تصيبني كلمة «العودة» بالحيرة في المعنى، فمن أجل أن يعود الإنسان لا بد له أن يجيب عمليًّا على سؤالين على الأقل: إلى أين؟ وكيف؟ لأنه من دون وضوحٍ للوجهة والسبيل لا يغدو حلم العودة إلا غيبوبة مطلقة في التاريخ والجغرافيا، هاجس يشرّد صاحبه ويحرمه من الاطمئنان لأي مستقر سيجد نفسه فيه، طوعًا أو قسرًا، ومعه وفي خضمه يعلّق حياته كلها في ظرفٍ مؤقت الزمان والمكان.

مثل كثيرين غيري فإن كلمة «العودة» ظلَّت في ذاكرتي كلمةً فلسطينية بامتياز، ذات نسبٍ فلسطيني واضح. كيف لا وهي التي كانت من أوائل الكلمات المتناسلة من كلمة «النكبة» في المعجم الفلسطيني؟! لا تغيب هذه الكلمة المُحيِّرة والحائرة (العودة) عن اللغة الفلسطينية في كل مراياها. وحتى حين تتوارى لفظًا فإنها تحضر معنىً وهاجسًا في أي كلام يدور عن فلسطين والفلسطينيين. وبذا أستطيع الجزم بإنها واحدة من بين أبرز الكلمات القليلة المؤسِّسة للأدب الفلسطيني بعد عام 1948. وقد صار معناها منذ ذلك التاريخ شديد الالتصاق بالهوية الفلسطينية؛ كما هو الحال مع كلمات أخرى مثل: المنفى واللاجئ والمخيم.. إلخ.

فكرة العودة في جوهرها هي تعبير عن إصرار الفلسطيني على التشبث بجمرة الهوية. والإيمان الفردي والجمعي بها يمثل أسلوبًا من أساليب صيانة الهوية المطرودة من عنصر تكوينها الأول، وهو الأرض التي بسقوطها من تحت الأقدام أصبح الإنسان الفلسطيني في أي مكان من الكوكب مضطربًا وقلِقًا، حالة من المنفى الأبدي التي يصفها إدوارد سعيد بكلمات أدق في كتابه «بعد السماء السابعة» إذ يحكي عن نفسه بصوت الجماعة: «لقد تبخر من حياتي وحياة الفلسطينيين جميعا ثبات الجغرافيا وامتداد الأرض. وحتى لو لم يَقم أحدهم بإيقافنا على الحدود أو سوقنا إلى مخيمات جديدة أو منعنا من الدخول أو الإقامة أو السفر من مكان إلى آخر، فإن أراضينا يجري احتلالها، ويتدخل الآخرون في حياة كل منا بصورة اعتباطية وتمنع أصواتنا من الوصول إلى بعضنا بعضا. إن هويتنا تُقيد وتحبس وتحاصر في جزر صغيرة خائفة ضمن محيط غير مضياف تحكمه قوة عسكرية عليا تستخدم رطانة إدارة حكومية تؤمن بالطهارة (العرقيّة) الخالصة».

غير أن العودة التي يُلح عليها الفلسطينيون، خاصة ممن هم في الشتات، حتى وإن كانوا غير مستعدين لها عمليًّا، ليست مجرد نداء شعري أو أسطورة اجتماعية/ جماعية كما أراد لها منذ البداية الإسرائيليون بالتعاون مع القوى الاستعمارية التي شاركت في صناعة النكبة المستمرة. بنزع الصفة السياسية عن اللاجئين الفلسطينيين وباعتبارهم ذواتًا «غير سياسية» ربما تستحق العيش لكنها لا تستحق أكثر من العيش، عملت سياسات القوة والتهجير والحرمان الاستعمارية على تحويل حق العودة إلى أسطورة، في انقلاب ساخر للخرافة على التاريخ؛ بحيث تتحول الأسطورة التوراتية عن عودة الشعب اليهودي «إلى أرض الميعاد» حقيقةً مادية وسياسية قاهرة، تزامنًا مع تحول الحقيقية المادية والسياسية لوجود الشعب الفلسطيني على أرضه إلى محض أسطورة للحنين الشعبي وحكاية من حكايات الجدات للأحفاد، لا أكثر. أي باختصار أن تتحول 8 عقود من النكبة المستمرة إلى «تراث» أو ثقافة فلكلورية.

مع انطلاق الحركة الوطنية الفلسطينية في ستينيات القرن المنصرم وتبلور خطابها السياسي الخاص والمستقل عن الخطابات العربية، سعت مختلف التيارات السياسية التي قادت نضال الشعب الفلسطيني، منذ تلك المرحلة إلى اليوم، إلى تطوير كلمة «العودة» وصقلها إلى حد اعتبار الإيمان السياسي والأخلاقي بها شرطًا من شروط الهوية الفلسطينية المعقدة ومعيارًا وطنيًّا كان حاسما في إفشال اتفاقيات أوسلو وكامب ديفيد فيما بعد. ولعل من أبرز المنجزات السياسية لنضالات تلك المرحلة كان الإصرار على تثبيت المعنى السياسي لهذه الكلمة «الشعرية»، مجددًا بصرف النظر عن الفشل الفادح في التوصل إلى نظرية عملية وواقعية لإخراج هذه الكلمة من حقل التنظير إلى مجال التطبيق والفعل السياسي.

في كتاب مؤلف من دراسات لعدة باحثين، بعنوان «عبور الحدود وتبدل الحواجز: سوسيولوجيا العودة الفلسطينية» صادر عام 2008 عن مركز دراسات الوحدة العربية، يقول ساري حنفي، أستاذ علم الاجتماع بجامعة بيروت: «لقد أظهرت أبحاثي الميدانية أن لدى اللاجئين الفلسطينيين شعورا بالحنين إلى أرض فلسطين أقوى كثيرًا من الحنين إلى شعب فلسطين. ففي المقابلات، أصر بعض اللاجئين على التحدث عن الُملكية، الأرض، البحر الأبيض المتوسط، المسجد الأقصى، أو كنيسة دير برعم، وتفادوا التفكير في كيف سيعيشون ومع من. ولست أقترح هنا استحالة التعايش بين العائدين المحتملين من الفلسطينيين وجيرانهم اليهود، لكن ضرورة التفكير في العودة ليست فقط في تعبيراتها الجغرافية، لكن أيضًا في تعبيراتها المجتمعية». هذا التحليل يجر معه سؤالا/ أسئلة قد تتحاشى أجيال من اللاجئين الفلسطينيين بحثها حتى بينهم وأنفسهم عن مدى استعدادهم نفسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا للعودة فعليًّا إلى أرض فلسطين في حال انفرج واقع الصراع على الأرض في أي مستقبل قادم على نحو يسمح بالقليل من العودة إلى ما تبقى من تراب الوطن السليب، مع أن واقع القضية الفلسطينية ينحدر إلى مسار أكثر مأساوية من إمكانية هذا السؤال الافتراضي. إنها العودة التي يصفها ساري حنفي بـ «هجرة العودة» في إشارة إلى أنها ليست عودة طبيعية إلى ما كان، كما يحب اللاجئ أن يتخيل، بل هي هجرة جديدة إلى حالة جديدة، إلى مكان جديد نسبيًّا حتى على توقعات المخيلة، وهذا بالفعل ما عاشه عدد من الفلسطينيين الذين جربوا معنى العودة والتباساتها إلى «ما تبقى من البلاد» حين دخلوا إلى الوطن من البوابة الخلفية إثر توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993.

سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني