قبل عقود كانت التقارير والتحقيقات الصحفـية التي تفضح الاحتلال، أي احتلال كان، لها تأثيرها العميق حيث كانت تحرج الاحتلال أمام نفسه وأمام المجتمع الدولي وتجعله مضطرا لمراجعة خططه القتالية وضبط سلوك جنوده على أقل تقدير.. حدث ذلك بشكل واضح عندما فضحت صحف أمريكية الجيش الأمريكي الذي ارتكب مذبحة ماي لاي فـي فـيتنام، وحدث عندما كشف صحف أمريكية فضيحة سجن أبوغريب فـي العراق.. إلخ. ورغم أن الكثير من القنوات والصحف العالمية تفضح جرائم الاحتلال الإسرائيلي فـي قطاع غزة بشكل يومي، وفـي الكثير من الأحيان، على الهواء مباشرة إلا أن الاحتلال لا يزداد إلا إجراما وعنفا، ومع مرور الوقت تتضاعف وحشيته ويتفنن فـي مجازره اليومية فـي قطاع غزة.

لا يمكن للبشرية إن بقيت محتفظة بشيء من إنسانيتها أن تتصور بعد سنوات من هذه الحرب كيف سمحت لجيش الاحتلال الإسرائيلي أن يرتكب كل هذه المجازر؛ أن يبيد المدنيين، ويحرقهم فـي خيامهم التي أجبرهم على النزوح إليها أو أن يحكم بالموت جوعا على سكان شمال القطاع، وأن يحرقهم فـي مستشفـياتهم على مرأى من العالم الذي يتفرج على المشاهد أمام شاشات التلفزيون. لا يمكن للأجيال القادمة أن تتصور كيف صمت العالم حتى الآن على جرائم الاحتلال ضد الأطفال الخدج فـي مستشفـيات القطاع، كيف قطع عنهم الأجهزة التي كانوا يعيشون عليها وأجبر طواقم المستشفـيات على المغادرة، وكيف حكم على آلاف الأسر التي كانت تقيم فـي ساحات المستشفـيات الخارجية بالموت ثم قام بدفنهم، بعضهم حيا، باستخدام جرافات سحلتهم ثم ساوتهم بالتراب. هذه المشاهد لا يمكن تصورها اليوم فكيف للأجيال القادمة أن تتصورها، وكيف لها أن تنساها؟!!

تتحدث كل منظمات «المجتمع الدولي» الآن عن حجم الجرائم فـي شمال القطاع وكيف تنتشر رائحة الموت بعد أن تحول الدفن إلى مقابر جماعية، وكيف أصبحت جثامين الشهداء تطوى فـي أكياس بلاستيكية بعد أن انتهت الأكفان!

أكملت إسرائيل المحتلة الآن أكثر من شهرين منذ أن بدأت حملتها الجديدة على شمال القطاع وبشكل خاص على بيت لاهيا، وتسببت فـي استشهاد المئات أغلبهم من الأطفال والنساء. وما زالت التقارير الصحفـية تتحدث عن أكثر من مائة ألف شخص ما زالوا فـي جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون، وهذا العدد يعادل نصف العدد الذي كان موجودا قبل بدء الحرب فـي أكتوبر من العام الماضي.. نزح الكثيرون إلى الجنوب فـيما استشهد الآلاف وماتوا جوعا وحرقوا فـي المستشفـيات وآلاف منهم ما زالوا تحت الركام.

وصفت الأمم المتحدة الوضع فـي شمال قطاع غزة بأنه «كارثي» ولكنّ الجميع يعرف أنه كارثي ولكنها لم تستطع أن تقدم أي شيء للتخفـيف من هذه الكارثية ولو حتى غذاء يحمي الناس من الموت جوعا أو دواء يخفف حجم الألم الجسدي الذي يعيشه المرضى إذا ما تجاوزنا الحديث عن الألم النفسي الذي لا أحد يتحدث عنه خلال الحروب.

والغريب فـي الأمر أن العالم فـي كل خطاباته ما زال يتحدث عن السلام وعن فرصه المنتظرة.. ولا يمكن أن يُفهم هذا السلام فـي لحظة تنتهك فـيها حقوق الإنسان الأساسية ويجوع ويشرد ويطارد ويحرق أطفاله أمامه ولا يجد حتى قطعة قماش يكفنهم بها قبل أن يهيل عليهم بعض تراب الوطن ولو كان محتلا.

على العالم أن يراجع نفسه الآن؛ فخزي التاريخ أبدي لا ينسى بالتقادم.. وعار البشرية التي تتآمر على غزة وأطفالها لا ينتهي أبدا.

فـي ظل هذه الأحداث المأساوية، يبقى السؤال الأهم حول كيفـية تحقيق السلام والاستقرار فـي المنطقة، وضمان حقوق الإنسان والحياة الكريمة لجميع سكان غزة الذين يعانون من واقع يومي من الألم والخوف.