إذا تابعنا التفاعل على حسابات شركة تيسلا موتورز على وسائل التواصل الاجتماعي، وقمنا بمقارنته مع الحراك على حساب إيلون ماسك -المؤسس المساعد لمصانع تيسلا، ومديرها التنفيذي- سنجد أن الجمهور يتفاعل مع قائد الابتكار بشكل مضاعف، وهي طبيعة البشر في كل مكان وزمان، فالمنتج النهائي للابتكار مهما بلغت عظمته إلا أن الاهتمام يتمحور دائمًا حول العقل المبتكر الذي أنتجه، والذي بوسعه أن ينتج ابتكارات أخرى عظيمة ومؤثرة، وهذا الذي جعل من موضوع القيادة والإدارة في العلوم حديث الساعة، ومحور النقاشات الفكرية والفلسفية، ولكن السؤال المهم هو من أين نبدأ في تسخير قوة العلم عبر القيادة الناجحة والمتمكنة؟

قبل ذلك كله، يشهد العالم تغييرات في قدرات التكنولوجيا متعددة الأبعاد، والتي تتمثل في الابتكارات التحويلية، والتقنيات المتقدمة، وبذلك أصبحت القطاعات العلمية والبحثية والابتكارية قطاعات اقتصادية في المقام الأول، وفضلًا عن ذلك، تحتاج هذه القطاعات للقدرات والكفاءات العلمية الضخمة، والاستثمارات الهائلة الموجهة في الإنفاق على البحث العلمي والتطوير التكنولوجي والابتكار، وتعد مخرجات البحوث العلمية من أهم مدخلات صناعة القرارات وصياغة الخطط والسياسات، كما يتمتع المجتمع العلمي بمكانته المميزة مع مجموعة من الاختلافات، والقواسم المشتركة عبر السياقات التنظيمية الأكاديمية منها والصناعية، وفي ريادة الأعمال، وهذا بدوره يفرض ضرورة التركيز بشكل استراتيجي على الإدارة والقيادة العلمية، ورغم عدم وجود فوارق جوهرية في ملفات الإدارة، وموضوعات القيادة في جميع القطاعات، إلا أن القيادة العلمية لها مفاتيحها التي تتلاءم مع طبيعة المجتمع العلمي.

فإذا سألنا أنفسنا عن الصورة النمطية للباحث أو المبتكر، نجد أن الفكرة السائدة التي تعمّقت في أذهاننا هي تلك التي تصور عالمًا في المختبر، ويقوم بالتجارب بمفرده لتحقيق الاختراعات العلمية الخارقة، وهذا التأطير قد ظل عالقًا في التفكير المجتمعي والمؤسسي، ونتجت عنه ثقافة سادت الأوساط الأكاديمية والبحثية التي ظلت لعقود طويلة تنظر إلى الباحثين والمخترعين كأفراد مستقلين، وبأنهم يخوضون تجربة الاكتشافات العلمية وهم مدفوعون ذاتيًا وجوهريًا بالفضول العلمي، والطبيعة الواثقة والموجهة بالضمير نحو سبر أغوار المعرفة لصالح البشرية، وفي السياق نفسه، تبدو عملية إنتاج المعرفة وكأنها مسعى موضوعي خالٍ من العناصر الإنسانية والاجتماعية التي تتطلب الإدارة، وهذا التأطير هو الذي تسبب في تهميش محور الإدارة والقيادة العلمية، وقد بدأت الأوساط الفكرية والفلسفية مؤخرًا في التركيز على أهمية الإدارة في ممارسات المجتمع العلمي، وأن الإنتاج المعرفي يبدأ بإرساء القيادة العلمية.

فقد يكون من الصعب على فرق البحث العلمي الإلمام بجميع الأبعاد الاجتماعية والتنظيمية العديدة للإنتاج المعرفي، فجميع هذه الفرق تضم المختصين بالحقول المعرفية، وهم باحثون قضوا سنوات من حياتهم في دراسة التخصصات العلمية والحقول المعرفية ليصبحوا باحثين أكفاء وناجحين، ولكن قد تنقصهم المهارات الإدارية والقيادية، فإما أن تكون الدراسة لا تتضمن تخصصات فرعية في الإدارة، أو أن الدورات القصيرة في القيادة التي انضموا إليها تنطبق عليها المقولة الإدارية «ناقصة في أفضل الأحوال، وغائبة في أسوأ الأحوال»، وهذا ما يفرض أهمية اكتشاف وبناء مهارات القيادة والإدارة التي تناسب العمل المعرفي والتخصصي، وبذلك فإن المهارات المعرفية هي أولى رباعية القيادة العلمية.

وكما لا يمكن فصل العملية المعرفية عن الدوائر المؤسسية الأخرى، مثل القطاعات المانحة للتمويل، والقطاعات الإنتاجية، وعالم الأعمال، والمجتمع، فإن المهارات الاجتماعية تشكل أهمية بالغة مع طبيعة العمل البحثي والابتكاري المعقدة والإبداعية في آن واحد، إذ يشكل رأس المال الاجتماعي البعد الثاني من رباعية القيادة العلمية، وخاصة لكون عملية إدارة ممارسات المجتمع البحثي والابتكاري هي تفاعلية بين حاملي المعرفة، ومنتجي التقانة، والمستفيدين منها، والممولين لها، وطلبة العلم، مما يضع على القيادة العلمية أعباءً كثيرة مقارنةً بالقيادة الإدارية، ويستوجب إرساء نماذج الممارسات والقيادة التي تأخذ في الاعتبار خلق مناخات عمل تراعي أخلاقيات البحث العلمي والابتكار، وتزويد الباحثين والعلماء والمبتكرين بمهارات اتصال تمكنهم من نقل الأفكار المعقدة بفعالية إلى الفئات غير المتخصصة، وهي مهارة حيوية في عالم اليوم وللمستقبل، إذ يتوجب على المجتمع العلمي التواصل الفعال مع صناعي السياسات، ووسائل الإعلام، والمجتمع لتعزيز بناء الشراكات الاستراتيجية القادرة على استقطاب التمويل، وزيادة الوعي بالقضايا العلمية، وبناء الثقة بأهمية المعرفة والعلوم في معالجة التحديات المعقدة بصورة تتماشى مع القيم والاحتياجات المجتمعية، وإبراز دور المخرجات البحثية والمعرفية في دعم اتخاذ قرارات أكثر استنارة، وأكثر فاعلية على إحداث الأثر المنشود.

لقد أصبحت طبيعة البحث العلمي والابتكار أكثر تعددًا للتخصصات، وتكاملًا مع المؤسسات والقطاعات، مما يستوجب الفهم الواعي بأهمية المهارات التنفيذية التي تمثل البعد الثالث من رباعية القيادة العلمية، فبناء فرق التطوير التقني، وإدارة التمويل البحثي، وتتبع ديناميكيات المهام البحثية، والتقريب بين وجهات النظر والمهارات والخبرات المتنوعة، وتحري المرونة والكفاءة في التعامل مع تعقيدات التمويل، والامتثال للحوكمة المؤسسية هي في صميم تنفيذ المشروعات البحثية والابتكارية، ومع تنامي دور الباحثين والعلماء في دعم التوجهات الاستراتيجية بعيدة المدى، فقد أصبحت القيادة العلمية في أمس الحاجة إلى مهارات التفكير الاستراتيجي، وهنا يأتي البعد الاستراتيجي لتكتمل رباعية القيادة العلمية، إذ تعد العقلية الاستراتيجية ضرورية في دعم المبادرات التي لديها القدرة على تحويل المجالات العلمية إلى فرص اقتصادية واجتماعية، مع استشراف الاتجاهات المستقبلية، وتحديد فرص الابتكار، والمساهمة في تشكيل الأجندة العلمية.

إن القيادة العلمية الرصينة ليست مجرد إضافة اختيارية للعملية المعرفية، ولكنها عنصر أساسي في بلورة دور المجتمع العلمي في النمو الاقتصادي والاجتماعي، وتأصيل إنتاج المعرفة لكونه مسعى إنسانيًا عميقًا يبدأ بإرساء ركائز قيادية تتكامل فيها المهارات المعرفية، والذكاء الاجتماعي، وكفاءة العمل التنفيذي، والحس الاستراتيجي القادر على إتاحة مزيج فريد من الدقة المعرفية، والفكر الإبداعي، وروح التعاون والتكامل، حيث تتميز البيئة المهنية للعمل البحثي والابتكاري بكونها معقدة ومتعددة الأوجه ومتطلبة، من حيث ترسيخ الثقافة، وتنمية الباحثين للانتقال بسلاسة بين الأبعاد الاجتماعية والتنظيمية للممارسات العلمية بما يساهم في تعزيز جودة الإنتاج المعرفي.