سبيطلة تلك المدينة التونسية الموغلة في القدم بتراثها الروماني والبيزنطي، وما يشمله من معابد وكنائس ومقابر وحمامات وأعمدة ومسرح ما زال صامدا حتى اليوم، كما ما زالت تحتفظ بآثار الحضارات النوميدية والرومانية والبيزنطية، فضلا عن الإسلامية لاحقا، وهي اليوم تتبع ولاية القصرين في وسط غرب تونس، والقصرين ذاتها تحمل آثارا لها عراقتها، وتحتفظ بشواهد تراثية رومانية وبيزنطية، تجد فيها الأقواس العالية، والأضرحة والمسارح والحمامات وغيرها.

المسافة من تونس إلى سبيطلة قرابة ثلاثمائة كيلومتر، فتحتاج من أربع إلى خمس ساعات لتصل إليها برا، حيث تونس توقفت قليلا في نهضتها الطرقية، والعديد منها ما زال يعود إلى عهد الحبيب بورقيبة (ت: 2000م)، وشيء من بعده، ومع هذا تجد إصلاحات في أماكن مختلفة، بيد أنها اليوم تعيش حالة من التعافي والإحياء والاستقرار الأمني والسياسي بعد أحداث الربيع العربي، فسبيطلة ذاتها تبعد حوالي ساعة واحدة فقط من سيدي بوزيد والتي انطلقت منها أحداث الربيع العربي.

ومع هذا، وأنت تتأمل في طريقك تدرك حقا معنى «تونس الخضراء»، هناك ترى أشجار الزيتون، وتشاهد الجبال والسهول متزينة بالثوب الأخضر، وترى الناس كبارا وصغارا، نساء ورجالا في الأسواق طول الطريق يسعون في طلب الرزق، ويحملون طيبة وتواضعا وخلقا في تعاملهم مع الغريب، كما ترى ألوانا مختلفة من الناس فردانيون بطبعهم، لا يشتغلون بالآخر سلبا، فلكل له قناعاته وحرياته، وهذا تطبعوا عليه، وصارت ثقافة في مدنهم وقراهم، وعند كبارهم وصغارهم.

للأسف -وهذه أشرت إليها في أكثر من مناسبة- أن نجد الهجرات السياحية إلى عوالم أخرى أقل جمالا وطبيعة خلابة وأثرية في أجزاء من العالم من قبل أبناء العروبة أنفسهم، بينما هناك جنان في عالمنا العربي، وشواهد أثرية موغلة في القدم والعراقة، لا يكاد يُلتفت إليها أو يُهتم بها، ولا تملك أدنى المقومات السياحية، والتي تساهم في إحياء الوطن العربي ككل، ثم ما زالت خطابات السياسيين في عالمنا العربي في جملتها في قممنا المتناثرة تكرر ذات البيانات، بينما لا نجد حضور الجانب الإحيائي للوطن والإنسان العربي حاضرا بصورة جدية وعملية، بما في ذلك الإحياء السياحي.

لهذا حاولت سبيطلة بإمكاناتها البسيطة أن تغير هذه النظرة، انطلاقا من رؤية المعهد العالي للدراسات التطبيقية في الإنسانيات التابع لجامع القيروان، والذي مقره سبيطلة ذاتها، وهنا من خلال استغلال المعابد الأثرية الرومانية ذاتها ليس في السياحة العامة في هذه المرة، ولكن في السياحة المعرفية من خلال ندوة المدينة السنوية، والتي غايتها مناقشة مفردة الإنسان وحقه في الإحياء، ومن الإحياء إحياء الإنسان العربي، أيا كان قطره ودينه وتوجهه، لبعث روح الحاضر وليس العيش في الماضي، وروح البناء والسلم وليس الصراع والهدم، وروح النقد والمراجعة، وليس التعصب والجمود.

«ندوة المدينة» في الوقت ذاته لم ترد أن تجعل ذاتها ندوة سلطة، غايتها أن تمجد حكومة أو سياسة ما، فهنا لا شيء يمجد إلا العلم والمعرفة، وليست ندوة رسمية صورية، يستدعى لها شخوص لاعتبارات منصبية، يقدمون أوراقا قد تكتب لهم، أو ينتحلون بعضها، أو لا يهتمون بها فتظهر ركيكة، فهي ندوة مفتوحة للباحثين في العالم العربي وفي المهجر، يتقدم لها من يملك مرتبة منصبية ومن هو دون ذلك، كما يتقدم لها أساتذة الجامعات وطلابها معا، والحكم أن تدخل البحوث لجنة التحكيم، والتي يشارك في تحكيمها ما لا يقل عن أربعين محكما من تونس وغيرها، فقد يُقبل بحث طالب ويُرفض بحث أستاذه، فالعبرة بالمادة المقدمة وليس بالاعتبارات الثانوية، كما أن للباحث سقفه المفتوح في طرح رؤيته بلا قيود، فلا توجد قيود سياسية أو دينية أو اجتماعية في طرح الفكرة والمعرفة، سواء في كتابة البحث وتقديمه، أو في طرح ملخصه، ما دام بحثا معرفيا ومنهجيا، لهذا تجد في الندوة ألوانا مختلفة من الناس، من ذات اليمين وذات اليسار، وحدتهم روح المعرفة والعقل والنقد والتثاقف، فلا تعصب لفكرة، ولا صراخ لأجل رأي، فلك كغيرك حق النقد والتعبير بكل حرية ومحبة.

ركزت «ندوة المدينة» في سنواتها الأربع الماضية منذ انطلاقها عام 2021م حتى 2024م على الإنسان، بدءا من الإنسان واللغات بين الهوية والتعليمية، ثم الإنسان والأديان، ثم الإنسان والتأويل، وأخيرا الإنسان والتعبير، والجميع متلازم، ويعطي صورة معرفية عامة عن الإنسان، من خلال ذاتيته، أو من خلال انتماءاته وهوياته، والمتشكلة في لغاته وأديانه ومذاهبه وتوجهاته وعاداته وتقاليده، والتي تجمعها ذات مشتركة، ينتج عنها السلم والإحياء والبناء، ومع هذا الإنسان غير منفصل عن ماضيه، فهو يحمل نصوصا مقدسة، وتراثا إنسانيا معرفيا، لهذا يأتي التأويل وإعادة مناهج القراءة والتفكير، لنعيش الواقع بروح الواقع دون الانفصال عن الماضي، فالتراث الإنساني متراكم ومترابط ومرتبط بظرفياته، لهذا تأتي أهمية التأويل، ولكن لا يمكن تحقق التأويل دون توفر مساحة من حرية التعبير، ليس كمناخ يشعر فيه الباحث بالاطمئنان، ولكن كمفردات دقيقة لها دقتها التعبيرية في البحث والتأويل، وإلا ستكون مجرد انطباعات هامشية، أو إسقاطات مسبقة، أو قراءات هزيلة.

حاولت الندوة أن تنفتح على المعارف الإنسانية المعاصرة، وأن تستفيد من الأدوات النقدية العقلية واللغوية واللسانية والفلسفية وغيرها، وأن تنفتح على جميع الثقافات واللغات، فبجانب العربية وهي الأغلب، هناك بحوث بالإنجليزية والفرنسية والإسبانية والإيطالية، كما أن هناك باحثين من العديد من الأقطار العربية بمختلف توجهاتهم، ومنهم من خارجها، لهذا نحن كما نسعد أن يكون في وطننا العربي، وفي منطقة نائية من تونس مثل هذه الندوات المحكمة، حيث كتابها المحكم والذي يحوي هذه البحوث العميقة يكون حاضرا قبل انعقاد ندوتها، رغم إمكاناتهم المحدودة، كما يكون حاضرا في الجامعات والمعارض الدولية، لتصبح ندوة المدينة من أهم الندوات المعرفية في تونس اليوم على الأقل؛ عليه أرجو مثل هذه التجارب أن تكون حاضرة في وطننا العربي، بدلا من ضخ الأموال في أوراق هزيلة، فليست العبرة بكثرة الشخوص، وإنما العبرة بجودة المادة المقدمة، كما ينبغي أن نستفيد من أهمية وجود فضاءات معرفية حرة بعيدا عن القيود الخارجية، فالمعرفة النقدية إذا حدت هزلت وربما تموت مبكرا.