وثقت سجلات القائد البحري البرتغالي أفونسو دلبو كيرك (1453 - 1515م)، حربه الإبادية والدمارية على مدن الساحل العماني، منذ وصوله «قلهات» ومروره على «قريات» و«مسقط»، وحتى بلوغه «صحار»، خلال العامين المتتالين: (1507 و1508م)، وما فعله جنده بالناس، وهدمه للقرى وحرقه للمساجد، التي بلغت في أوصافها ذروة الفخامة، فلم يبق في هذه القرى حياة، خاصة تلك التي لم تخضع له، ولم يترك مسجدًا ولا ميناءً إلا أحرقه، وحوَّل البيوت إلى رماد، وكأنما زلزال مدمر طحن هذه المدن، أو عاصفة هوجاء أطاحت بهذه القرى البحرية الآمنة قبل مجيئه، وظهر في مذكراته متفاخِرًا بفعلته الوحشية.

كتب السجلات ابن البوكيرك غير الشرعي، ويدعى؛ «براز دلبو كيرك» (ت: 1580م)، جمعها من مراسلات أبيه مع ملك البرتغال «دوم مانويل» الذي حكم بين عامي (1495- 1521م)، صدرت عن هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، دار الكتب الوطنية، بترجمة د. عبدالرحمن عبدالله الشيخ، سجلات تفوح منها رائحة الدِّماء، وأدخنة النيران تصاعدت إلى عنان السماء، بينما الصراخ والعويل بلغ حد الهول، جَرَّاء الإجرام الذي أوقعته حملة البوكيرك، لكل من طالتهم أيادي جنده وبطْشِه بهم، فقد ارتكب أعمالًا وحشية يصعب تصوُّرها، مثل جدع الأنوف، وقطع الأذان، والقتل بضراوة مقيتة، والحرق بنيران حامية، مقابل ذلك قدمت السجلات صورة رائعة لتلك المساجد التي أحرقها، وسردت وصفا دقيقًا لفخامتها، وشَكْل صحونها من الداخل والخارج، ولولا هذه السجلات لضاعت أوصافها بعد حرقها وهدمها، ولم يعد لها أي ذكر.

في هذه المقالة أنقل بعض ما دونته سجلات البوكيرك، وما كتبه الرَّحالة العرب، عن هذه المساجد التي هدمها الاحتلال البرتغالي، في مدن الساحل الشرقي العماني، وهي «مسجد قلهات»، و«مسجد قريات»، و«مسجد مسقط»، لعل هيئتها ترتسم في الأذهان، قبل أن تهدمها مدافع الاحتلال، ونتصور اهتمام العمانيين بالجماليات الهندسية في المباني الدينية.

1 - مسجد قلهات: إلى فترة قريبة، كان الباحثون في حيرة، لعدم معرفتهم بموقع المسجد، حتى تم الكشف عنه بمحاذاة الساحل، بطريقة التصوير الجوي والرَّسم من قبل البعثة الفرنسية، خلال فترة التنقيبات الأثرية للمدينة التي بدأت منذ عام 2003م، وقد ورد ذكره في سجلات البوكيرك، ووردت له إشارة في كتاب الرَّحالة المغربي ابن بطوطة (ت: 780هـ/ 1378م)، الذي زار مدينة قلهات ودخل المسجد، وقدَّم صورة وصفية رائعة عنه.

وبحسب اللوائح الإرشادية المرفقة مع الزخارف المعروضة في «المتحف الوطني» بمسقط، فإن «جامع قلهات»، هو الصَّرح المعماري الأكثر شهرة في المدينة، بُني المسجد الجامع في عام (699هـ/ 1300م)، من قبل زوجة بهاء الدين عياز، ملك «مملكة هرمز» وحاكم «قلهات»، وتُعْرَف باسم: «بيبي مريم»، ومعنى كلمة «بيبي» المرأة الحُرَّة، وبعد اكتمال بناء المسجد بنحو ثلاثين عامًا، زار ابن بطوطة مدينة «قلهات» عام (790هـ/ 1328م)، في ذروة مجد المدينة وزهوها العمراني، ولهذا وصفها في كتابه «تحفة النظَّار» بقوله: (ومدينة قلهات على الساحل، وهي حسنة الأسواق)، فالأسواق تلفت نظر الزائر، لكنه لم يفصِّل أكثر عما كانت تعرضه تلك الأسواق من مبيعات، وهناك إشارة أخرى من الأهمية بمكان، وهي وصفه لمسجد «قلهات» بقوله: (وبها مسجد من أحسن المساجد، حيطانه بالقاشاني، وهو شبه «الزلِّيج»، وهو مرتفع، يُنظَر منه إلى البحر والمرسى)، الوصف يؤكد أنه مسجد فخم، جدرانه مزخرفة برخام «القاشاني»، أو «القاشي»، نسبة إلى مدنية «كاشان» بإيران، المشهورة بصناعة الخزف، أما الموقع فيطل على البحر، ما أروع هذا الموقع لجامع فخم تنعكس ظلال مأذنته في البحر، وكأنها فنار.

وإن رأى القارئ أنَّ في انطباعات «ابن بطوطة» مبالغة، تُسيِّرُها نسائم العاطفة نحو اشتياق المكان، فإن سجلات البوكيرك قدمت وصفًا أكثر تفصيلًا، وهي آخر صورة يمكن أن نتصورها لمسجد قلهات، قبل أن يتداعى سقفه، وتنهار أركانه تحت نيران المدافع، ومحارق النار التي اشتعلت فيه، ذات صيف ساخن من شهر أغسطس 1508م، (.. كما أمر بإشعال النار في المسجد الذي يُجلُّه المسلمون كثيرًا، لأنه كان مبنى كبيرًا جدًا، به سبعة أروقة، كلها تحفُّها ألواح مربعة، وقد ثُبِّتَت على جدرانه كثيرٌ من أشغال الخزف، وعند مدخل بوابته رُواقٌ كبير مُقَنْطر - سقفه على شكل قوس - وفوقه شرفة تطل على البحر، كلها مغطاة بالألواح المُربَّعة، وبوابات المسجد وسقفه كلها مشيدة بطريقة متقنة، وعندما أشعل فيه البرتغاليون النار، لم يتركوه إلا رَمادًا، فلم يبق منه شيء إلا احترق)، ولكن بقيت أركانه المُجَصَّصَة مندفنة تحت التراب، وبقيت قطع كثيرة من «بلاط القاشاني» الأخضر، الذي ذكره ابن بطوطه، رأيت منها جذاذًا متناثرًا بجانب المحراب، وبعد الكشف عنه من قبل البعثة الفرنسية، ظهرت تلك الأروقة السَّبعة، وظهرت المئذنة، والصَّرح الداخلي، والمحراب، والإطلالة الرائعة للمسجد على صفحة البحر الزَّرقاء.

2 – مسجد قريات: تقع مدينة «قريات» على الساحل الشرقي العماني، بين «قلهات» و«مسقط»، ولعل أهلها شعروا بالخطر القادم إليهم، فسفن البوكيرك الضخمة تلوح كالجبال، وتعوم كالحيتان الضخمة، وتطفوا في لجج البحر، ويبدو أن تحصين المدينة بالحواجز الخشبية، واحدة من أساليب دفاع الأهالي عن مدينتهم، التي لم تستسلم للاحتلال، وبالتالي لم تسْلَم من بطشه، إذ أمر البوكيرك بحرق المدينة بالنيران، تقول السجلات: (لقد كانت النيران عنيفة، لم تترك منزلاً ولا مبنى إلا أتت عليه، وأتت أيضًا على المسجد، الذي كان واحدًا من أجمل المساجد التي رأيناها على الإطلاق)، يا لهول الطغيان على الإنسان والبنيان.

3 – مسجد مسقط: لم تسْلَم مدينة مسقط من زلزال البوكيرك المُدمِّر، وبحسب السجلات: (أمر أفونسو دلبو كيرك ثلاثة من حاملي البنادق، بأن يقطعوا بالفؤوس دعامات المسجد، وكان مسجدًا واسعًا، جميل البناء، مشيدًا في غالبه بالأخشاب، التي نُحِتَتْ نحتًا متقنًا جميلًا، وبه أعمال تجصيص في جزئه العلوي، فلما قطعت الدعامات انهار البناء، وأشعلوا النيران فيما تبقى من المسجد، حتى أتت عليه كله، ولم تترك شيئا)! أما مدينة مسقط، فهي كما وصفتها السجلات: (مدينة كبيرة آهلة بالسكان، تحفُّها من جانبها الآخر - غير المواجه للبحر - جبال شاهقة، أما واجهتها فقريبة جدًا من حافة الماء، وخلف هذه الحافة ناحية الداخل، يوجد سهل في سعة ساحة لشبونة، وثمة حقول وحدائق، وبساتين نخيل تُرْوَى من برك ماء، ومرفأ المدينة صغير على شكل حدوة حصان، وهو محميٌ من كل الرياح، ومسقط بها سوق قديم للخيول والتمور، إنها مدينة أنيقة جدًا ومساكنها رائعة)، ومع هذا الوصف الرائع لمدينة مسقط، ببيوتها وسوقها ومسجدها الفخم، لكنه لم يُبقِ فيها شيئًا إلا وأحرقه، حتى من أسَرَهم من الناس، لم يُطلِق سراحهم، إلا بعد جَدْع أنوفهم وقطع آذانهم.

4 - في مدينة «صحار»، مسجد آخر لم يرد له ذكر في سجلات البوكيرك، عدى وصفه لإطلالة المدينة على البحر، وقلعتها التي رفعت علم البرتغال، وخضوع واليها لحاكم البرتغال، يقول في وصفها: (المدينة رائعة الجمال، ومساكنها ذات بهاء، وبها حصن مربَّع تحيط به ستة أبراج، وفوق بوابتيه برجان هائلان، وسوره مرتفع ارتفاعًا مناسبًا وعريض نسبيًا، ويواجه الساحل قريبًا منه مطلًا على خور كبير، وقاع المرفأ صخري جدًا، والحصن كبير جدًا حتى إنه ليحتاج لأكثر من ألف مقاتل للدفاع عنه. وموقعه ملائم تمامًا، ويكاد ماء البحر يصل إلى السُّور).

فهل فات كاتب سجلات البوكيرك وصف المسجد أم كان بعيدًا عن مبتغاه بعد استسلام المدينة؟، غير أنَّا نقرأ وصفًا بديعًا للرَّحالة والجغرافي المقدسي (ت: 380هـ/ 990م)، ضمَّنه كتابه الشهير «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم»، زار المقدسي صحار قبل احتلال البوكيرك بستة قرون، ودَبَّج في المسجد وصفًا رائعًا، يقول: (والجامع على البحر، له منارة حسنة طويلة في آخر الأسواق، قد بني أحسن بناء، وهواؤه أطيب هواء من القصبة، ومحراب الجامع بلولوب يدور، تراه مرَّة أصفر، وكرَّة أخضر، وحينًا أحمر)، وَصْف المحراب الجامع يوحي أنه مزخرف بمعدن النُّحاس، وهذا الرأي يتناسب مع شهرة صحار القديمة بصهر وصناعة النحاس.