يواجه العالم اليوم مجموعة من التحديات التقنية والاقتصادية والسياسية والبيئية، والتي تتغيَّر بشكل متسارع ومفاجئ فـي الكثير من الأحيان، ولهذا فإن الاهتمام بالإبداع والابتكار، والعلوم والتعليم القائم عليها، يعد من بين أهم المعطيات التي تؤسسها الدول، فالمعرفة العلمية والتقنية وتشجيع الابتكار من خلال تطوير السياسات والبيئات المناسبة لانتعاشها، لا ينعكس فقط على تقديم ابتكارات مساعدة للتغلب على تلك التحديات بل أيضا يجعل الدول أكثر قدرة على الصمود وإحداث تغييرات تنموية فـي المجتمع.

ولأن العلوم فـي تطوُّرها ونموها تقوم فـي الأصل على الأولويات الوطنية والإقليمية والدولية، كونها ترصد حاجات الإنسان ومتطلبات بقائه وأمنه وتطوره، فإن الأمر هنا لا يتعلَّق بأهمية العلوم فـي حياة المجتمعات وحسب، بل أيضا بكيفـية تسخير تلك العلوم والتكنولوجيا لتسريع تحقيق أهداف التنمية وأولويات المجتمع فـي كافة القطاعات، وكيفـية الاستفادة منها بما يخدم قدرة المجتمع على تخطي الكثير من التحديات.

يحتفل العالم اليوم باليوم العالمي للعلوم من أجل السلام والتنمية، الذي يصادف العاشر من نوفمبر من كل عام، والذي يهدف «حسب اليونسكو» إلى إبراز «الدور المهم الذي يؤديه العلم فـي المجتمع والحاجة إلى إشراك جمهور أوسع فـي المناقشات المتعلقة بالقضايا العلمية الجديدة»؛ إذ يركِّز على أهمية العلوم فـي حياة المجتمعات، وقدرتها على تعزيز الثقة فـي ما تنتجه العلوم من اختراعات وابتكارات تساعد فـي تحسين أنماط الحياة، ودعم رفاهية أفراد المجتمع.

إن الاحتفال بالعلوم باعتبارها أساسا يوجَّه إلى دعم أنماط السلام ومجالاته فـي العالم من ناحية، وإلى تنمية المجتمعات ونهضتها وتطوُّرها المستدام من ناحية أخرى، يمثِّل ركيزة مهمة من ركائز التنمية، فلا يمكن أن يتطوَّر المجتمع دونما إحداث نقلة نوعية فـي علومه الحديثة بشكل خاص، ولا يمكن أن تنعم الأمم بالسلام ما لم يتم توجيه الاختراعات والابتكارات من أجل التنمية لا من أجل الدمار والحروب والخراب، ولهذا فإن هناك جهودا علمية تسعى من أجل تأمين مستقبل مستدام للتنمية عن طريق دعم التوجهات الإيجابية للعلوم.

ولعل تلك الأهمية جعلت الدول تسعى على الدوام إلى توسعة آفاق التخصصات التي تفتحها أمام شبابها، بما فـي ذلك العلوم الأساسية والتطبيقية، والعلوم الاجتماعية والإنسانية؛ حيث تتَّجه إلى المساهمات التحويلية فـي التخصصات وإظهار المجالات الجديدة منها، والتي تتواكب مع المتغيرات العلمية والمعرفـية فـي العالم، وتتواءم مع متطلبات المجتمعات وتطلعاته المستقبلية، فالحرص على إيجاد مساحات واسعة للشباب لتعلُّم العلوم الجديدة يؤمِّن قدرة المجتمع على الصمود فـي وجه المتغيرات، وتخطي التحديات من خلال الابتكارات والبحث العلمي والمعرفـي.

يأتي الاحتفال باليوم العالمي للعلوم من أجل السلام والتنمية وعُمان تحتفل بمهرجان عمان للعلوم 2024 فـي نسخته الرابعة تحت شعار (مواردنا المستدامة)؛ الذي شاركت فـيها أكثر من (140) مؤسسة من داخل عُمان وخارجها، وتضم (520) فعالية علمية متنوعة حسب ما ورد فـي الصُحف المحلية، وهو مهرجان يكشف فـي تنوِّعه والإقبال المتزايد على زيارته والتعرُّف على ما يقدمه، والمشاركة فـي فعالياته، أهمية العلوم والابتكارات فـي حياة المجتمع العماني، والإيمان بالإمكانات التي تقدمها لازدهار الحياة.

إن الزائر لمهرجان عمان للعلوم يستطيع أن يرى بوضوح تلك الإمكانات الرائدة التي يتمتع بها الناشئة والشباب فـي كافة القطاعات، إضافة إلى إمكانات المؤسسات وتوجهها نحو تنمية العلوم والتقنيات والاستفادة منها فـي تحسين أنماط الأعمال، والمعارف، وتسهيل الكثير من الممارسات الخَدمية التي تقدمها لأفراد المجتمع، الأمر الذي يكشف الاهتمام المتزايد للدولة والتركيز على فتح آفاق التعليم والتدريب واتخاذ وسائل رائدة، وتهيئة البيئات المناسبة لتطوير تلك الآفاق.

فالإقبال المجتمعي والمؤسسي على مهرجان متخصِّص فـي العلوم، يكشف الإرادة الصادقة فـي التطوير والتغيير من أجل الأفضل؛ فهو مهرجان ليس للطلاب وحسب، بل أيضا لفئات المجتمع كلهم، من حيث قدرته على جذبهم جميعا ليكونوا شركاء فـي التفاعل والإنجاز، الأمر الذي يقدِّم فكر (مجتمع المعرفة) الذي تنشده الرؤية الوطنية «عمان 2040»، والذي يطمح دوما إلى المزيد من الإنجازات على المستوى العلمي والمعرفـي، فهو مجتمع يعمل من أجل التنمية والعطاء المتجدد.

ولعل فتح الفرص للأجيال الناشئة والشباب من أجل المشاركة الفاعلة فـي المهرجان، يدفعهم إلى مزيد من الاجتهاد فـي تقديم الابتكارات والمعارف العلمية المتنوعة، ويوسِّع مداركهم فـي التخصصات المختلفة، ويشوقهم إلى معرفة أحدث التطورات العالمية فـي مجالاتهم، بُغية مواكبة تلك التطورات والتغيرات المستقبلية، وتعزيز مهاراتهم لتنمية ابتكاراتهم ومعارفهم للمساهمة فـي تحقيق أهداف اقتصاد المعرفة، الذي تنشده الدولة ضمن متطلبات المرحلة التنموية الحديثة.

إن التنوُّع العلمي والمعرفـي الذي يستعرضه مهرجان عمان للعلوم 2024؛ سواء ذلك المتعلِّق بالتنوع البيئي والصحي، أو علوم الفضاء والسيبرانيات والطاقات الجديدة والذكاء الاصطناعي، أو الثروات الطبيعية والموارد البشرية والمالية، أو ابتكارات العلوم بشكل عام بمختلف تنوعاتها، يعكس الشغف المجتمعي بالعلوم والإيمان بقدرة تلك الابتكارات والتقنيات ونتائج البحوث على ولوج قطاعات الحياة الإنسانية كلها، وما تعكسه من أثر اقتصادي واجتماعي وبالتالي تنموي، قادر على تمكين الأفراد من إحداث تغييرات إيجابية فـي حياة مجتمعهم.

فتسخير الجهود والطاقات من أجل تنمية العلوم وتطويرها، وتهيئة البيئات المناسبة، سيُسهم فـي تمكين تلك الجهود، وتعظيم دورها فـي حياتنا اليومية، كما يحاول إيجاد حلول للتحديات الأكثر إلحاحا وأولوية، خاصة فـي ظل العديد من التطورات المتسارعة، والتحديات البيئية والاقتصادية بل وحتى الاجتماعية التي تشكِّل قلقا للمجتمعات ولاستدامة مستقبلها، ولهذا فإنه لا مناص من العلوم وتطويرها ودعم توجهات التنمية القائمة على التطورات العلمية والابتكارات؛ فهي التي تقدِّم نفسها باعتبارها جوهر التطوُّر وضمان الحياة المستدامة.

إن تمكين العلوم وتطوير مجالاتها فـي كافة القطاعات، وتوجيه الابتكارات العلمية والمعرفـية من أجل السلام والتنمية، سيعزِّزان التنمية الاجتماعية والاقتصادية لحياة المجتمعات فـي العالم، فالعلم طاقة وقوة تزدهر بها الأمم وتتقدَّم بها الابتكارات والتقنيات الداعمة لحماية الإنسانية والحفاظ على كرامتها ودعم تطلعاتها، وتحسين أنماط حياتها، ولهذا فإن تشجيع العلوم والنهوض بها وتعزيز التعاونات الإقليمية والدولية الداعمة لها، وإشراك أفراد المجتمع من المبدعين وأصحاب المواهب الخلاقة، سيوفِّر البيئة المناسبة للعلوم الهادفة نحو خدمة الإنسانية.

إننا نحتفل مع العالم باليوم العالمي للعلوم من أجل السلام والتنمية، ونذكِّر بأهمية تلك العلوم فـي خدمة المجتمعات، وقدرتها على التغيير الإيجابي ودعم التطلعات المستقبلية التي تسهم فـي بناء الوطن، ومهرجان عُمان للعلوم واحد من تلك الشواهد الكثيرة التي تكشف الاهتمام المتزايد للدولة والدعوة السامية فـي كافة المناسبات للاهتمام بالعلوم والتقنيات الحديثة وتطبيقاتها الذكية وأهمية الاستفادة منها فـي تطوير أنماط الحياة ودعم الاقتصاد الوطني.

عائشة الدرمكية باحثة متخصصة فـي مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة