "مقامات لام وضمَّة ميم" تملك قدمًا حداثية وأخرى كلاسيكية.. ما تعليقك؟

• لديَّ إحداثيات خاصة نسبيًا بالمفاهيم السائلة هذه، فما الحداثة والكلاسيكية؟ هل يمكن أن نحيل النص المؤثث معماريًا على تفعيلات إلى منطقة "الكلاسيكي" بغضِّ النظر عن حمولته الشعرية وكثافته و"حداثة" ترميزاته ورؤيته الصافية؟

أعتقد أن الشعر هو اللحظة المترعة بالشجن الفتَّان وهو الدهشة التي تبحث عن المتعة والمعرفة وفق مختلف الأدوات التي لا تستسلم "لعنف السلطة"، سلطة الشكل والتنميط والمصادرة لأي جنس أو قالب، فما دام هنك تبرير نقدي وجمالي ومعرفي لتفضيلات الشاعر الظاهرة منها والمضمرة فليختر الشكل والعدة الجمالية التي يريد.

-لماذا وضعتَ قصيدتيْ تفعيلةٍ في ديوان نثري؟

• الديوان نثري كما تفضَّلت، القصيدتان لأنهما تعبِّران عن فضاء ومجال معنوي موسيقي. جاءت الأولى كأغنية للأشجار لزم معها الإيقاع الخارجي، وأما الثانية فكانت لتتماهى مع لحظة السماع في حلقات الهيام الصوفي الذي يتطلب وعيًا موسيقيًا متِّسقًا مع السياق الجمالي والإحالي، السماع هو الهيام المقفَّى، والشعر هنا كان محاولة لاكتشاف ممكناته في ترويض المواجيد والعبور إلى نواتها الطروبة.

- يبدو من خلال قصيدتي التفعيلة تمكُّنك التام من الموسيقى. هل يجب أن يتمكَّن الشاعر من كل الأدوات الشعرية قبل أن يكتب قصيدة النثر؟ *هل أردت ألا يعكس أول ديوان لك تحيُّزَك للونٍ شعري محدَّد؟

• ليس بالضرورة، قاسم حداد الذي فاز مؤخراً بجائزة الأركانة الشعرية يقول إنه لا يعرف البحور الشعرية، وهذا لم ينقص من القيمة الشعرية والأيقونية لقاسم حداد وشعريته الفارقة في مسيرته الناضحة بالجمال والعذوبة والتميز الإبداعي، المهم كما ذكرت وجود تبرير أسلوبي ونقدي وقيم فنية تحافظ على الشفرة الجمالية على مستوى المشروع الشعري أو النص الواحد.

- برغم بساطة مفردات الديوان وتأمُّلاته الجميلة إلا أن المجاز بشكله الكلاسيكي حاضر فيه.. ألم تواتِك رغبةٌ في التحرر بشكل كامل منه؟

• التحرر لا ينبغي أن يكون من المجاز بل من التعالي على الأدوات فلا تُستدعى بحجة أنه تم تجاوزها، المجاز والاستعارة والتشبيه وغيرها ما هي إلا أدوات لتحقيق شروط النص المضموني والنظر إلى نواته من زواياها المتعددة.

- ما الذي وجدته في تجربة شاكر حسن آل سعيد لتكون نواة لتأملاتك في هذا العمل؟

• حين تقرأ لمحمود درويش يحضر المتنبي ويوسف وأوديب، وعند أدونيس مهيار الدمشقي وجلجامش والنفَّري وعند البياتي يحضر المعرَّي والحلاج وعمر الخيام وعند عبدالعزيز المقالح وضَّاح اليمن وسيف بن ذي يزن وعند قاسم حداد الجاحظ وطرفة بن الوردة وغيرهم، في محاولة للاستعانة بتقنية "القناع" الذي يكتشف من خلاله الشاعر تخومه المعنوية والفلسفية والرؤيوية فيما لا يقوى النص مجردًا على سبره واكتشافه، منذ أمد بعيد وأنا مهجوس بالتعالق بين المنظومات المعرفية، كالشعر والتشكيل والتصوف والفلسفة، هنك مثلًا منطقة تحتدم فيها هذه المنظومات وتلتقي، منطق التماس العميقة، ذات القاع الرخامي الكثيف، وشاكر حسن آل سعيد مقيم رؤيويًا ومعرفيًا ووجوديًا في هذه المنطقة التي تحدث فيها جلبة التماس بين الأسطورة والفن والفلسفة والتصوف، هو تجربة فارقة وكونية بالمعنى الجمالي البصري، والمعنى التخريجي والنقدي فهو دائماً ما يكرِّر أن أعماله المقروءة والمرئية متواشجتان، ذهب شاكر حسن للعرفان من بابه المتمنِّع على الكثيرين وهو الحرف، واستطاع لا بالعدة الجمالية فحسب إدراك أسراره ولكن بالعدة الروحية، فالمقام هنا مقام ذوقي ومَن ذاق عرف بتعبير المتصوفة، كتابي الشعري هذا إذن كان تأملاً في التأملات وتقشيرًا "شعريًا" لطبقات اللون بحثًا عن جذور الأفكار وضراوة الالتحام بين المنظومات المعرفية في المناخ المعنوي الذي رسم إحداثياته شاكر حسن بكل كثافة وأناقة.

- ماذا أردت من وراء استدعاء الشخصيات الأيقونية كالغزالي والجيلاني والحلاج؟

• هذه الأسماء وغيرها هي عناصر المجال الحيوي المعرفي في تجربة شاكر حسن آل سعيد وهي في منزلة الحتمي الذي يتداخل بحضوره الكثيف في محاولتي الشعرية أنا أيضًا؛ لأن الكتاب تأملات في روح الفنان المبثوثة في كتبه وفي أعماله، فهي تأملات أيضًا في روافده وجداول تغذية نهره السابح في الفكرة، نحن إذن أمام جهاز اصطلاحي لشاكر حسن بأسمائه وشخوصه ومفاهيمه وعباراته وإشاراته وطقسه وإحالاته لذا لزم الاستدعاء لهذا الجهاز وعناصره الرئيسية.

- لماذا تأخَّر صدور أول ديوان لك مع أنك بدأت النشر في الصحف والمجلات منذ نهاية التسعينيات؟

• أنا أفرِّق بين التوثيق والنشر فقد كنت أنشر في الصحافة وفي مختلف الأوعية الناقلة ولكن توثيق الأعمال في مجموعة شعرية يعني الانطلاق في مشروع كتابي بما يتطلبه من عتبة تأسيسية صافية وأظن أنها تحققت في هذا العمل.

- لماذا تعاملتَ على أنك في حالة تمرينٍ طويلة على الكتابة قبل نشر الديوان؟

• الكتابة برمَّتها تمارين، تمارين على كتابة ستأتي، تمامًا كالعُرب الصوتية الناقلة للتنغيم واللحن من مقام موسيقي لآخر.

- مَن هم أبناء جيلك على مستوى عُمان أو العالم العربي؟!

• أعتقد بأن الشاعر لا يجب أن يُعنى بجيله الشعري بقدر ما يهتم وينظر فيما يمنح النص والتجربة كثافة شعرية وعمقًا ومعنى، التجييل إذن ينصرف للشعر قديمه وحديثه، موازيًا للتجربة أم سابقًا لها، لذلك لا أحبِّذ التحقيب بالأسماء بل بالقيم الفنية العابرة للزمن والتقنيات المتطورة والمستحدثة في كل حقبة.

- أنت باحث رصين كذلك.. فما تأثير الأكاديمي على الشاعر داخلك؟

• الشعر معرفة، كما هو متعة ودهشة وتخييل، الاطلاع والمقروئية في أي مجال هي مما يرفد التجربة ويغذِّي الخيال ويخدم تماسك الإحالات والدوال، كما أن الاطلاع يسهِّل تأثيث المعمار النصي على طبقته الأعمق، تلك التي تستريح في قاع البناء الشعري وينطلق منها رؤيويًا ومعرفيًا.

- لا زلت تكتب القصيدة العمودية، فما الذي يشدُّك إليها حتى الآن؟

• النص السلفي أو العمودي هو وعاء كحال باقي الأوعية الأخرى، الفكرة هي محدد المفاضلة بين الأشكال والأنواع والأوعية، الشكل هو "قصيدة بالقوة" و"فكرة بالقوة" و"المعنى المضمر بالقوة"، أستعير هنا في مصطلح الفلاسفة والمناطقة، فالشكل "يقوى" على استيعاب المعاني والأفكار وهو يأتي لاحقًا في أحايين كثيرة، بمعنى أن الجذوة الأولى بكامل أناقة دهشتها هي مَن تضع يدها على الشكل المناسب ليتحوَّل إلى معادل شعري بكل غزاراته وحمولاته، على الأقل هذه وجهة نظري.

- ما سرُّ النَفَس الصوفي في قصائدك؟

• هذه المجموعة تحديدًا تنزاح بوضوح لهذه المنطقة لأنها محاولة للتماس مع تجربة شاكر حسن آل سعيد وهو كما تعلم أقام مشروعه الجمالي على العرفان والتصوُّف بشكل عميق وآسر، من وجهة نظري، محاصرة الفكرة من عدة زوايا ومن خلال عدَّة معرفية تنهل من التصوف والفن والشعر والفلسفة يساعد على النفاذ للطبقات الأعمق في قاع الأفكار، في الشعر الصوفي مثلًا تجد شبكة ترميزات مختلفة عمَّا سواها فهي تنزع لوصف المجرَّد بالحسِّي فتشبه الحب الإلهي بكأس المدام، وفي المقابل تنزع الشعرية السائدة لتشبيه الحسِّي بالمجرَّد، وعليه فالنظر بعين العارف وروح المتصوف يريك النقطة العمياء في المعنى.

- في تقديرك، ما المختلف بين قصيدة النثر العربية ونظيرتها الغربية.. ما المشتركات الجمالية والإنسانية وما الاختلافات بينهما؟

• تجربة قصيدة النثر في الغرب تمتعت بقبول وحضور باعتبارها شكلًا من أشكال التعبير وبالتالي دخلت إلى الفضاءات النقدية باكرًا وتطوَّرت قدرتها على النفاذ للمعاني الفلسفية والذاتية والوجودية بينما تحديات الاعتراف أودت بالنص النثري في الفضاء العربي لتقديم تنازلات من قبيل الانصراف لموضوعات سياسية واجتماعية وغيرها في تمسُّح واضح للمخيال العمومي والتلقي البارد الذي تواجهه، نعم هناك تجارب متحققة خارج هذا المعنى ولكن سؤال المشروعية الجمالية كان منهكًا لقصيدة النثر طويلًا، فضل عن تباين الجذور الثقافية والمعرفية التي تنطلق منها التجربتان. أعتقد أن النص النثري لا بالمعنى الشعري الوظيفي المباشر بل بمعاني الكثافة والتخييل والجذوة التعبيرية حاضر بوضوح في أدبياتنا وتراثنا كما هو الحال في الحكم العطائية لابن عطاء الله السكندري والمواقف للنفَّري وغيرهم، بل حتى في القواعد الفقهية والأصولية والمقاصدية، تأمل هذه القاعدة الفقهية عند المالكية مثلًا: "الحياة المستعارة كالعدم"، فهناك شذريات تنطوي على كثافة أسلوبية وحمولة معرفية وجمالية لا يمكن تجاوزها، ما أردت قوله هنا، أن لدينا في تراثنا وأفقنا المعرفي ما قد يفوق التجربة الغربية ويحتضن برحابة أشكالًا إبداعية وتعبيرية أبعد بكثير من النص النثري وهذا ما سيحدث حتمًا، ولكن كيف ومتى؟ لا أعلم.

- أخيرًا.. ماذا تنتظر من الشعر؟

• في أحد نصوص المجموعة قلت: "ليسْت لديَّ أمنية قبل الموت، سوى أن أزرع شجرًة تتسلُق البيت، ثم لا تعرف طريق النزول"، وهكذا فأنا أنتظر من الشعر أن يدلَّني على الطريق لتحقيق هذه الأمنية.

**media[2843720]**