عشية البعثة المحمدية.. كان العرب فـي جزيرتهم ينتسبون إلى النبي إبراهيم ويعتقدون أنه أبوهم، وأنهم على ملته، وهم قسمان كبيران:

- الأميون.. ينتسبون إلى إبراهيم من جهة ابنه إسماعيل، وهؤلاء قسمان: الموحدون.. ويسميهم التاريخ العربي «الحنفاء»، وأما القرآن فـيسميهم «الصابئة»، وكان لهم وجود فـي أنحاء الجزيرة. والمشركون.. الذين يعتقدون بتأثير «قوى غيبية» على حياتهم ومن حولهم كالملائكة والجن؛ فـيشركونهم مع الله فـي صفات الألوهية.

- الكتابيون.. ينتسبون إلى إبراهيم من جهة ابنه إسحاق، وفـيهم كانت النبوات والكتب. وهم قسمان: اليهود.. أتباع موسى وكتابهم التوراة، وأكثر وجودهم فـي اليمن والحجاز وفلسطين، مع جيوب متوزعة فـي جزيرة العرب. والنصارى.. أتباع عيسى، وقد انتشرت النصرانية قبيل الإسلام بالجزيرة، وهم بعمومهم نساطرة لا يعتقدون بألوهية عيسى، وإنما يرون أن اللاهوت حل فـي الناسوت -بعبارة القرآن التأييد بروح القدس- بعد ولادته، وهذه النصرانية غير المسيحية الغربية التي تجعل المسيح نسلاً لاهوتياً لله «ابن الله»، والرب ذا أقانيم ثلاثة: الله الأب والروح القدس ويسوع الابن.

جاء الإسلام حرباً على الشرك بكل أشكاله، ولكن الذهن المسلم تركّب على أن الشرك بالمقام الأول عبادة الأصنام، فـي حين أن الصنمية بحسب دلالات الوثائق المعتبرة: القرآن و«معلقات العرب» قد انحسرت من الجزيرة العربية، ولبيان ذلك؛ أتحدث أولاً عن الأصنام والتماثيل والأوثان بحسب ورودها فـي القرآن.

- الأصنام.. ذكرت فـيه خمس مرات بالجمع دون إفراد، ثلاث منها أثناء الجدال بين إبراهيم؛ وأبيه وقومه، ومرةً عندما دعا إبراهيم ربه أن يجنبه وبنيه عبادتها: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) «إبراهيم:35»، وقد استجاب الله له، فانحسرت الصنمية عن أبنائه العرب، حتى بعث الله محمداً بالتوحيد الخالص. والخامسة؛ عندما طلب بنو إسرائيل من موسى أن يجعل لهم إلهاً: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) «الأعراف:138»، ويبدو أن هؤلاء القوم أجانب ليسوا من العرب أبناء إبراهيم.

- التماثيل.. ذكرت فـيه مرتين بالجمع دون إفراد، مرةً لا علاقة لها بالعبادة، امتناناً على آل داود: (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) «سبأ:13»، ومرةً فـي حالة عبادة، وهي أيضاً فـي قوم إبراهيم: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ، قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ) «الأنبياء:52-53».

- الأوثان.. ذكرت فـيه ثلاث مرات بالجمع دون إفراد، مرتين فـي محاجة إبراهيم قومه، ومرةً فـي بيان مناسك الحج. والوثن.. قد يكون صنماً، وقد لا يكون صنماً، فالشجرة إن تُقرِّب إليها فهي وثن. والمعتقدات والممارسات والهوى.. إن نصّبت ديناً من دون أن يشرع الله فهي أوثان، كقول الله: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ) «الأنبياء:30»، والآية واردة فـي مناسك الحج؛ فإن كان المنادى بقول الله: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) «الأنبياء:30» النبي إبراهيم؛ فقد أُمِر بالأذان بعد تطهير بيت الله من الأصنام، وإن كان النبي محمداً؛ فهذا فـي حجة الوداع، حيث لا وجود للأصنام. فكل ما كان وثناً وجب اجتنابه، ومصداقه قول الله: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ) «الجاثية:23».

لنأتِ إلى بيان الشرك فـي القرآن.. ولنفهمه علينا ألا نستصحب معناه من منظومات الرواية والتاريخ، حتى لا تدخل على فهمنا خلطاً. القرآن.. يتحدث عن الشرك بكونه حالة قد تلابس أي معتقد بغض النظر عن دينه، فمن الشرك الاعتقاد بأن لله شركاء من الجن: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ) «الأنعام:100»، وقد يتخذ الناس الملائكة والأنبياء أرباباً: (وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) «آل عمران:80»، أو يعتقدون بأن الله ثالث ثلاثة: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ) «المائدة73».

وغالباً من تحدث عنهم القرآن بكونهم آلهة هم من البشر، كقول الله: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) «المائدة:116»، ومنه جعل البشر شركاء لله: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ) «الأعراف:194-195»، ونفـي الجوارح عن الشركاء لبيان عجزهم تبكيتاً لمن أشركهم مع الله، بدليل قول الله بعد ذلك: (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) «الأعراف:198». ويوم القيامة يُحشر المشركون مع الشركاء: (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ) «يونس:28». ومن الشرك التشريع بما لم يأذن به الله: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) «الشورى:21».

أما قول الله: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى) «النجم:19-21»؛ فلا يدل على أن المذكورات الثلاث أصنام، وإنما هي فـي معتقد العرب ملائكة، ولا يرد ذكر «الآلهة الإناث» فـي القرآن إلا بكونها «بنات الله» بحسب معتقد المشركين، كقول الله: (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ، أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ، أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ، وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) «الصافات:149-154». وهذا يؤكده ورود الحديث عن الملائكة بعدها: (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى، إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى) «النجم:26-27»، وهذا بغض النظر عن وجود أصنام قديمة تحمل هذه الأسماء، وإنما الحديث عن معتقد العرب فـيها عند البعثة المحمدية.

وإذا رجعنا إلى «المعلقات»؛ الوثيقة الثانية بعد القرآن لتلك الفترة، نلحظ أنه لم يرد كذلك فـيها ذكرٌ للأصنام، مع ذكرها بعض معتقدات العرب، ومما ورد مقراً بوحدانية الله واليوم الآخر قول عبيد الأبرص:

والله ليس له شريك علّام ما أخفت الغيوب

وقول زهير بن أبي سلمى:

فَلاَ تَكْتُمُنَّ اللهَ مَا فِي نُفُوسِكُمْ

لِيَخْفَى وَمَهْمَا يُكْتَمِ اللهُ يَعْلَمِ

يُؤَخَّرْ فَيُوضَعْ فِي كِتَابٍ فَيُدَّخَرْ

لِيَوْمِ الحِسَابِ أَوْ يُعَجَّلْ فَيُنْقَمِ

وهكذا لا نجد فـي القرآن و«المعلقات» ذكراً للأصنام عند البعثة المحمدية، فأين هذا مما تسوقه كتب التاريخ والرواية من أن العرب كانوا غارقين حتى أذقانهم فـي عبادة الأصنام: 360 صنماً فـي الكعبة وحولها، ولكل قبيلة أصنامها، والعربي يتأبط صنمه فـي حله وترحاله، وعمر بن الخطاب اتخذ صنماً من التمر؛ فإذا جاع أكله، والنبي محمد نسبوا إليه أنه ذبح للأصنام قبل بعثته، وكأن دعوة إبراهيم بأن يجنب الله بنيه عبادة الأصنام ذهبت أدراج الرياح.

الحشد الروائي للصنمية جرى على يد هشام بن محمد الكلبي(ت:204هـ) فـي كتابه «الأصنام»، فبالإضافة إلى أنه غير موثوق الرواية؛ جاء جمعه لروايات الأصنام فـي خضم «الحركة الشعوبية»، التي سعت بأساليب مختلفة إلى تشويه صورة العرب؛ وأنهم كانوا فـي «جاهلية»، مستغلين تحذير القرآن منها، خالطين بين المفاهيم، ولذلك؛ يحتاج مفهوم «الجاهلية» لتحرير أرجو القيام به مستقبلاً.