تحتفل شعوب العالم بأعيادها الوطنية باعتبارها تجسيدًا لمسيرتها وتطورها التنموي من ناحية، وقدرتها على الصمود وعزيمتها التي يقودها المجتمع من ناحية أخرى، ويعود اختيار هذا اليوم إلى اعتبارات عدة يتم تحديدها وفقًا للمرحلة الانتقالية أو مراكز القوة التغييرية التي تحدث للدول، وهذا التحديد يتخذ مسارات تشكِّل مركز القوة والعِزَّة والأنفة التي يُحتفل بها سنويًا، لذا كان الاحتفال الوطني بيوم الثامن عشر من نوفمبر، الذي يُعد مرحلة فارقة في التنمية الوطنية في عُمان، ليكون يومًا يرمز إلى تلك العزيمة التي يتميَّز بها هذا الوطن. إن الاحتفال السنوي بهذا اليوم يمثِّل تجديدًا للعهد التنموي الذي يعكس استمرار التنمية الوطنية في كافة القطاعات، وفق أهداف ورؤية الدولة الحكيمة التي تقود البلاد نحو دعم التجديد والتحديث والاستدامة، الأمر الذي يجعل من هذا اليوم نقطة انطلاق متجددة نحو مستقبل مزدهر قائم على أسس تنموية متينة، وحضارة ضاربة في التاريخ، وقوة بشرية يقودها العزم والإصرار.

يكشف لنا الاحتفال السنوي بالعيد الوطني عن تلك الإنجازات التي تحققت خلال العام وتطوُّر مسيرة التنمية من ناحية، والتحديات التي واجهها المجتمع من ناحية أخرى، إضافة إلى القدرة على تخطي هذه التحديات وإعداد البرامج القادمة التي يمكن أن تسهم في البناء المستمر، وهو فرصة للاحتفال بما تم إنجازه، والفرحة بما قدمته الدولة «حكومة وشعبًا» في سبيل التطوير والبناء والتقدُّم، بما يحقق الازدهار والرفاه الاجتماعي.

غير أن مكانة العيد الوطني لا تتجلى في الاحتفال والفرحة بما أُنجز وحسب، بل هي أيضًا فرصة سانحة للمراجعة الشاملة لما تم إنجازه، بُغية دعم البرامج التنموية وتحسينها، وتسريع فاعليتها وإمكانات تحقيق أهدافها المنشودة، ولهذا فإن عُمان اليوم في احتفالها بالعيد الوطني الرابع والخمسين المجيد، تتطلَّع إلى مستقبل أفضل وازدهار قائم على التجويد والتمكين، وتقديم كل ما من شأنه إسعاد المجتمع.

لقد سعت عُمان في تنميتها الحديثة المتجددة إلى أن تكون من الدول المتقدمة التي تحرز مكانة مرموقة في المؤشرات الدولية، خاصة في تلك المؤشرات الأساسية التي تدعم التقدم الاقتصادي والكفاءة الإدارية والتقنية، مثل مؤشرات التنافسية العالمية، والكفاءة الحكومية، ومؤشر الابتكار العالمي، ومؤشرات الأداء البيئي، وغيرها؛ الأمر الذي دعا إلى تخصيص برامج تنموية تحفِّز النمو في تلك القطاعات الحيوية، وتُسهم في التركيز على تطوير منظومتها وفق أهداف واضحة وآليات تنفيذ تُسرِّع النمو والتطوير.إذ تكشف لنا تقارير المؤشرات الدولية عن القفزات التنموية التي انعكست على مرتبة عُمان في تلك المؤشرات خلال العام 2024؛ فبعد أن كانت مثلًا في المرتبة 95 للعام 2023، قفزت إلى المرتبة 39 في مؤشر الحرية الاقتصادية، والحال نفسه نجده في مؤشر ريادة الأعمال، حيث جاءت فيه في المرتبة 11، متقدمة بـ27 مرتبة، إضافة إلى مؤشرات الأداء البيئي، التي أصبحت فيها من بين الخمسين دولة الأولى عالميًا، بعد أن كانت في المرتبة 149 في العام 2022، وغير ذلك من المؤشرات التي حرصت عُمان على أن تؤسس مركزها فيها بين الدول المتقدمة على مستوى العالم، وما زال هناك الكثير من العمل لمواصلة التقدُّم في قفزات تنموية ذات أثر اقتصادي واجتماعي وبيئي ينعكس على تحقيق الأهداف الوطنية. ولعل حرص الدولة على إيجاد مؤشرات محلية ذات صلة مباشرة بتطوير أنماط حياة أفراد المجتمع، وقدرتها على تنميتهم اجتماعيًا واقتصاديًا، خاصة فيما يتعلَّق بالقوى العاملة العمانية وتدريبهم، ومؤشرات الرفاه المجتمعي، ومنظومة الحماية الاجتماعية، والمؤشرات الخاصة بالمحافظة على الثقافة الوطنية والمواطنة، وغير ذلك؛ كان له الأثر الفاعل في تعزيز التنمية الاجتماعية، وإمكانات تطوير قدرة الأفراد على المشاركة الفاعلة والإيجابية في التنمية الوطنية.

يكشف لنا التقرير العربي للتنمية المستدامة 2024، الصادر عن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا «الإسكوا»، عن التقدُّم الذي تحرزه سلطنة عُمان في تحقيق أهداف التنمية المستدامة 2030، من خلال العديد من التشريعات والسياسات والبرامج، التي لا ترنو إلى تحقيق تلك الأهداف وحسب، بل تسعى أيضًا إلى تطوير المنظومة التشريعية نفسها، لتكون مواكبة للتطلعات المستقبلية والتغيرات التنموية التي يمر بها المجتمع؛ فالأمر هنا يمثِّل حاجة وطنية وأولويات تنشد تطوير تلك المنظومة بما يتوافق مع التطور الحضاري للدولة في كافة القطاعات.

إذ يقدِّم التقرير ذلك التطوير الذي أحدثته عُمان، خاصة في مجال الحماية الاجتماعية، الذي يهدف إلى توسعة دائرة المستفيدين من هذه الحماية، لا سيما ما يتعلَّق بحقوق المرأة والطفل وبرامج حمايتهما ضد العنف، ودعم دخل الأسر، إضافة إلى ما قدّمته الدولة في سبيل المحافظة على البيئة وحمايتها، وتحقيق أهداف الحياد الصفري الكربوني، وما اعتمدته من نُظُم واستراتيجيات وطنية للاقتصاد الأخضر، والطاقة المتجددة، وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، والمدن الذكية؛ كل ذلك تحقق من خلال مجموعة من التشريعات والسياسات والبرامج الوطنية التي عزَّزت تلك المجالات وقدَّمت نماذج رائدة يُحتذى بها. ولهذا، فإن تلك التشريعات التي شهدناها خلال العامين الماضيين على وجه الخصوص، وتلك التي لا تزال قيد الإجراءات، تمثِّل جميعها منطلقًا نحو تسهيل تحقيق الأهداف، سواء تلك المرتبطة بالتنمية المستدامة، أو الأهداف المرتبطة بـ«رؤية عُمان 2040»، فكلها متكاملة تنشد تنمية المجتمع، وتعزيز المساهمة محليًا ودوليًا في توفير حياة كريمة للأفراد، تسودها العدالة والمساواة والمثل والقيم الإنسانية الخيِّرة، كما تدعم هذه التشريعات أنماط التقدُّم التقني والاقتصادي، وتوفِّر الأمن والأمان للمجتمع، بما ينعكس إيجابيًا على أنماط الحياة الإنسانية في العالم، بوصفنا جزءًا منه.

فما تتميَّز به عُمان من علاقات خارجية قائمة على مبادئ التسامح والتفاهم وحسن الجوار، يتأسَّس في الأصل على تلك القيم التي رسَّختها على المستوى المحلي عبر حضارتها الممتدة، التي كان لها الأثر الواضح في علاقاتها مع الآخر، وهذا الأمر نجده جليًا في تلك الشراكات الإقليمية والدولية التي سعت إلى استمرارها وتطويرها، بما يعزِّز مكانتها بين دول العالم، ويرسِّخ دورها الإيجابي الفاعل في حلّ الكثير من الخلافات، فعُمان هي بلد السلام والأمان، الذي سيظل دائمًا قوة استراتيجية وحكمة دبلوماسية، تتمتع بسيادتها وجوهرها الأصيل. فلقد مكَّنتها هذه السيادة، عبر الحقب المختلفة، من أن تكون واحدة من الدول العريقة التي تحتفي بتاريخها الإنساني، وتطورها المتسارع، وقدرتها على التغيير وفق مرونة تجمع بين ثنائية الأصالة والمعاصرة، فتحافظ على ذلك الجوهر، وتنطلق نحو المستقبل بخطى مثابرة، تقودها العزيمة والعمل الموجَّه نحو تحقيق الأهداف والأولويات، والقدرة على إحداث التطوير التنموي الذي ينشده المجتمع.

إن الوصول بـ«سلطنة عُمان إلى مصاف الدول المتقدمة»، الذي تسعى إليه «رؤية عُمان 2040»، هو هدفنا جميعًا، وهو غايتنا الوطنية التي نريد لعُمان أن تحققها، ولهذا فإن أمانة العمل والسعي المستمر لتحقيق هذه الغاية تقع على عاتقنا جميعًا، أينما كُنَّا؛ فالعمل المشترك، كلٌّ بحسب خبرته ومعارفه وعلمه، يوصلنا إلى تحقيق تلك الأهداف السامية، فعُمان أمانة لدينا جميعًا، وعلينا أن نعمل ما استطعنا لتكون عُمان في المكانة التي تستحقها، وفي الثامن عشر من نوفمبر من كل عام، نجدِّد هذا العهد وهذا الولاء لعُماننا، قولًا وعملًا وسعيًا.