يؤدي التعليم والاهتمام به دورا مهما في تطور المجتمعات وتطور وعيها وفكرها، كما ينعكس ذلك بشكل إيجابي على رصيد التراث الفكري للدول والشعوب. وتأسيسا لذلك، فقد عُرفت عمان بثرائها الفكري المتنوع في شتى فنون العلم والمعرفة، ولا أدل على ذلك من قائمة المؤلفات الكثيرة التي تزخر بها المكتبة العمانية، وقائمة العلماء الذين سطروا بإسهاماتهم العلمية وجها مشرقا للحضارة العمانية، وهو ما يقودنا إلى البحث عن الأسباب والعوامل التي أدت إلى ذلك، ومن أبرزها الاهتمام بالتعليم الذي حظي باهتمام كبير عبر فترات التاريخ العماني، لا سيما عهد الدولة البوسعيدية التي شهدت ظهور وتطور التعليم الحديث. ومن خلال هذا المقال سنرصد ملامح تطور تاريخ التعليم خلال عهد الدولة البوسعيدية انطلاقا من تأسيسها عام 1744م على يد المؤسس الإمام أحمد بن سعيد، وحتى بزوغ عصر النهضة العمانية عام 1970م. موقنين بأن ما حصل بعد ذلك من تطور كمي ونوعي للتعليم لا يمكن مقارنته بما سبقه. ولا يستوعبه حجم هذا المقال.
كانت أول آية نزلت في القرآن الكريم من الروح الأمين، لسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم هي كلمة (اقرأ)، وبما تحمله من دلالات كبيرة، أدرك العمانيون منذ العصور الإسلامية المبكرة، أهمية التعليم، فلا غرابة أن نجد أن الصحابي الجليل مازن بن غضوبة (رضي الله عنه)، بعد أن أسلم، يقوم بتأسيس مدرسته، لتعليم الناس أمور دينهم، في مسجد المضمار الذي بناه في مسقط رأسه بمدينة سمائل. كما تردنا إشارات عديدة حول اهتمام العمانيين بالتعليم، فنجد على سبيل المثال لا الحصر، مدرسة التابعي الإمام جابر بن زيد الأزدي العماني الذي رحل إلى العراق وأقام بها، وتتلمذ على يد كبار الصحابة، ونهل منهم العلم، وأسس مدرسته بالبصرة ووفد إليه طلاب العلم. وهي وإن كانت خارج الأرض العمانية، إلا أن مؤسسها من عمان، وتخرج منها علماء من عمان. كما نجد من أقدم المدارس في العصور الإسلامية المبكرة، مدرسة مسجد الشواذنة في نزوى، ومدرسة آل الرحيل في صحار، ومدرسة الضرح في بهلا التي أنشأها أبو محمد عبد الله بن محمد بن بركة السليمي البهلوي، الشهير بابن بركة، وهو من كبار علماء القرن الرابع الهجري. ومدرستا البشير بن المنذر النزواني، ومحمد بن رواح أو روح في نزوى، إضافة إلى مدرسة موسى بن أبي جابر الأزكوي بإزكي، وغيرها الكثير. وقد تخرج من تلك المدارس العديد من العلماء والفقهاء الذين حملوا على عاتقهم بعد ذلك مهمة التعليم ونشر العلم. بل إن مصطلح «حملة العلم» أصبح من المصطلحات المعروفة عند دارسي التاريخ العماني، وهو وإن كان يحمل طابعا دينيا مذهبيا، إلا أن دلالته الاصطلاحية تبين مدى الاهتمام بالتعليم.
أما في عهد دولة اليعاربة (1624 - 1744م) فقد كان اهتمام أئمة اليعاربة جليا بالتعليم منذ عهد مؤسسها الإمام ناصر بن مرشد اليعربي؛ وفي خطوة تاريخية لاحقة شكّلت مدرسة حصن جبرين في عهد الإمام بلعرب بن سلطان (1680-1692م ) نقطة تحول مهمة في تاريخ تطور التعليم في تاريخ عمان الحديث، سواء من حيث نظام التعليم فيها وأسلوبه في ذلك العصر، أو من حيث تنوعه، بتنوع مواد التدريس فيه. وعليه، فليس من المبالغة القول إن هذه المدرسة كانت بمثابة الجامعة في وقتنا الحاضر.
أسهمت عوامل عديدة في تطور حركة التعليم، يأتي في مقدمتها اهتمام حكام عمان به، وإعطائه قدرا كبيرا من الأهمية، بل إن بعضهم كان من العلماء. أيضا يأتي عامل آخر مهم وهو الدور الذي قام به العلماء في النهوض بالتعليم، ولذلك لا غرابة أن نجد معظم المدارس التي أشرنا لها سابقا تحمل اسم العالم أو الشيخ. كما كان للاستقرار والرخاء الذي حظيت به عمان في فترات تاريخية دور في تطور التعليم.
بقيام الدولة البوسعيدية عام 1744م استمر الاهتمام بالتعليم، وبرز ذلك من خلال اهتمامهم بالتعليم وعنايتهم بالعلماء؛ فعلى سبيل المثال، كان مجلس الإمام أحمد بن سعيد يحوي نخبة من العلماء ورجال الفكر من فقهاء، وقضاة، وأدباء، ومؤرخين، وغيرهم. بل إنه كان لا يخرج إلى مكان إلا ومعه ثلة من القضاة وأهل العلم. أما ابنه الإمام سعيد بن الإمام أحمد روي عنه أنه كان شاعرا، ومحبا للشعر والأدب. وابنه السيد حمد، الذي آل إليه حكم عمان من بعده، وانتقل إلى مسقط، كان يقرب إليه أهل العلم، ويكرم منزلتهم.
وواصل حكّام البوسعيد رعايتهم واهتمامهم بالجوانب التعليمية؛ فالسيد سعيد بن سلطان (1804 - 1856م) عندما قرّر اتخاذ زنجبار عاصمة ثانية لعمان عام 1832م اصطحب معه عددا من العلماء من عمان؛ وذلك لمعاونته في تسيير أمور العاصمة الجديدة هناك، والتي كان من ضمنها التعليم، ومن هؤلاء على سبيل المثال: الشيخ ناصر بن جاعد بن خميس الخروصي الذي ظل هناك فترة من الزمن ثم توفي هناك، والشيخ سلطان بن محمد البطاشي، والشيخ محمد بن علي المنذري، الذي تولى رئاسة القضاء في زنجبار حتى وفاته في عهد السيد ماجد بن سعيد(1856-1870م).
جانب مهم لا يمكن إهماله عند الحديث عن تاريخ التعليم وتطوره، والحركة العلمية في عهد الدولة البوسعيدية، وأعطته بصمة خاصة، وميزة فريدة، وهو التسامح الديني الذي عرف به سلاطين البوسعيد، فكان السلاطين يستقبلون في مجلسهم العلماء من مختلف المذاهب الإسلامية، بما في ذلك العلماء الذين كانوا يزورون مسقط أثناء أسفارهم ورحلاتهم للهند أو أماكن أخرى، ويتوقفون في عمان، ومن أمثلة ذلك رحلة العالم هبة الدين الشهرستاني الذي جاء إلى عمان زائرا أثناء رحلته إلى الهند، فوصل مسقط عام 1913م في أواخر عهد السلطان فيصل بن تركي، وقد التقى بالسلطان فيصل وتباحث معه في العديد من القضايا، وتركت هذه الزيارة انطباعا جيدا لهذا العالم، وقد أشار لذلك في أحد كتبه الذي عنونه تيمنا بالسلطان فيصل باسم: «فيصل الدلائل في أجوبة المسائل»، وأورد في هذا الكتاب مادحا السلطان فيصل ما نصه: «سلطان عمان المفخم، جلالة الملك المعظم، فخر أمراء العرب والعجم، مثال طيب الأخلاق وحسن الشيم، حضرة السيد فيصل خان».
لم يقتصر الاهتمام بالتعليم على الأئمة والسلاطين، بل إن كبار رجال الدولة كان لهم إسهام في ذلك، فعلى سبيل المثال كان السيد سالم بن سلطان بن الإمام أحمد بن سعيد كما يصفه المؤرخ العماني ابن رزيق في كتابه الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيديين، فيقول: «وكان مجلسه الشريف لا يخلو من عالم فقيه، وناثر وناظم نبيه، وكان يحفظ من أشعار العرب الجاهلية والإسلامية كثيرا، مطلعا على أخبار ملوك العرب والعجم، خبيرا بسياساتهم، ويطول السمر مع سُمّاره العارفين ليذاكرهم في الأحكام الشرعية والفصاحة والعلوم النظرية وسائر العلوم التي حفظها». كما قام السيد حمد بن فيصل البوسعيدي ببناء مدرسة لتعليم القرآن الكريم في صحار، ومدرسة أخرى سميت بمدرسة صحار السلطانية، تقع إلى الشمال من قلعة صحار.
ومع نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين؛ وعلى الرغم من التحولات السياسية التي مرت بها المنطقة عموما، وعمان على وجه الخصوص، إلا أن الاهتمام بالتعليم ظل متواصلا. وشهد التعليم خلال القرن العشرين محطات تاريخية مهمة، اختلفت عن جميع المراحل السابقة، لا بد من التوقف عندها بشيء من التفصيل.
استمر التعليم القرآني أو ما يعرف بالكتاتيب مستمرا، ويكاد لا تخلو قرية أو حارة عمانية من هذا النوع من التعليم، ولم يكن لها نظام معين، وإنما المعلم أو المعلمة هم من يضعون نظام التدريس أو اليوم التعليمي، ومعظم هذه الكتاتيب تبدأ بتعليم القراءة والكتابة على الطريقة العمانية القديمة، ثم تتطور إلى إتقان قراءة القرآن الكريم، وحفظه. وبعد هذه المرحلة ينتقل الطالب إلى المدارس الدينية التي تمثل مرحلة أعلى، ويتم فيها تدريس العلوم الدينية، كالفقه، والحديث، والتفسير، والعقيدة، إلى جانب العلوم اللغوية، ومن أمثلة هذه المدارس مدرسة مسجد الخور في مسقط أسفل قلعة الميراني، ومدرسة القلعة في نزوى في عهد الإمام محمد بن عبدالله الخليلي.
وعطفا على موضوع التسامح الذي أشرت له سابقا، فقد انعكس ذلك أيضا على التعليم، فقد كانت في مسقط، فإلى جانب المدارس الدينية التي أشرت لها سابقا، والتي كان التدريس فيها يتم على الفقه الإباضي، كانت هناك المدرسة الشافعية في مسقط، والتي عرفت بهذا الاسم لأن التدريس الديني بها كان يتم على الفقه الشافعي. الجدير بالذكر أن حضور الطلاب كان مسموحا من مختلف المذاهب الإسلامية. كما تأتي المدرسة الشافعية أحد الدلائل المهمة في هذا الجانب، بل إن هذه المدرسة تعدّ أحد أقدم المدارس التي وجدت في مسقط ومطرح، وقد عرفت بالشافعية لأن التدريس الديني بها كان يتم على الفقه الشافعي.
حمل النصف الأول من القرن العشرين بداية ملامح التطور للتعليم، ليبدأ الانتقال من التعليم الديني الذي كان سائدا إلى التعليم النظامي الحديث، وبطبيعة الحال، كان هذا التطور تدريجيا ومر بعدة مراحل، وكان مقتصرا على المدارس التي وجدت في مسقط، ومطرح. وتمثل التدرج الذي مرّ به التعليم خلال هذه الفترة في الانتقال من التعليم الديني (التقليدي) الذي كان يتم في المساجد وبعض المدارس التي أنشأها العلماء أو الأئمة، إلى التعليم شبه النظامي، وهي مرحلة كان فيها التعليم مزيجا من التعليم التقليدي والتعليم الحديث، ثم إلى التعليم النظامي الذي بدأ في مسقط بإنشاء المدرسة السعيدية عام 1940م..
أما المدرسة السعيدية بصلالة، فقد افتتحت عام 1936م، وبدأت الدراسة في مبنى مكون من ثلاث غرف، ونظام التعليم بها كان أقرب للتعليم الديني، مع تدريس مبادئ الحساب (العمليات الحسابية الأربع). وفي عام1951م تم افتتاح المبنى الجديد للمدرسة، لتكون مدرسة نظامية حديثة، أسوة بما كان عليه وضع المدرسة السعيدية في مسقط. ثم في مطرح عام 1959م بإنشاء المدرسة السعيدية بها.
شكلت مرحلة التعليم الديني جميع المدارس الدينية التي كانت منتشرة في ربوع عمان، ويمكن رصد قائمة طويلة من هذه المدارس، وكان المسجد، أو بيت الشيخ أو العالم هو مكان التدريس، وعلوم الدين واللغة هي العلوم التي تدرس بها. وعرفت مسقط العديد من هذه المدارس كان أبرزها -إضافة لما تم ذكره سابق- مدرسة الشيخ راشد بن عزيِّز الخصيبي، الذي كان يقوم بالتدريس في بيته بمسقط، ومدرسة مسجد الوكيل، ومدرسة بيت الوكيل، ومدرسة بيت السيد نادر بن فيصل البوسعيدي.
شكلت مرحلة التعليم شبه النظامي مرحلة انتقالية بين التعليم النظامي والتعليم الديني، وبدأ ملامح هذه المرحلة تحديدا، في مدرسة «بوذينة» وهو اسم المعلم التونسي الذي قدم إلى عمان عام 1915م، وعمل في التدريس بداية الأمر في مدرسة الزواوي بمنطقة مغب في مسقط، أسفل قلعة الجلالي، ومنه انتقل للتدريس في مقر استأجرته له الحكومة، وعرف باسمه. وكان يدرس بها القرآن الكريم، واللغة العربية، والتاريخ، والجغرافيا، والحساب، ويعد إدخال هذه المواد في ذلك الوقت نقلة نوعية للتعليم، حيث لم تكن هذه المواد تدرّس في المدارس السابقة، كما أن نظام الدراسة كان يشمل ست حصص يوميا، وكان الدوام يبدأ من الصباح، ويستمر إلى ما بعد الظهر. كم يمكن اعتبار المدرسة السلطانية الأولى التي أنشأت عام 1928م، والثانية التي بدأ التدريس بها عام 1935م، ضمن هذه المرحلة، على الرغم من التحديث الطفيف الذي حصل في نظام التدريس بهاتين المدرستين.
بتولي السلطان سعيد بن تيمور الحكم في عمان خلفا لوالده، أبدى اهتماما كبيرا في بداية حكمه لإصلاح الأمور المالية، وحقق نجاحا جيدا في ذلك، وبعد تحسن الأمور المالية أمر بإنشاء المدرسة السعيدية في مسقط عام 1940م، كمدرسة نظامية. وقد ظلت هذه المدرسة تعمل بوتيرة متواصلة حتى نهاية عهد السلطان سعيد بن تيمور عام 1970م، دون أي تطور نوعي أو كمي للمدرسة، والحال ذاته ينطبق على المدرسة السعيدية بمطرح، وصلالة.
لجأ العديد من أبناء عمان، في ظل محدودية التعليم المقدم في مرحلة ما قبل عام 1970، إلى إكمال دراستهم خارج حدود الوطن، ورغم صعوبة الظروف، وقلة ما في اليد، إلا أن ذلك لم يكن عائقا للعديد منهم من إكمال مسيرة التعليم، موقنين بأن دوام الحال من المحال، بل إن العديد من هؤلاء قامت على أكتافهم نهضة عمان الحديثة. ولبوا نداء الوطن، عند قيام نهضة عمان الحديثة.
ختاما، لا بد من الإشارة إلى بعض الجوانب المضيئة في تاريخ التعليم، وأهمها التعليم الأهلي الذي عرفته مدينة مطرح، من خلال المدارس العديدة التي أسسها أهالي مطرح، وتميزت في تقديم تعليم نوعي، بأبسط الإمكانيات المتاحة، وما زال أهالي مطرح يتذكرون العديد من هذه المدارس. إلى جانب ذلك أسست الإرسالية الأمريكية مدرسة في مسقط، درس بها العديد من أبناء مسقط. كما أسست شركة تنمية نفط عمان مدرسة عمان للمهن الصناعية Oman Technical college عام 1967م لتأهيل الموظفين العمانيين، للعمل في مواقع الشركة المختلفة.
وبانطلاقة النهضة العمانية عام 1970م، كانت عمان على موعد مع القدر، ومع التغيير لغد مشرق، حيث أدرك السلطان قابوس -طيب الله ثراه-، أهمية التعليم في بناء الدولة العصرية، بمقولته التاريخية: «سنعلم أبناءنا ولو تحت ظل الشجر».
كانت أول آية نزلت في القرآن الكريم من الروح الأمين، لسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم هي كلمة (اقرأ)، وبما تحمله من دلالات كبيرة، أدرك العمانيون منذ العصور الإسلامية المبكرة، أهمية التعليم، فلا غرابة أن نجد أن الصحابي الجليل مازن بن غضوبة (رضي الله عنه)، بعد أن أسلم، يقوم بتأسيس مدرسته، لتعليم الناس أمور دينهم، في مسجد المضمار الذي بناه في مسقط رأسه بمدينة سمائل. كما تردنا إشارات عديدة حول اهتمام العمانيين بالتعليم، فنجد على سبيل المثال لا الحصر، مدرسة التابعي الإمام جابر بن زيد الأزدي العماني الذي رحل إلى العراق وأقام بها، وتتلمذ على يد كبار الصحابة، ونهل منهم العلم، وأسس مدرسته بالبصرة ووفد إليه طلاب العلم. وهي وإن كانت خارج الأرض العمانية، إلا أن مؤسسها من عمان، وتخرج منها علماء من عمان. كما نجد من أقدم المدارس في العصور الإسلامية المبكرة، مدرسة مسجد الشواذنة في نزوى، ومدرسة آل الرحيل في صحار، ومدرسة الضرح في بهلا التي أنشأها أبو محمد عبد الله بن محمد بن بركة السليمي البهلوي، الشهير بابن بركة، وهو من كبار علماء القرن الرابع الهجري. ومدرستا البشير بن المنذر النزواني، ومحمد بن رواح أو روح في نزوى، إضافة إلى مدرسة موسى بن أبي جابر الأزكوي بإزكي، وغيرها الكثير. وقد تخرج من تلك المدارس العديد من العلماء والفقهاء الذين حملوا على عاتقهم بعد ذلك مهمة التعليم ونشر العلم. بل إن مصطلح «حملة العلم» أصبح من المصطلحات المعروفة عند دارسي التاريخ العماني، وهو وإن كان يحمل طابعا دينيا مذهبيا، إلا أن دلالته الاصطلاحية تبين مدى الاهتمام بالتعليم.
أما في عهد دولة اليعاربة (1624 - 1744م) فقد كان اهتمام أئمة اليعاربة جليا بالتعليم منذ عهد مؤسسها الإمام ناصر بن مرشد اليعربي؛ وفي خطوة تاريخية لاحقة شكّلت مدرسة حصن جبرين في عهد الإمام بلعرب بن سلطان (1680-1692م ) نقطة تحول مهمة في تاريخ تطور التعليم في تاريخ عمان الحديث، سواء من حيث نظام التعليم فيها وأسلوبه في ذلك العصر، أو من حيث تنوعه، بتنوع مواد التدريس فيه. وعليه، فليس من المبالغة القول إن هذه المدرسة كانت بمثابة الجامعة في وقتنا الحاضر.
أسهمت عوامل عديدة في تطور حركة التعليم، يأتي في مقدمتها اهتمام حكام عمان به، وإعطائه قدرا كبيرا من الأهمية، بل إن بعضهم كان من العلماء. أيضا يأتي عامل آخر مهم وهو الدور الذي قام به العلماء في النهوض بالتعليم، ولذلك لا غرابة أن نجد معظم المدارس التي أشرنا لها سابقا تحمل اسم العالم أو الشيخ. كما كان للاستقرار والرخاء الذي حظيت به عمان في فترات تاريخية دور في تطور التعليم.
بقيام الدولة البوسعيدية عام 1744م استمر الاهتمام بالتعليم، وبرز ذلك من خلال اهتمامهم بالتعليم وعنايتهم بالعلماء؛ فعلى سبيل المثال، كان مجلس الإمام أحمد بن سعيد يحوي نخبة من العلماء ورجال الفكر من فقهاء، وقضاة، وأدباء، ومؤرخين، وغيرهم. بل إنه كان لا يخرج إلى مكان إلا ومعه ثلة من القضاة وأهل العلم. أما ابنه الإمام سعيد بن الإمام أحمد روي عنه أنه كان شاعرا، ومحبا للشعر والأدب. وابنه السيد حمد، الذي آل إليه حكم عمان من بعده، وانتقل إلى مسقط، كان يقرب إليه أهل العلم، ويكرم منزلتهم.
وواصل حكّام البوسعيد رعايتهم واهتمامهم بالجوانب التعليمية؛ فالسيد سعيد بن سلطان (1804 - 1856م) عندما قرّر اتخاذ زنجبار عاصمة ثانية لعمان عام 1832م اصطحب معه عددا من العلماء من عمان؛ وذلك لمعاونته في تسيير أمور العاصمة الجديدة هناك، والتي كان من ضمنها التعليم، ومن هؤلاء على سبيل المثال: الشيخ ناصر بن جاعد بن خميس الخروصي الذي ظل هناك فترة من الزمن ثم توفي هناك، والشيخ سلطان بن محمد البطاشي، والشيخ محمد بن علي المنذري، الذي تولى رئاسة القضاء في زنجبار حتى وفاته في عهد السيد ماجد بن سعيد(1856-1870م).
جانب مهم لا يمكن إهماله عند الحديث عن تاريخ التعليم وتطوره، والحركة العلمية في عهد الدولة البوسعيدية، وأعطته بصمة خاصة، وميزة فريدة، وهو التسامح الديني الذي عرف به سلاطين البوسعيد، فكان السلاطين يستقبلون في مجلسهم العلماء من مختلف المذاهب الإسلامية، بما في ذلك العلماء الذين كانوا يزورون مسقط أثناء أسفارهم ورحلاتهم للهند أو أماكن أخرى، ويتوقفون في عمان، ومن أمثلة ذلك رحلة العالم هبة الدين الشهرستاني الذي جاء إلى عمان زائرا أثناء رحلته إلى الهند، فوصل مسقط عام 1913م في أواخر عهد السلطان فيصل بن تركي، وقد التقى بالسلطان فيصل وتباحث معه في العديد من القضايا، وتركت هذه الزيارة انطباعا جيدا لهذا العالم، وقد أشار لذلك في أحد كتبه الذي عنونه تيمنا بالسلطان فيصل باسم: «فيصل الدلائل في أجوبة المسائل»، وأورد في هذا الكتاب مادحا السلطان فيصل ما نصه: «سلطان عمان المفخم، جلالة الملك المعظم، فخر أمراء العرب والعجم، مثال طيب الأخلاق وحسن الشيم، حضرة السيد فيصل خان».
لم يقتصر الاهتمام بالتعليم على الأئمة والسلاطين، بل إن كبار رجال الدولة كان لهم إسهام في ذلك، فعلى سبيل المثال كان السيد سالم بن سلطان بن الإمام أحمد بن سعيد كما يصفه المؤرخ العماني ابن رزيق في كتابه الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيديين، فيقول: «وكان مجلسه الشريف لا يخلو من عالم فقيه، وناثر وناظم نبيه، وكان يحفظ من أشعار العرب الجاهلية والإسلامية كثيرا، مطلعا على أخبار ملوك العرب والعجم، خبيرا بسياساتهم، ويطول السمر مع سُمّاره العارفين ليذاكرهم في الأحكام الشرعية والفصاحة والعلوم النظرية وسائر العلوم التي حفظها». كما قام السيد حمد بن فيصل البوسعيدي ببناء مدرسة لتعليم القرآن الكريم في صحار، ومدرسة أخرى سميت بمدرسة صحار السلطانية، تقع إلى الشمال من قلعة صحار.
ومع نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين؛ وعلى الرغم من التحولات السياسية التي مرت بها المنطقة عموما، وعمان على وجه الخصوص، إلا أن الاهتمام بالتعليم ظل متواصلا. وشهد التعليم خلال القرن العشرين محطات تاريخية مهمة، اختلفت عن جميع المراحل السابقة، لا بد من التوقف عندها بشيء من التفصيل.
استمر التعليم القرآني أو ما يعرف بالكتاتيب مستمرا، ويكاد لا تخلو قرية أو حارة عمانية من هذا النوع من التعليم، ولم يكن لها نظام معين، وإنما المعلم أو المعلمة هم من يضعون نظام التدريس أو اليوم التعليمي، ومعظم هذه الكتاتيب تبدأ بتعليم القراءة والكتابة على الطريقة العمانية القديمة، ثم تتطور إلى إتقان قراءة القرآن الكريم، وحفظه. وبعد هذه المرحلة ينتقل الطالب إلى المدارس الدينية التي تمثل مرحلة أعلى، ويتم فيها تدريس العلوم الدينية، كالفقه، والحديث، والتفسير، والعقيدة، إلى جانب العلوم اللغوية، ومن أمثلة هذه المدارس مدرسة مسجد الخور في مسقط أسفل قلعة الميراني، ومدرسة القلعة في نزوى في عهد الإمام محمد بن عبدالله الخليلي.
وعطفا على موضوع التسامح الذي أشرت له سابقا، فقد انعكس ذلك أيضا على التعليم، فقد كانت في مسقط، فإلى جانب المدارس الدينية التي أشرت لها سابقا، والتي كان التدريس فيها يتم على الفقه الإباضي، كانت هناك المدرسة الشافعية في مسقط، والتي عرفت بهذا الاسم لأن التدريس الديني بها كان يتم على الفقه الشافعي. الجدير بالذكر أن حضور الطلاب كان مسموحا من مختلف المذاهب الإسلامية. كما تأتي المدرسة الشافعية أحد الدلائل المهمة في هذا الجانب، بل إن هذه المدرسة تعدّ أحد أقدم المدارس التي وجدت في مسقط ومطرح، وقد عرفت بالشافعية لأن التدريس الديني بها كان يتم على الفقه الشافعي.
حمل النصف الأول من القرن العشرين بداية ملامح التطور للتعليم، ليبدأ الانتقال من التعليم الديني الذي كان سائدا إلى التعليم النظامي الحديث، وبطبيعة الحال، كان هذا التطور تدريجيا ومر بعدة مراحل، وكان مقتصرا على المدارس التي وجدت في مسقط، ومطرح. وتمثل التدرج الذي مرّ به التعليم خلال هذه الفترة في الانتقال من التعليم الديني (التقليدي) الذي كان يتم في المساجد وبعض المدارس التي أنشأها العلماء أو الأئمة، إلى التعليم شبه النظامي، وهي مرحلة كان فيها التعليم مزيجا من التعليم التقليدي والتعليم الحديث، ثم إلى التعليم النظامي الذي بدأ في مسقط بإنشاء المدرسة السعيدية عام 1940م..
أما المدرسة السعيدية بصلالة، فقد افتتحت عام 1936م، وبدأت الدراسة في مبنى مكون من ثلاث غرف، ونظام التعليم بها كان أقرب للتعليم الديني، مع تدريس مبادئ الحساب (العمليات الحسابية الأربع). وفي عام1951م تم افتتاح المبنى الجديد للمدرسة، لتكون مدرسة نظامية حديثة، أسوة بما كان عليه وضع المدرسة السعيدية في مسقط. ثم في مطرح عام 1959م بإنشاء المدرسة السعيدية بها.
شكلت مرحلة التعليم الديني جميع المدارس الدينية التي كانت منتشرة في ربوع عمان، ويمكن رصد قائمة طويلة من هذه المدارس، وكان المسجد، أو بيت الشيخ أو العالم هو مكان التدريس، وعلوم الدين واللغة هي العلوم التي تدرس بها. وعرفت مسقط العديد من هذه المدارس كان أبرزها -إضافة لما تم ذكره سابق- مدرسة الشيخ راشد بن عزيِّز الخصيبي، الذي كان يقوم بالتدريس في بيته بمسقط، ومدرسة مسجد الوكيل، ومدرسة بيت الوكيل، ومدرسة بيت السيد نادر بن فيصل البوسعيدي.
شكلت مرحلة التعليم شبه النظامي مرحلة انتقالية بين التعليم النظامي والتعليم الديني، وبدأ ملامح هذه المرحلة تحديدا، في مدرسة «بوذينة» وهو اسم المعلم التونسي الذي قدم إلى عمان عام 1915م، وعمل في التدريس بداية الأمر في مدرسة الزواوي بمنطقة مغب في مسقط، أسفل قلعة الجلالي، ومنه انتقل للتدريس في مقر استأجرته له الحكومة، وعرف باسمه. وكان يدرس بها القرآن الكريم، واللغة العربية، والتاريخ، والجغرافيا، والحساب، ويعد إدخال هذه المواد في ذلك الوقت نقلة نوعية للتعليم، حيث لم تكن هذه المواد تدرّس في المدارس السابقة، كما أن نظام الدراسة كان يشمل ست حصص يوميا، وكان الدوام يبدأ من الصباح، ويستمر إلى ما بعد الظهر. كم يمكن اعتبار المدرسة السلطانية الأولى التي أنشأت عام 1928م، والثانية التي بدأ التدريس بها عام 1935م، ضمن هذه المرحلة، على الرغم من التحديث الطفيف الذي حصل في نظام التدريس بهاتين المدرستين.
بتولي السلطان سعيد بن تيمور الحكم في عمان خلفا لوالده، أبدى اهتماما كبيرا في بداية حكمه لإصلاح الأمور المالية، وحقق نجاحا جيدا في ذلك، وبعد تحسن الأمور المالية أمر بإنشاء المدرسة السعيدية في مسقط عام 1940م، كمدرسة نظامية. وقد ظلت هذه المدرسة تعمل بوتيرة متواصلة حتى نهاية عهد السلطان سعيد بن تيمور عام 1970م، دون أي تطور نوعي أو كمي للمدرسة، والحال ذاته ينطبق على المدرسة السعيدية بمطرح، وصلالة.
لجأ العديد من أبناء عمان، في ظل محدودية التعليم المقدم في مرحلة ما قبل عام 1970، إلى إكمال دراستهم خارج حدود الوطن، ورغم صعوبة الظروف، وقلة ما في اليد، إلا أن ذلك لم يكن عائقا للعديد منهم من إكمال مسيرة التعليم، موقنين بأن دوام الحال من المحال، بل إن العديد من هؤلاء قامت على أكتافهم نهضة عمان الحديثة. ولبوا نداء الوطن، عند قيام نهضة عمان الحديثة.
ختاما، لا بد من الإشارة إلى بعض الجوانب المضيئة في تاريخ التعليم، وأهمها التعليم الأهلي الذي عرفته مدينة مطرح، من خلال المدارس العديدة التي أسسها أهالي مطرح، وتميزت في تقديم تعليم نوعي، بأبسط الإمكانيات المتاحة، وما زال أهالي مطرح يتذكرون العديد من هذه المدارس. إلى جانب ذلك أسست الإرسالية الأمريكية مدرسة في مسقط، درس بها العديد من أبناء مسقط. كما أسست شركة تنمية نفط عمان مدرسة عمان للمهن الصناعية Oman Technical college عام 1967م لتأهيل الموظفين العمانيين، للعمل في مواقع الشركة المختلفة.
وبانطلاقة النهضة العمانية عام 1970م، كانت عمان على موعد مع القدر، ومع التغيير لغد مشرق، حيث أدرك السلطان قابوس -طيب الله ثراه-، أهمية التعليم في بناء الدولة العصرية، بمقولته التاريخية: «سنعلم أبناءنا ولو تحت ظل الشجر».