ثمّة ما جذبني لمشاهدة حلقة «جلسة كرك» على اليوتيوب، والتي استمرّت لمدّة ساعتين ونصف، وإن كان موضوع «جريمة القتل» هو السبب الذي قد يتبدى ظاهريًا إلا أنّ الشجاعة والقدرة على المسامحة هما الأمران اللافتان اللذان تمكنت الضيفة: أريج عبدالغفور الميمنية من تأكيدهما بشيء من الرهافة والصلابة فـي آن.

فـي الحقيقة عدتُ لمتابعة الحلقة لمرّة ثانية، كمن يرغب فـي استجلاء أمر ما، فلم أكن راغبة فـي الكتابة وأنا تحت تأثير التعاطف المحض، فمن المؤكد أنّ قصّة بالغة التعقيد كهذه يمكن أن تُروى بأكثر من وجهة نظر واحدة، يغدو فـيها الأبطال أشرارًا أو نقيض ذلك تماما.. ولذا لستُ فـي سياق التحدث عن الجريمة ولا ملابساتها، وإنّما حول أولئك الذين تبقى حياتهم مُعلقة فـي الماضي الكئيب دون تجاوز، يحملون وزرًا لا يخصهم، ويفقدون كل السبل التي تخولهم فرصة امتلاك حياة طبيعية.

فعندما نُصغي للأبناء الذين يعيشون فـي جلابيب ما اقترفه الآباء من خطايا، يتبادر إلى أذهاننا السؤال حول احتمال أن ينشأوا مُحملين بالعقد، أو بوصمة العار، فما بالك بأولئك الذين يفقدون «الأب» بالقتل العمد وبتواطؤ مُدبّر من الأمّ؟ دائما ما نتوقع استحالة أن يقف هؤلاء الأبناء على أرض صلبة وثابتة!

«أريج» البنت المُدللة، لم تكن تُواجه خسارة والدها وحسب، كانت تُواجه غياب الأمّ «التي أجّلت البكاء ريثما ترتمي فـي حضنها»، تواجه سبابة المجتمع التي تُشير إلى أنّها ليست أكثر من ابنة المُجرمة القاتلة!

تمكنت «أريج» فـي تلك الاستضافة الاستثنائية من أن تقبض علينا، وهي تُعري القصّة الغامضة طبقة طبقة. جعلتنا جزءا من التجربة، جعلت كل واحد منا فـي مكانها لبرهة، أرتنا جانبًا من وجه المجتمع المتوحش فـي أحكامه المريضة تجاه البيوت التي تقوضها الجريمة.. لقد تمتعت بذخيرة مُدهشة من القصص، فأعادت ترتيب الحدث على نحو مُغاير. أعادت خلق الحياة التي عاشتها بوداعة بين والديها، ثمّ ألقت بنا فـي قبضة عالم متوحش بالأطماع، انقسم فـيه الأقرباء بين من تحرضهم الرأفة أو النوازع الشيطانية!

هكذا أُصيبت أريج فـي الصميم وهي لا تزال على مقاعد الدرس. لقد لعبنا معها لعبة المراقب، نُراقب حياة المُعذب من مسافة قريبة، ولا أدري حقا كيف نمّت أجنحتها وقاومت يأسها الذي يُخفـي فـي طياته انعدام جدوى أي شيء بعد فقدها العظيم!

لقد بات لأريج «ابنة» ستحمل هي الأخرى جزءا من تاريخ هذه العائلة، فمعتقدات المجتمع الخاطئة وتناسلها المُرعب هو لبّ المشكلة التي لا تجعل الأغصان الجديدة تنمو ناحية سماء حرّة.

من يدري ربما الأمومة العميقة هي التي كسرت القيد الذي استمرّ لمدة ١٨ عاما، فواجهت «أريج» العالم بوجهها وصوتها وحجتها. وضعت كل كلمة فـي مكانها بشفافـية مُذهلة دون أن تُسيء إلى والدها ولا حتى إلى أمّها، وكأنّ تلك المجابهة التي خاضتها هي ردع لكل من تسول له نفسه قمع حياتها وحياة أختها وابنتها التي تنمو على مهل. مجابهة الشك فـي أنّهن لن يغدون أكثر من نسخ مُطابقة لصورة الأمّ المشوهة!

لقد أعادتني هذه المحاورة إلى جملة سقراط المُهمة: «الحياة التي لا نتفحصها جيدا، غير صالحة للعيش»، فهنالك بالتأكيد من وقف على حواف مُسننة كهذه، فلم يتعلم منها شيئًا.. ربما دمر نفسه وتآكل وتحلل من الداخل، ربما صيرته سلطة المجتمعات إلى شيء بالغ الهشاشة والضعف، وكسرته أول ريح عبرت، قد يُدمن المخدرات ورفقاء السوء، وقد يشعر البعض برغبة نهائية فـي إفناء الذات.. لكن «أريج» كانت تحفرُ بيديها المرفّهتين حكاية مُغايرة، لقد أنبتت دروع حمايتها، عقلنة مخاوفها ومضت تشقُّ درب تعليمها وعملها دون هوادة.. حتى أنّ قرار مسامحة الأمّ -اتفقنا أو اختلفنا- من المؤكد أنّه لم يأتِ إلا من طريق الشقاء الوعر الذي خاضته، وأدركت حساسيته من تجربتها الفردية.

وكما يبدو فقد نجت «أريج» بفضل البصيرة التي تشع من أعماقها، وربما بفضل النصائح الثلاث التي تركها لها والدها قبل أن يُقتل بثلاثة أيام، هكذا نتأكد بأنّ والدها عبدالغفور، لم يكن يصنعُ الذهب الذي حرّك الأطماع وحسب، فقد صنع أيضا معدن ابنته وجوهرها الأصيل.