روى لنا المسرح الكثير من الأحداث التاريخية، التي قُدّمتْ، على خشبته، بهدف صيانة الذاكرة الجماعية، والحفاظ عليها من التلف والنسيان، مع اللجوء إلى إسقاط تلك الأحداث على الحاضر، فقام ببناء جسر بين الأمس واليوم، لنستلهم من أحداث الماضي ما يدفع عجلة الحاضر إلى الأمام.

ومراعاة لجانب الفرجة، لم تُعرض تلك الأحداث على المسرح بشكلها التقليدي، الذي قرأناه فـي الكتب المدرسية، بل دخل فـي مصهر الفن، فتمّ صهر المادة التاريخية، وأعيد إنتاجها بشكل مؤثّر وجاذب من خلال إدخال عنصر الخيال للربط بين الأحداث، واعتماد الأداء الغنائي والموسيقي والجسدي، والحوار المكتوب بلغة شعرية، واستخدام أحدث التقنيات الفنية والمؤثرات الصوتية والبصرية لإثراء عنصر الإبهار، وتقديم رؤية جديدة، للحدث التاريخي بشكل يشدّ الأسماع والأبصار.

وهذا ما أحسست به وأنا أتابع العمل الملحمي الوطني الذي حمل عنوان (روح الجزائر)، قُدّم ضمن احتفالات الجزائر بالذكرى السبعين لاندلاع ثورتها التحرّرية، وصف بأنه أضخم عمل فني ينجز فـي الجزائر حول الثورة التحررية الجزائرية التي انطلقت فـي الأول من نوفمبر ١٩٥٤، لذا لم تستوعبه قاعة مسرح، فجرى عرضه فـي قاعة رياضية، هي القاعة البيضاوية التابعة للمركب الأولمبي محمد بوضياف، بالعاصمة الجزائرية، والعرض من إخراج الفنان الجزائري أحمد رزّاق، واشترك فـي كتابة نصوصه وحواراته مجموعة من الشعراء من بينهم إبراهيم صدّيقي وعبدالرحمن بوزربه والبار البار، وآخرون، فكان نتاج ورشة بإشراف الشاعر إبراهيم صدّيقي .. وشارك فـي الأداء أكثر من 1000 مشارك من تقنيين وإداريين، وممثلين جزائريين وعرب، من بينهم ممثّل عماني هو الفنان زياد الحضرمي، إلى جانب فنّانين عرب فـي مقدّمتهم الفنان الكبير علي أحمد سالم من ليبيا الذي أدّى دور بلال فـي فـيلم الرسالة، والأردنية عبير عيسى، والتونسية دليلة مفتاحي، والعراقي د. عامر حامد محمد، والفلسطيني حسين نخلة، والموريتاني محمد عزيز سالم، والسورية سلوى حنا، والمصرية د.صفاء البيلي والفلسطيني حسين نخلة، واللبنانية لارا حتي، إلى جانب فنانين من الجزائر فـي مقدمتهم ادريس بن شرنين

وعلى مدى ساعتين جرى استعراض أربع مراحل من تاريخ الجزائر عبر 13 لوحة، بدأت بالعهد النوميدي (202 ق.م-46 ق.م) المملكة الأمازيغية القديمة التي تضم اليوم الجزائر وأجزاء من تونس وليبيا والمغرب والغزو الونداليّ الوحشيّ الذي تعرّضت له، ومقاومة النوميديين الأمازيغ، واندلاع المعركة الكبرى، التي انتهت بإحراز النّصر فـي العام 483م، والمرحلة الثانية التي تطرّقت إليها الملحمة الفتح الإسلامي، الذي فتح المجال واسعا لانتشار مظاهر الازدهار والعمارة والتجارة؛ وحين شكّلت قوّة لها سيادة على البحر الأبيض المتوسط، ظهرت أطماع الأوربيين من ورثة الرومان والوندال والبيزنطيين، وفـي سبيل حمايتها من تلك الأطماع تم عقد حلف مع العثمانيين استمر لقرون، حتى تحطّم الأسطول العثمانيّ فـي معركة نافارين الشهيرة، ليبدأ الاحتلال الفرنسي بعد حادثة المروحة حين لطم حاكم الجزائر الداي حسين الذي تولى حكم الجزائر سنة 1818 م قنصل فرنسا بالمروحة، بعد أن طالبه بتسديد الديون المستحقة للجزائر على فرنسا فردّ عليه ردّا غير لائق، فطرده، فرفض الخروج، فلوح له بالمروحة، وقيل أنه ضربه بها، فكانت سببا للغزو الفرنسيّ، وما رافق الغزو من تعسّف ووحشية، وظهور المقاومات الشعبية فـي المناطق تمهيدا لميلاد الحركة الوطنية، وتبلور فكرة الاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية، مع التركيز على الثورة الجزائرية والالتفاف الشعبي حولها، هذه الثورة التي ألهمت الثوّار فـي العالم، كما أظهر العرض، ومن بينهم تشي جيفارا ونيلسون مانديلا وعرفات وغيرهم.

وبلغ العرض ذروته فـي مشهد إعدام الشهيد أحمد زبانة بواسطة المقصلة فـي سجن بربروس وكان أول من واجه عقوبة الإعدام بهذه الوسيلة فـي 19 يونيو 1956 م، وقد ركّز المخرج أحمد رزاق على هذا المشهد، ووظّف فـيه جميع أدواته، وحرّك المجاميع التي ملأت المسرح، بشكل متقن، جعل الإيقاع يعلو بشكل متصاعد، وهكذا نجح فـي تقديم عرض ملحمي مبهر، استخدم به تقنية (المابينغ) الثلاثية الأبعاد وقام بتوظيف مقاطع الفـيديو، والصور الفوتوغرافـية، والمشاهد الضوئية، فرسم أشكالا بصرية على الجدران، وارتفعت الأصوات عاليا فـي مشاهد المعارك بمرافقة المؤثرات الصوتية، فتجسّدت أمام الجمهور مشاهد ملء السمع والبصر، فضلا عن إدارة المعارك على المسرح بخفّة ورشاقة، أظهرت مهارات عالية للمؤدين فـي فنون القتال، وخصوصا فـي مشاهد تسلّق الجدران العالية، والقفز من الأماكن المرتفعة، بشكل جعل الجمهور الذي احتشد يحبس أنفاسه، ومن جانب آخر أعطاه جرعة من المتعة والحماس فـي المشاهد التي قدّم بها أداء تعبيريا بمصاحبة الموسيقى والغناء بالفصحى والدارجة المحلية فتابع العرض حتى النهاية.