تتميز عُمان بتاريخها الحضاري والثقافي الضارب في القدم، وقد أنجبت عُمان على مرّ العصور الكثير من الأعلام والعلماء وكبار الأدباء الذين أغنوا الثقافة العربية والإنسانية بإسهاماتهم في شتى صنوف الفكر والمعرفة.
وقد شهد عصر الدولة البوسعيدية في عُمان تحولات جذرية على صعيد الثقافة والفكر، باعتباره عصر تنوير وتجديد وانفتاح على ثقافات العالم، ونتيجة لهذا المناخ الإيجابي الذي اتسم به هذا العهد، فقد برزت نخبة كبيرة من حملة العلم والمعرفة وأساطين الأدب والشعر، منذ تولي الإمام أحمد بن سعيد مقاليد الحكم إلى يومنا هذا، ولا تزال هذه الدولة الكريمة تواصل مسيرة العطاء في خدمة عُمان وثقافتها والحفاظ على منجزها العظيم، وصون تراثها الحضاري الخالد، ونشره في ربوع العالم.
وقد سنحت الظروف والأقدار لبعض الشخصيات الأدبية أن يكونوا قريبين من دائرة الحكم، ويتصلوا بأئمة وسلاطين البوسعيد، الأمر الذي نتج عنه منجز ثقافي وأدبي ومعرفي بات من مفاخر الثقافة العمانية، وفي هذه المقالة سنتوقف عند عدد من فحول الشعراء العمانيين الذين جمعتهم علاقات وطيدة مع حكام البوسعيد، وحظوا برعايتهم وعاشوا في كنفهم ونالوا من أفضالهم الكثير، فقدموا عصارة إبداعهم وفكرهم، ولاء لهذه الدولة وخدمة لأهدافها ومشاركة في مساعيها الكبرى، فكان نتاجهم وثائق شاهدة ودلائل ناطقة على ما عايشوه وعاصروه من أحداث ومواقف مرّ بها الوطن.
عُرِف عن أئمة وسلاطين عُمان، ومنهم البوسعيد، حبهم للعلم وتقديرهم للعلماء والأدباء والشعراء، وقد ورث الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي، مؤسس دولة البوسعيد هذه الخصال الحميدة، فقد ذكر التاريخ اهتمامه بالعلماء وتقديره للشعراء والمفكرين، ويقول ابن رزيق في (الفتح المبين): «وقصدته شعراء كثيرون من أهل عُمان وغيرهم، فأحسن إليهم وأجازهم، ورفع محلتهم، وكان الشاعر المشهور في زمانه، وأشعر شعراء عُمان على الإطلاق الشيخ الفصيح راشد بن سعيد بن بلحسن العبسي الأعمى الضرير»، ولقد برز اسم هذا الشاعر على عهد الإمام أحمد بن سعيد، وهو الشاعر راشد بن سعيد بن بلحسن الرواحي العبسي (ق: هـ12/ 18م).
وقال عنه ابن رزيق في (الصحيفة العدنانية): «راشد بن سعيد بن بلحسن الرواحي العبسي، الضرير العينين، البصير القلب، المشهور، كان الشيخ راشد المذكور غاية زمانه، وآية أوانه، له قريحة صافية، وبديهة شافية، ويد في القريض والبديع طويلة، وبنان في البيان دونها الرذيلة، نشأ في زمن الإمام الحميد البوسعيدي أحمد بن سعيد، ومدحه بالحمر والبيض، وحباه حمده لأحمد خالص الوميض، وانقادت محبته من بعده لولده الحميد هلال بن أحمد، فأهدى إليه ثناءه الوسيم، لمّا ساق إليه نواله الجسيم» .
ويقول الشيخ سالم بن حمود السيابي في كتابه (العنوان)، في سياق الحديث عن الإمام أحمد بن سعيد: «وكان شاعره الأعمى أشعر الشعراء في زمانه، راشد بن سعيد البلحسني الرواحي، وله فيه مدائح غراء، وقصائد طنانة فيحاء ذكرها التاريخ، وهي من الأدب العماني الشهير».
يُعَدُّ الشيخ سالم بن محمد بن سالم الدرمكي، المعروف بأبي الأحول (ق: 12 ـ 13 هـ/ 18 ـ 19م)، أحد الوجوه البارزة في الحقل الأدبي والثقافي في الدولة البوسعيدية، وجاء في الموسوعة العُمانية أنه أديب وفقيه وقاضٍ، وشهد عصر الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي منذ بدايته، وأرّخ بشعره كثيرًا من الأحداث التاريخية في عهد هذا الإمام، ثم برز في عهد السيد حمد بن سعيد بن الإمام أحمد بن سعيد، الذي استدعاه من إزكي إلى بركاء وجعله قاضيًا بها، وقَرَّبَه إليه، واستمر قاضيًا من بعده في مسقط للسيد سلطان بن أحمد بن سعيد، ثم للسيد سعيد بن سلطان الذي أقره في منصبه.
ويُعدُّ أبو الأحول من أبرز شعراء الدولة البوسعيدية، وكان أبو الأحول صاحب خَطٍّ حسن، وكتب بيده عدة مخطوطات، منها نسخة من ديوان المتنبي، نسخها للسيد طالب بن الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي.
وقد اشتهر أبو الأحول بنونيته البديعة التي طافت شهرتها الآفاق، وهي في مدح السيد حمد بن سعيد بن الإمام أحمد بن سعيد، وقد نال الدرمكي «حظوة كبرى، وثقة مطلقة، مع هذا السيد الهمام الكبير، وقد خلع عليه حللًا سنية رفيعة، وبنى له منزلًا أنساه منازله ومرابعه الإزكوية، لما اشتمل عليه من فرش ديباجية، وأوانٍ صينية، وأغذية متنوعة، والأسمى من ذلك كله هو المخاللة مع هذا السيد المفضال».
يأتي العلامة المؤرخ والشاعر والأديب حميد بن محمد بن زريق بن بخيت النخلي (1198 - 1291 هـ/ 1783 - 1874م) في مقدمة أدباء الدولة البوسعيدية، إن لم يكن أشهرهم، وعاصر ابن رزيق عددًا من أئمة البوسعيد وارتبط معهم بعلاقات وطيدة، وقد عُرف بأعماله الموسوعية التي تربو على 15 سِفرًا.
ويُعَدُّ حميد بن رزيق أحد الأعلام المضيئة في تاريخ الثقافة العمانية، فقد ترك إرثًا عظيمًا في التاريخ والأدب والشعر بوجه عام، وتعد مصنفاته مراجع غاية في الأهمية، لا سيما في تاريخ الدولة البوسعيدية، إذ كان على صلة وثيقة بسلاطين البوسعيد وكبرائهم في زمنه، لا سيما السيد سالم بن سلطان، الذي كانت تجمعه به علاقة ود وصحبة وبأبنائه أيضًا، وكذلك بالسيد ثويني بن سعيد وابنه سالم بن ثويني؛ الأمر الذي جعله قريب الاطلاع على مجريات الأحداث في الدولة، فقام بتوثيقها وتدوينها عن معايشة ومتابعة.
وتمتد علاقة ابن رزيق بالطبقة الحاكمة منذ دولة اليعاربة، إذ كان جده رزيق بن بخيت يعمل في دولة اليعاربة، وبعد قيام دولة البوسعيد، أكرمه الإمام أحمد بن سعيد وعيَّنه مسؤولًا عن الجمارك (الفرضة)، وكتب في ذلك عهدًا يقول فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من إمام المسلمين أحمد بن سعيد إلى كافة أولادي خصوصًا، وإلى الناس عمومًا، أما بعد، لتتركوا بعدي رزيق بن بخيت، ومن تناسل منه، مثل ما تركته في الفرضة (الجمارك) على قلم حساب، وتُتموا له الفريضة كما تممتها له، وهي مرقومة في دفتر السر كار (أمين السر)، وأحسنوا إليه مثلي، فمن بدَّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يُبدلونه، إن الله سميع عليم».
وبعد رزيق، كان ابنه محمد مكان أبيه في الفرضة على قلم الحساب، وكانت له الحظوة والمنزلة عند السيد سلطان بن أحمد البوسعيدي، إذ كان يستشيره في كل أموره ويكلفه بالأعمال المهمة، وكان أكابر مسقط يجتمعون عنده في بيته، يتدارسون أمورهم ويتشاورون في أحوالهم؛ مما يعني أن ابن رزيق وأسرته خدموا في حكومة البوسعيد وظلوا مخلصين للأسرة الحاكمة.
وكان المؤرخ والأديب ابن رزيق، بحكم قربه من سلاطين السياسة، يحيا حياة هادئة هانئة، متنقلًا بين مجلس العلماء والشعراء وبلاط السلاطين، يجمع من هؤلاء العلوم والمعارف، ويجد من أولئك التشجيع الكبير والمؤازرة الكاملة؛ فكوَّن بذلك حصيلته العلمية العظيمة، التي أودعها في مؤلفاته التاريخية ومصنفاته الأدبية، مؤكدًا قدرته على أن يكون ابن عصره بحق.
يبرز العلامة الفقيه والقاضي والشاعر ناصر بن جاعد بن خميس بن جاعد الخروصي (1778 - 1847 م)، القادم من ولاية العوابي، كإحدى الشخصيات المهمة في عهد الدولة البوسعيدية، ورغم المعاناة التي واجهها في جزء من حياته، نظرًا لبعض الخلافات السياسية التي ثارت في حياة أبيه الشيخ جاعد بن خميس الخروصي واستمرت وقتًا من الزمن، إلا أن الأقدار تبسمت للشيخ ناصر في زمن السيد سعيد بن سلطان، فكان من خاصته ورجال دولته الأوفياء المقربين بقية حياته.
ويذكر السالمي في (التحفة) أن أخبار الشيخ قد عمت جميع الفرق الإسلامية واليهودية والنصرانية والمجوسية، فتأسفوا لما وقع له، واجتمعوا بالسيد سعيد وقالوا له: إنه لا يرضى أحد من الحكام والأمراء مثل هذا الصنيع في علمائهم، فكتب إليه يدعوه للحضور إلى مسقط، «فلما وصل، حباه وكرَّمه وعظَّمه وكساه، ومهما مشى خطوة في حضر أو سفر، أخذه في صحبته، وأطعمه من طعامه، واستشاره في أكثر أموره في طول زمانه»، «وصحبه إلى زنجبار، وسكن بها، وأخذ يتردد على عُمان مرات عديدة، إلى أن توفي في زنجبار سنة 1263 هـ - 1846 م».
ويقول المغيري في (جهينة الأخبار)، في سياق الحديث عن انتقال الإمام سعيد بن سلطان من عُمان إلى زنجبار: «وقد استصحب في معيته من عُمان الشيخ العلامة ناصر بن جاعد بن خميس بن جاعد الخروصي، ومات بها في المكان المسمى المتوني، وقبره مشهور هناك»، وجاء في كتاب (البوسعيديون حكام زنجبار) لعبدالله الفارسي: «وعندما فاضت روحه، كان رأسه في حجر السيد سعيد، وكان عمره واحدًا وسبعين عامًا يوم وفاته».
وفي عهد الإمام سعيد بن سلطان أيضًا، تطالعنا شخصية شعرية فذة أخرى، وهو الشاعر والقاضي والفقيه هلال بن سعيد بن ثاني بن عرابة (ق: 13 هـ/ 19 م)، من ولاية دماء والطائيين، وتتلمذ على يد والده، ثم سافر إلى زنجبار حيث تولى منصب القضاء في عهد السيد سعيد بن سلطان، ومن بعده في عهد السيد ماجد بن سعيد، و«قال قصائد عديدة في مدح السيد سعيد بن سلطان، وقد لقَّبه بقمر المعالي، وله فيه وفي أسرته ديوان شعر مطبوع سماه (جواهر السلوك في مدائح الملوك)، وله أيضًا قصائد في الغزل والوصف والهجاء والرثاء».
«ويعكس في الديوان جزءًا من علاقاته الاجتماعية، فإن أولى علاقاته هي مع السلطان سعيد بن السيد سلطان ابن الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي. وقد خصص له هذا الديوان، إذ كان أغلب شعره قد قيل فيه. واتصل في حياة السلطان أو بعيد وفاته بعدد آخر من البيت الحاكم ومدحهم، ومنهم محمد بن سعيد بن سلطان، وهلال بن سعيد، ومنهم محمد بن سالم بن سلطان».
إن شعر الشاعر في السلطان سعيد كان من طراز خاص، والذي يبدو أن العلاقة الحميدة بين المادح والممدوح كانت من العمق والشدة بحيث نجد فيها الصدق والديمومة والمحبة، فهو لا ينسى ممدوحه وهو بعيد عن الوطن، فيراسله ويمدحه ويعاتبه. وتشبه علاقة الشاعر هلال بالسلطان سعيد، علاقة المتنبي بممدوحه سيف الدولة، إذ جمعت بينهما المحبة والألفة أكثر مما جمعت بينهما المصلحة والمنفعة» .
يعد الشيخ العلامة أبو مسلم البهلاني، ناصر بن سالم بن عديّم الرواحي، ( 1277 ـ 1339 هـ/ 1860 ـ 1920م)، أحد الرموز الثقافية والشعرية في عهد الدولة البوسعيدية. كان شاعرًا وفقيهًا وقاضيًا وصحفيًا رائدًا. انتقل أبو مسلم البهلاني إلى زنجبار عام 1878م برفقة والده، ثم عاد إلى عمان عام 1883، وبقي فيها عدة أعوام، ليعود بعد ذلك إلى زنجبار ويستقر هناك حتى وافته المنية. عاصر أبو مسلم عدة سلاطين ابتداءً من برغش بن سعيد، ثم خليفة بن حارب وحمد بن ثويني، الذي تقلّد في عهده منصب القضاء، إلى جانب توليه مهام مستشار السلطان. ورافق السلطان حمود بن محمد بن سعيد في رحلاته في إفريقيا الشرقية، وقيّد تلك الرحلات في كتاب بعنوان (اللوامع البرقية في رحلة مولانا السلطان المعظم حمود بن محمد بن سعيد بن سلطان بالأقطار الإفريقية الشرقية) .
وينحدر أبو مسلم الرواحي من أسرة علمية، «فقد كان جده عبدالله بن محمد البهلاني أحد قضاة الدولة اليعربية على وادي محرم» . وكان والده «واليًا وقاضيًا في دولة الإمام عزان بن قيس. كما يقال إنه ولي القضاء في دولة السيد تركي بن سعيد بن سلطان، قبل أن يشد رحاله إلى زنجبار، ليعمل هناك قاضيا أيضا في دولة السيد برغش بن سعيد بن سلطان». و«لم تقل مكانة أبي مسلم عن تلك المكانة العظيمة التي تمتع بها والده، فيشير لنا التاريخ بأنه وبفضل علمه، فلقد ارتقى علياء المراتب وقدره بذلك ليس عامة الناس فحسب، وإنما علية القوم والسلاطين». «وظفر الشاعر بثقة حكام زنجبار، وكانت له عندهم حظوة، ولا سيما السيد حمود بن محمد بن سعيد بن سلطان، والسيد حمد بن ثويني بن سعيد. لذلك ولي قضاء زنجبار، ثم رئاسة القضاء فيها. وقدر الشاعر صنيعهم إليه، وجزاهم بما صنعوا مدائح فيهم باقيات، لها في عالم الشعر إذ ذاك مقام مرموق، فقد كان -رحمه الله- شاعر البلاد، وأمير شعراء العصر، غير منازع ولا مدفوع». وقد ترك أبو مسلم إرثًا معرفيًا وإبداعيًا خالدًا، جعله أحد الأعلام المضيئة في تاريخ البشرية.
الشيخ الأديب الشاعر محمد بن شيخان بن خلفان بن مانع السالمي، أبو نذير (1284 ـ 1346 هـ/ 1862 ـ 1927م)، من الشعراء الذين كانت لهم علاقات وثيقة جدا بقصر الحكم، خصوصا على عهد السلطان فيصل بن تركي. وقد دوّن في شعره الكثير من الأحداث التي جرت في حياته، حتى بات شعره مرجعًا لمعرفة أحوال الفترة التي عاش فيها. يقول جامع الديوان في مقدمته: «وقد فصلت الديوان أقساما، بادئا بما قاله في مديح السلطان فيصل بن تركي وأنجاله وأهل بيته؛ لأنهم بيت القصيد، إذ كان السلطان فيصل سلطان عمان، ممن يمجد الشعر ويكبر قدر اللغة العربية، فأقام سوقا للشعراء، وراح إليه قريبهم والبعيد». «وفي الحقيقة فإن ابن شيخان كان واحدا من شعراء كثيرين ازدحموا على باب السلطان يتنافسون في الإطراء بقدر ما يتنافسون على العطاء، مما خلق رواجا أدبيا وازدهارا شعريا امتد طوال حكم السلطان فيصل وما تلته من فترة» .
وقد «بقي ابن شيخان في كنف السلطان فيصل 17 عاما، وبلغت قصائده في مديح السلطان فيصل بن تركي 30 قصيدة، وثّقت كثيرا من الأحداث السياسية والاجتماعية التي جرت في عهده، من بينها الحرب الأهلية التي جرت بين السلطان وبعض القبائل العمانية. وفي ديوان ابن شيخان قسم خاص بالمدائح التي قيلت في السلطان تيمور، وما يجب ذكره هنا أن تلك المدائح قيلت عندما كان وليا للعهد قبل أن يتولى السلطة».
العلم الآخر الذي كان له حضور كبير في دولة البوسعيد هو أبو الصوفي سعيد بن مسلم بن سالم المجيزي الجابري (ت: 1372 ه/ 1952م)، الذي ولد في مدينة سمائل ونشأ فيها. «أما المجيزي فنسبة إلى بلده مجز الكبرى بصحار موطن آبائه قبل انتقالهم إلى سمائل». كان أبو الصوفي من الشعراء المقربين من قصر الحكم، وقد كتب في سلاطين البوسعيد مدائح بديعة، ووثق الكثير من الأحداث الكبرى التي شهدها عصره.
بدأ علومه بقراءة القرآن الكريم، وعندما أتمها وأجاد القراءة والحفظ، تلقى علوما مختلفة باللغة من نحو وصرف وبيان وعروض وفقه ودراسة لأشعار العرب في عصورهم المختلفة». «وما إن زكى الطفل وشبت مداركه وتوسعت مفاهيمه حتى قرر الرحيل إلى مسقط للتكسب وسد حاجاته ورغباته الملحة».
وقد «أتقن أبو الصوفي فن الكتابة، فكان خطاطا ماهرا، فاتخذه السيد بدر بن سيف بن بدر البوسعيدي كاتبا له، ثم عمل كاتبا للسلطان فيصل بن تركي، ثم كاتبا للسلطان تيمور بن فيصل، ثم للسلطان سعيد بن تيمور، وعاش حياته شاعرا للبلاط السلطاني، واختصهم بشعره، ولازمهم في أسفارهم».
و«لأبي الصوفي ديوان شعر، طبع لأول مرة عام 1937م، بمطبعة دار الطباعة الإسلامية العربية، في مدينة أوساكا باليابان، وظهر باسم (الشعر العماني المسكتي في القرن الرابع عشر للهجرة ـ ديوان أبي الصوفي، كتب له السيد تيمور بن فيصل مقدمة وقعها باسم (ت. آل سعيد) . الديوان طبع على نفقة السلطان تيمور، وقد جاءت المقدمة التي أسداها السلطان تيمور للديوان غاية في الروعة والبلاغة، عكس من خلالها عمق ثقافته وانفتاحه وحرصه على نشر الأدب العماني، وولعه بالشعر.
ومن بديع ما اشتمل عليه هذا الديوان بعض الأبيات الشعرية التي جادت بها قريحة السلطان تيمور بن فيصل، والتي اشترك في نظمها أحيانا مع الشاعر أبي الصوفي، فكان يفتتح القصيدة أو شطر البيت، فيطلب من أبي الصوفي أن يجيزه، ويتولى أبو الصوفي تكملة القصيدة.
ويمثل الشاعر والسياسي السيد هلال بن بدر بن سيف البوسعيدي (1314 ـ 1385 ه/ 1796 ـ 1965م)، أحد أبرز التجارب الشعرية التي كانت مقربة من قصر الحكم، لاسيما في عهد السلطان سعيد بن تيمور. هو شاعر مخضرم، ولد في مسقط ونشأ فيها. كان والده من العاملين في عهد السلطان فيصل بن تركي. و«كان لوالده تأثير كبير على شخصيته، إذ إنه كان يشغل منصبا مهما في دولة السلطان فيصل، وكان في كثير من الأحيان يصحبه معه إلى المجالس وخاصة مجلس السلطان».
«عمل هلال البوسعيدي نائبا لرئيس المحكمة العدلية، ثم سكرتيرا خاصا للسلطان سعيد بن تيمور (حكم: 1350 ـ 139 هـ/ 1932 ـ 1970م)، ثم رئيسا لأول مجلس بلدي في العاصمة مسقط، ثم عين مندوبا للسلطان سعيد وكان مقربا منه، وكان السلطان يكلفه بالقيام بمهمات خاصة، وسافر إلى أوروبا برفقته، ثم سافر معه إلى الهند والبحرين».
وهو من منبت ومحتد كريم، سافر وجال وارتقى في المنصب، وحظي بالقرب من سلطان البلاد. وفي مثل هذا المناخ لابد للقصيدة ـ شاء أم أبى ـ إلا أن تعكس معاني الرخاء والسلاسة والاعتدال واللطف». فقد «كانت له مكانة وحظوة في قصر السلطان سعيد بن تيمور، وكان حقا يمثل نتاج العصر الذي عاش، في مدحه ووصفه وتهانيه وتفاعله وتعاطيه وتعاطفه مع كل الأحداث التي كانت تمر بأبناء أمته قاصيها ودانيا». وله ديوان شعر جامع مدائح لهذا السلطان سعيد وغيره ولفنون شتى من الأدب والتاريخ».
هذه جملة من أعلام الشعر والأدب الذين عاشوا في ظل العهد البوسعيدي، وعايشوا أحداثه، وشهدوا تحولاته، وشاركوا في وقائعه، ووثّقوا مجرياته، فبات نتاجهم ذاكرة حية ولسانا ناطقا بحقائق زمانهم، ووثائق خالدة تروي للأجيال حكاية أمجاد سطرها هؤلاء الأئمة والسلاطين، الذين قدموا الغالي والنفيس في الذود عن حياض هذا الوطن العزيز، وبذلوا في ذلك النفس والمهج، وسطروا البطولات العظيمة، التي رأى فيها الشاعر محفزا إبداعيا يشحذ همة الكتابة ويوقد شعلة الإبداع.
وقد شهد عصر الدولة البوسعيدية في عُمان تحولات جذرية على صعيد الثقافة والفكر، باعتباره عصر تنوير وتجديد وانفتاح على ثقافات العالم، ونتيجة لهذا المناخ الإيجابي الذي اتسم به هذا العهد، فقد برزت نخبة كبيرة من حملة العلم والمعرفة وأساطين الأدب والشعر، منذ تولي الإمام أحمد بن سعيد مقاليد الحكم إلى يومنا هذا، ولا تزال هذه الدولة الكريمة تواصل مسيرة العطاء في خدمة عُمان وثقافتها والحفاظ على منجزها العظيم، وصون تراثها الحضاري الخالد، ونشره في ربوع العالم.
وقد سنحت الظروف والأقدار لبعض الشخصيات الأدبية أن يكونوا قريبين من دائرة الحكم، ويتصلوا بأئمة وسلاطين البوسعيد، الأمر الذي نتج عنه منجز ثقافي وأدبي ومعرفي بات من مفاخر الثقافة العمانية، وفي هذه المقالة سنتوقف عند عدد من فحول الشعراء العمانيين الذين جمعتهم علاقات وطيدة مع حكام البوسعيد، وحظوا برعايتهم وعاشوا في كنفهم ونالوا من أفضالهم الكثير، فقدموا عصارة إبداعهم وفكرهم، ولاء لهذه الدولة وخدمة لأهدافها ومشاركة في مساعيها الكبرى، فكان نتاجهم وثائق شاهدة ودلائل ناطقة على ما عايشوه وعاصروه من أحداث ومواقف مرّ بها الوطن.
- شاعر الإمام
عُرِف عن أئمة وسلاطين عُمان، ومنهم البوسعيد، حبهم للعلم وتقديرهم للعلماء والأدباء والشعراء، وقد ورث الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي، مؤسس دولة البوسعيد هذه الخصال الحميدة، فقد ذكر التاريخ اهتمامه بالعلماء وتقديره للشعراء والمفكرين، ويقول ابن رزيق في (الفتح المبين): «وقصدته شعراء كثيرون من أهل عُمان وغيرهم، فأحسن إليهم وأجازهم، ورفع محلتهم، وكان الشاعر المشهور في زمانه، وأشعر شعراء عُمان على الإطلاق الشيخ الفصيح راشد بن سعيد بن بلحسن العبسي الأعمى الضرير»، ولقد برز اسم هذا الشاعر على عهد الإمام أحمد بن سعيد، وهو الشاعر راشد بن سعيد بن بلحسن الرواحي العبسي (ق: هـ12/ 18م).
وقال عنه ابن رزيق في (الصحيفة العدنانية): «راشد بن سعيد بن بلحسن الرواحي العبسي، الضرير العينين، البصير القلب، المشهور، كان الشيخ راشد المذكور غاية زمانه، وآية أوانه، له قريحة صافية، وبديهة شافية، ويد في القريض والبديع طويلة، وبنان في البيان دونها الرذيلة، نشأ في زمن الإمام الحميد البوسعيدي أحمد بن سعيد، ومدحه بالحمر والبيض، وحباه حمده لأحمد خالص الوميض، وانقادت محبته من بعده لولده الحميد هلال بن أحمد، فأهدى إليه ثناءه الوسيم، لمّا ساق إليه نواله الجسيم» .
ويقول الشيخ سالم بن حمود السيابي في كتابه (العنوان)، في سياق الحديث عن الإمام أحمد بن سعيد: «وكان شاعره الأعمى أشعر الشعراء في زمانه، راشد بن سعيد البلحسني الرواحي، وله فيه مدائح غراء، وقصائد طنانة فيحاء ذكرها التاريخ، وهي من الأدب العماني الشهير».
- شاعر بديع الخط
يُعَدُّ الشيخ سالم بن محمد بن سالم الدرمكي، المعروف بأبي الأحول (ق: 12 ـ 13 هـ/ 18 ـ 19م)، أحد الوجوه البارزة في الحقل الأدبي والثقافي في الدولة البوسعيدية، وجاء في الموسوعة العُمانية أنه أديب وفقيه وقاضٍ، وشهد عصر الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي منذ بدايته، وأرّخ بشعره كثيرًا من الأحداث التاريخية في عهد هذا الإمام، ثم برز في عهد السيد حمد بن سعيد بن الإمام أحمد بن سعيد، الذي استدعاه من إزكي إلى بركاء وجعله قاضيًا بها، وقَرَّبَه إليه، واستمر قاضيًا من بعده في مسقط للسيد سلطان بن أحمد بن سعيد، ثم للسيد سعيد بن سلطان الذي أقره في منصبه.
ويُعدُّ أبو الأحول من أبرز شعراء الدولة البوسعيدية، وكان أبو الأحول صاحب خَطٍّ حسن، وكتب بيده عدة مخطوطات، منها نسخة من ديوان المتنبي، نسخها للسيد طالب بن الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي.
وقد اشتهر أبو الأحول بنونيته البديعة التي طافت شهرتها الآفاق، وهي في مدح السيد حمد بن سعيد بن الإمام أحمد بن سعيد، وقد نال الدرمكي «حظوة كبرى، وثقة مطلقة، مع هذا السيد الهمام الكبير، وقد خلع عليه حللًا سنية رفيعة، وبنى له منزلًا أنساه منازله ومرابعه الإزكوية، لما اشتمل عليه من فرش ديباجية، وأوانٍ صينية، وأغذية متنوعة، والأسمى من ذلك كله هو المخاللة مع هذا السيد المفضال».
- وريث عهد الإمام
يأتي العلامة المؤرخ والشاعر والأديب حميد بن محمد بن زريق بن بخيت النخلي (1198 - 1291 هـ/ 1783 - 1874م) في مقدمة أدباء الدولة البوسعيدية، إن لم يكن أشهرهم، وعاصر ابن رزيق عددًا من أئمة البوسعيد وارتبط معهم بعلاقات وطيدة، وقد عُرف بأعماله الموسوعية التي تربو على 15 سِفرًا.
ويُعَدُّ حميد بن رزيق أحد الأعلام المضيئة في تاريخ الثقافة العمانية، فقد ترك إرثًا عظيمًا في التاريخ والأدب والشعر بوجه عام، وتعد مصنفاته مراجع غاية في الأهمية، لا سيما في تاريخ الدولة البوسعيدية، إذ كان على صلة وثيقة بسلاطين البوسعيد وكبرائهم في زمنه، لا سيما السيد سالم بن سلطان، الذي كانت تجمعه به علاقة ود وصحبة وبأبنائه أيضًا، وكذلك بالسيد ثويني بن سعيد وابنه سالم بن ثويني؛ الأمر الذي جعله قريب الاطلاع على مجريات الأحداث في الدولة، فقام بتوثيقها وتدوينها عن معايشة ومتابعة.
وتمتد علاقة ابن رزيق بالطبقة الحاكمة منذ دولة اليعاربة، إذ كان جده رزيق بن بخيت يعمل في دولة اليعاربة، وبعد قيام دولة البوسعيد، أكرمه الإمام أحمد بن سعيد وعيَّنه مسؤولًا عن الجمارك (الفرضة)، وكتب في ذلك عهدًا يقول فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من إمام المسلمين أحمد بن سعيد إلى كافة أولادي خصوصًا، وإلى الناس عمومًا، أما بعد، لتتركوا بعدي رزيق بن بخيت، ومن تناسل منه، مثل ما تركته في الفرضة (الجمارك) على قلم حساب، وتُتموا له الفريضة كما تممتها له، وهي مرقومة في دفتر السر كار (أمين السر)، وأحسنوا إليه مثلي، فمن بدَّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يُبدلونه، إن الله سميع عليم».
وبعد رزيق، كان ابنه محمد مكان أبيه في الفرضة على قلم الحساب، وكانت له الحظوة والمنزلة عند السيد سلطان بن أحمد البوسعيدي، إذ كان يستشيره في كل أموره ويكلفه بالأعمال المهمة، وكان أكابر مسقط يجتمعون عنده في بيته، يتدارسون أمورهم ويتشاورون في أحوالهم؛ مما يعني أن ابن رزيق وأسرته خدموا في حكومة البوسعيد وظلوا مخلصين للأسرة الحاكمة.
وكان المؤرخ والأديب ابن رزيق، بحكم قربه من سلاطين السياسة، يحيا حياة هادئة هانئة، متنقلًا بين مجلس العلماء والشعراء وبلاط السلاطين، يجمع من هؤلاء العلوم والمعارف، ويجد من أولئك التشجيع الكبير والمؤازرة الكاملة؛ فكوَّن بذلك حصيلته العلمية العظيمة، التي أودعها في مؤلفاته التاريخية ومصنفاته الأدبية، مؤكدًا قدرته على أن يكون ابن عصره بحق.
- مات في حجر الإمام
يبرز العلامة الفقيه والقاضي والشاعر ناصر بن جاعد بن خميس بن جاعد الخروصي (1778 - 1847 م)، القادم من ولاية العوابي، كإحدى الشخصيات المهمة في عهد الدولة البوسعيدية، ورغم المعاناة التي واجهها في جزء من حياته، نظرًا لبعض الخلافات السياسية التي ثارت في حياة أبيه الشيخ جاعد بن خميس الخروصي واستمرت وقتًا من الزمن، إلا أن الأقدار تبسمت للشيخ ناصر في زمن السيد سعيد بن سلطان، فكان من خاصته ورجال دولته الأوفياء المقربين بقية حياته.
ويذكر السالمي في (التحفة) أن أخبار الشيخ قد عمت جميع الفرق الإسلامية واليهودية والنصرانية والمجوسية، فتأسفوا لما وقع له، واجتمعوا بالسيد سعيد وقالوا له: إنه لا يرضى أحد من الحكام والأمراء مثل هذا الصنيع في علمائهم، فكتب إليه يدعوه للحضور إلى مسقط، «فلما وصل، حباه وكرَّمه وعظَّمه وكساه، ومهما مشى خطوة في حضر أو سفر، أخذه في صحبته، وأطعمه من طعامه، واستشاره في أكثر أموره في طول زمانه»، «وصحبه إلى زنجبار، وسكن بها، وأخذ يتردد على عُمان مرات عديدة، إلى أن توفي في زنجبار سنة 1263 هـ - 1846 م».
ويقول المغيري في (جهينة الأخبار)، في سياق الحديث عن انتقال الإمام سعيد بن سلطان من عُمان إلى زنجبار: «وقد استصحب في معيته من عُمان الشيخ العلامة ناصر بن جاعد بن خميس بن جاعد الخروصي، ومات بها في المكان المسمى المتوني، وقبره مشهور هناك»، وجاء في كتاب (البوسعيديون حكام زنجبار) لعبدالله الفارسي: «وعندما فاضت روحه، كان رأسه في حجر السيد سعيد، وكان عمره واحدًا وسبعين عامًا يوم وفاته».
- كعلاقة المتنبي بسيف الدولة
وفي عهد الإمام سعيد بن سلطان أيضًا، تطالعنا شخصية شعرية فذة أخرى، وهو الشاعر والقاضي والفقيه هلال بن سعيد بن ثاني بن عرابة (ق: 13 هـ/ 19 م)، من ولاية دماء والطائيين، وتتلمذ على يد والده، ثم سافر إلى زنجبار حيث تولى منصب القضاء في عهد السيد سعيد بن سلطان، ومن بعده في عهد السيد ماجد بن سعيد، و«قال قصائد عديدة في مدح السيد سعيد بن سلطان، وقد لقَّبه بقمر المعالي، وله فيه وفي أسرته ديوان شعر مطبوع سماه (جواهر السلوك في مدائح الملوك)، وله أيضًا قصائد في الغزل والوصف والهجاء والرثاء».
«ويعكس في الديوان جزءًا من علاقاته الاجتماعية، فإن أولى علاقاته هي مع السلطان سعيد بن السيد سلطان ابن الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي. وقد خصص له هذا الديوان، إذ كان أغلب شعره قد قيل فيه. واتصل في حياة السلطان أو بعيد وفاته بعدد آخر من البيت الحاكم ومدحهم، ومنهم محمد بن سعيد بن سلطان، وهلال بن سعيد، ومنهم محمد بن سالم بن سلطان».
إن شعر الشاعر في السلطان سعيد كان من طراز خاص، والذي يبدو أن العلاقة الحميدة بين المادح والممدوح كانت من العمق والشدة بحيث نجد فيها الصدق والديمومة والمحبة، فهو لا ينسى ممدوحه وهو بعيد عن الوطن، فيراسله ويمدحه ويعاتبه. وتشبه علاقة الشاعر هلال بالسلطان سعيد، علاقة المتنبي بممدوحه سيف الدولة، إذ جمعت بينهما المحبة والألفة أكثر مما جمعت بينهما المصلحة والمنفعة» .
- جامع اللوامع
يعد الشيخ العلامة أبو مسلم البهلاني، ناصر بن سالم بن عديّم الرواحي، ( 1277 ـ 1339 هـ/ 1860 ـ 1920م)، أحد الرموز الثقافية والشعرية في عهد الدولة البوسعيدية. كان شاعرًا وفقيهًا وقاضيًا وصحفيًا رائدًا. انتقل أبو مسلم البهلاني إلى زنجبار عام 1878م برفقة والده، ثم عاد إلى عمان عام 1883، وبقي فيها عدة أعوام، ليعود بعد ذلك إلى زنجبار ويستقر هناك حتى وافته المنية. عاصر أبو مسلم عدة سلاطين ابتداءً من برغش بن سعيد، ثم خليفة بن حارب وحمد بن ثويني، الذي تقلّد في عهده منصب القضاء، إلى جانب توليه مهام مستشار السلطان. ورافق السلطان حمود بن محمد بن سعيد في رحلاته في إفريقيا الشرقية، وقيّد تلك الرحلات في كتاب بعنوان (اللوامع البرقية في رحلة مولانا السلطان المعظم حمود بن محمد بن سعيد بن سلطان بالأقطار الإفريقية الشرقية) .
وينحدر أبو مسلم الرواحي من أسرة علمية، «فقد كان جده عبدالله بن محمد البهلاني أحد قضاة الدولة اليعربية على وادي محرم» . وكان والده «واليًا وقاضيًا في دولة الإمام عزان بن قيس. كما يقال إنه ولي القضاء في دولة السيد تركي بن سعيد بن سلطان، قبل أن يشد رحاله إلى زنجبار، ليعمل هناك قاضيا أيضا في دولة السيد برغش بن سعيد بن سلطان». و«لم تقل مكانة أبي مسلم عن تلك المكانة العظيمة التي تمتع بها والده، فيشير لنا التاريخ بأنه وبفضل علمه، فلقد ارتقى علياء المراتب وقدره بذلك ليس عامة الناس فحسب، وإنما علية القوم والسلاطين». «وظفر الشاعر بثقة حكام زنجبار، وكانت له عندهم حظوة، ولا سيما السيد حمود بن محمد بن سعيد بن سلطان، والسيد حمد بن ثويني بن سعيد. لذلك ولي قضاء زنجبار، ثم رئاسة القضاء فيها. وقدر الشاعر صنيعهم إليه، وجزاهم بما صنعوا مدائح فيهم باقيات، لها في عالم الشعر إذ ذاك مقام مرموق، فقد كان -رحمه الله- شاعر البلاد، وأمير شعراء العصر، غير منازع ولا مدفوع». وقد ترك أبو مسلم إرثًا معرفيًا وإبداعيًا خالدًا، جعله أحد الأعلام المضيئة في تاريخ البشرية.
- شيخ البيان
الشيخ الأديب الشاعر محمد بن شيخان بن خلفان بن مانع السالمي، أبو نذير (1284 ـ 1346 هـ/ 1862 ـ 1927م)، من الشعراء الذين كانت لهم علاقات وثيقة جدا بقصر الحكم، خصوصا على عهد السلطان فيصل بن تركي. وقد دوّن في شعره الكثير من الأحداث التي جرت في حياته، حتى بات شعره مرجعًا لمعرفة أحوال الفترة التي عاش فيها. يقول جامع الديوان في مقدمته: «وقد فصلت الديوان أقساما، بادئا بما قاله في مديح السلطان فيصل بن تركي وأنجاله وأهل بيته؛ لأنهم بيت القصيد، إذ كان السلطان فيصل سلطان عمان، ممن يمجد الشعر ويكبر قدر اللغة العربية، فأقام سوقا للشعراء، وراح إليه قريبهم والبعيد». «وفي الحقيقة فإن ابن شيخان كان واحدا من شعراء كثيرين ازدحموا على باب السلطان يتنافسون في الإطراء بقدر ما يتنافسون على العطاء، مما خلق رواجا أدبيا وازدهارا شعريا امتد طوال حكم السلطان فيصل وما تلته من فترة» .
وقد «بقي ابن شيخان في كنف السلطان فيصل 17 عاما، وبلغت قصائده في مديح السلطان فيصل بن تركي 30 قصيدة، وثّقت كثيرا من الأحداث السياسية والاجتماعية التي جرت في عهده، من بينها الحرب الأهلية التي جرت بين السلطان وبعض القبائل العمانية. وفي ديوان ابن شيخان قسم خاص بالمدائح التي قيلت في السلطان تيمور، وما يجب ذكره هنا أن تلك المدائح قيلت عندما كان وليا للعهد قبل أن يتولى السلطة».
- يتشاطران القصيدة
العلم الآخر الذي كان له حضور كبير في دولة البوسعيد هو أبو الصوفي سعيد بن مسلم بن سالم المجيزي الجابري (ت: 1372 ه/ 1952م)، الذي ولد في مدينة سمائل ونشأ فيها. «أما المجيزي فنسبة إلى بلده مجز الكبرى بصحار موطن آبائه قبل انتقالهم إلى سمائل». كان أبو الصوفي من الشعراء المقربين من قصر الحكم، وقد كتب في سلاطين البوسعيد مدائح بديعة، ووثق الكثير من الأحداث الكبرى التي شهدها عصره.
بدأ علومه بقراءة القرآن الكريم، وعندما أتمها وأجاد القراءة والحفظ، تلقى علوما مختلفة باللغة من نحو وصرف وبيان وعروض وفقه ودراسة لأشعار العرب في عصورهم المختلفة». «وما إن زكى الطفل وشبت مداركه وتوسعت مفاهيمه حتى قرر الرحيل إلى مسقط للتكسب وسد حاجاته ورغباته الملحة».
وقد «أتقن أبو الصوفي فن الكتابة، فكان خطاطا ماهرا، فاتخذه السيد بدر بن سيف بن بدر البوسعيدي كاتبا له، ثم عمل كاتبا للسلطان فيصل بن تركي، ثم كاتبا للسلطان تيمور بن فيصل، ثم للسلطان سعيد بن تيمور، وعاش حياته شاعرا للبلاط السلطاني، واختصهم بشعره، ولازمهم في أسفارهم».
و«لأبي الصوفي ديوان شعر، طبع لأول مرة عام 1937م، بمطبعة دار الطباعة الإسلامية العربية، في مدينة أوساكا باليابان، وظهر باسم (الشعر العماني المسكتي في القرن الرابع عشر للهجرة ـ ديوان أبي الصوفي، كتب له السيد تيمور بن فيصل مقدمة وقعها باسم (ت. آل سعيد) . الديوان طبع على نفقة السلطان تيمور، وقد جاءت المقدمة التي أسداها السلطان تيمور للديوان غاية في الروعة والبلاغة، عكس من خلالها عمق ثقافته وانفتاحه وحرصه على نشر الأدب العماني، وولعه بالشعر.
ومن بديع ما اشتمل عليه هذا الديوان بعض الأبيات الشعرية التي جادت بها قريحة السلطان تيمور بن فيصل، والتي اشترك في نظمها أحيانا مع الشاعر أبي الصوفي، فكان يفتتح القصيدة أو شطر البيت، فيطلب من أبي الصوفي أن يجيزه، ويتولى أبو الصوفي تكملة القصيدة.
- سكرتير السلطان
ويمثل الشاعر والسياسي السيد هلال بن بدر بن سيف البوسعيدي (1314 ـ 1385 ه/ 1796 ـ 1965م)، أحد أبرز التجارب الشعرية التي كانت مقربة من قصر الحكم، لاسيما في عهد السلطان سعيد بن تيمور. هو شاعر مخضرم، ولد في مسقط ونشأ فيها. كان والده من العاملين في عهد السلطان فيصل بن تركي. و«كان لوالده تأثير كبير على شخصيته، إذ إنه كان يشغل منصبا مهما في دولة السلطان فيصل، وكان في كثير من الأحيان يصحبه معه إلى المجالس وخاصة مجلس السلطان».
«عمل هلال البوسعيدي نائبا لرئيس المحكمة العدلية، ثم سكرتيرا خاصا للسلطان سعيد بن تيمور (حكم: 1350 ـ 139 هـ/ 1932 ـ 1970م)، ثم رئيسا لأول مجلس بلدي في العاصمة مسقط، ثم عين مندوبا للسلطان سعيد وكان مقربا منه، وكان السلطان يكلفه بالقيام بمهمات خاصة، وسافر إلى أوروبا برفقته، ثم سافر معه إلى الهند والبحرين».
وهو من منبت ومحتد كريم، سافر وجال وارتقى في المنصب، وحظي بالقرب من سلطان البلاد. وفي مثل هذا المناخ لابد للقصيدة ـ شاء أم أبى ـ إلا أن تعكس معاني الرخاء والسلاسة والاعتدال واللطف». فقد «كانت له مكانة وحظوة في قصر السلطان سعيد بن تيمور، وكان حقا يمثل نتاج العصر الذي عاش، في مدحه ووصفه وتهانيه وتفاعله وتعاطيه وتعاطفه مع كل الأحداث التي كانت تمر بأبناء أمته قاصيها ودانيا». وله ديوان شعر جامع مدائح لهذا السلطان سعيد وغيره ولفنون شتى من الأدب والتاريخ».
- الخاتمة
هذه جملة من أعلام الشعر والأدب الذين عاشوا في ظل العهد البوسعيدي، وعايشوا أحداثه، وشهدوا تحولاته، وشاركوا في وقائعه، ووثّقوا مجرياته، فبات نتاجهم ذاكرة حية ولسانا ناطقا بحقائق زمانهم، ووثائق خالدة تروي للأجيال حكاية أمجاد سطرها هؤلاء الأئمة والسلاطين، الذين قدموا الغالي والنفيس في الذود عن حياض هذا الوطن العزيز، وبذلوا في ذلك النفس والمهج، وسطروا البطولات العظيمة، التي رأى فيها الشاعر محفزا إبداعيا يشحذ همة الكتابة ويوقد شعلة الإبداع.