إذا تأملنا الشركات الابتكارية العملاقة سنجد بأن محور الاستدامة هو الأبرز لديها، وتتراوح درجات الاستدامة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية بحسب مجالات الابتكار، ففي الابتكارات التكنولوجية ينصب التركيز على الجوانب الاقتصادية والبيئية، وتركز الابتكارات الاجتماعية على البعد الإنساني والمجتمعي، ولكن قلَّما أن يحدث وتجتمع كل هذه الأبعاد في ابتكار واحد، ليس هذا فحسب، بل إن العديد من شركات الابتكار الناشئة لا تنظر إلى الاستدامة باهتمام كاف رغم أن جائحة كوفيد -19 قد برهنت بأن البشرية على أعتاب عالم تتفاقم فيه التحديات الصحية والاجتماعية والبيئية، فهل حان الوقت لترسيخ الاستدامة البيئية والاجتماعية بعقلية اقتصادية أكثر ملاءمة لواقع القرن الحادي والعشرين؟ ولعل البداية تكمن في حقيقة أن النظريات الاقتصادية في القرن الماضي، والفكر السائد عن اكتساب القيمة من الاستثمار في الابتكار لم يتطرق للاستدامة كمنطلق أساس لحل التحديات عن طريق المعرفة، وهذا ما أنتج المسار التقليدي للنمو الاقتصادي الذي يتمحور حول تحقيق عوائد الاستثمار، وانعكس هذا التفكير على الخطط الاستراتيجية والسياسات ونماذج الأعمال وموضوعات البحث والتطوير، مما دفع بالمفكرين والأكاديميين ولممارسين إلى البحث عن أطروحات تتناسب مع متغيرات العصر، ومن أبرزها وأحدثها أطروحة «اقتصاد الدونات» الذي سُمي على صورة «الكعكة الدائرية»، وقد قدمتها للمجتمع العلمي الخبيرة الاقتصادية، وزميلة معهد الاستدامة البيئية بجامعة أكسفورد؛ البروفيسورة كيت راورث التي طورت هذا المفهوم، وأسست كذلك مختبر عمل اقتصاد الدونات في عام 2012، ويقوم اقتصاد الكعكة الدائرية على فكرة أن التنمية يجب أن تسعى لتعزيز تكامل الأبعاد الاجتماعية والبيئية مع البعد الاقتصادي، وقد استقطب مفهوم اقتصاد الدونات في بداية ظهوره انتباه منظمات الأمم المتحدة، والناشطين البيئيين، وقادة الأعمال، ولكنه اكتسب أهمية كبيرة بعد جائحة كورونا، وفي ربيع هذا العام 2024م، استضافت قمة الاستدامة التي نظمها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا البروفيسورة راورث كمتحدثة رئيسية لشرح نموذجها، وتوضيح آليات الاستفادة من هذا الفكر الجديد الذي يتألف من حلقتين متحدة المركز تشكلان ما يشبه الدونات، حيث تمثل الحلقة الداخلية الأساس الاجتماعي للتنمية، في حين تمثل الحلقة الخارجية السقف البيئي لاستدامة النظم البيئية والتي يجب عدم تجاوزها، والفضاء بين هاتين الحلقتين هو النقطة المثالية لمجتمع متزن بيئيًا وصحيًا وآمن من الكوارث الطبيعية والأوبئة، ومستقر اجتماعيًا، وبقيادة اقتصاد متجدد، وتكمن المساهمة الحقيقية لهذه الأطروحة في أن إنشاء النقطة المثالية لهذا النموذج هو في الأصل دور شركات الابتكار ذات التفكير المستقبلي المسؤول، والتي ترتبط ابتكاراتها بالموضوعات الراهنة مثل التكنولوجيا الخضراء، والطاقة المتجددة، وتوظيف التقنيات الرقمية المتقدمة للثورة الصناعية الرابعة والذكاء الاصطناعي. ومن باب: «الشيء بالشيء يُذكر» فإن فكر الاستدامة في أطروحة الاقتصاد الدائري لا يختلف عن اقتصاد الدونات، ولكن الأخير ينظر إلى جميع الأبعاد الثلاثة للاستدامة بشكل أكثر تفصيلًا، وبمنهجية توزيعية بحيث لا يطغى الاهتمام على مجال دون آخر، وكذلك منحت هذه الأطروحة دورًا كبيرًا وبارزًا لشركات الابتكار التكنولوجي والاجتماعي في تحقيق التنمية، ورسمت معايير جديدة لما يمكن أن يطلق عليه «النجاح الاقتصادي» والذي يقوم على المعرفة والابتكار، إذ لا يمكن أن يعتبر النمو الاقتصادي الذي يقوم على التأثير السلبي على البيئة نجاحًا، فهو لا يعدو كونه ارتفاعًا في العائدات، والحقيقة أنه من الأولى والضروري أن يسعى المفكرون والأكاديميون إلى تقديم بوصلة جديدة لتوجيه التنمية الاقتصادية، ووضع مسارات ومعالجات جذرية لحالات اختلال التوازن بين أضلاع الاستدامة، وتحقيق الملاءمة بين أهم ركائز أطروحة اقتصاد الدونات وهي ضمان الأساس الاجتماعي الذي يجب تحقيقه من جهة، والالتزام بالسقف البيئي الذي يجب عدم تجاوزه. وهذا يقودنا إلى النقطة الأساسية وهي توظيف الابتكار للقيام بدوره في الوصول للسيناريو المثالي في أطروحة اقتصاد الدونات، وضمان حصول مؤسسات وشركات الابتكار على حصة في عملية صنع القرار في المستقبل، إذ يجب أولًا مراجعة واستقراء الفكر المعاصر في الاقتصاد والاستدامة، وتقييم الفجوة بين معطيات هذا الفكر ومتطلبات واقع ومستقبل الحياة والاقتصاد، ثم تأتي الخطوة الأساسية وهي إسقاط التحديات الاجتماعية والبيئية الحالية على إطار عمل اقتصاد الدونات للتأكد من قدرة هذا الإطار على معالجتها، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بكسر الحلقة المتصلة للفكر السائد عن أهمية اكتساب القيمة، ورفع العوائد كهدف أساسي للنمو في حد ذاته؛ لأن الأجدى هو السعي نحو إعادة تصميم عمليات إنتاج المعرفة والابتكار، وضخ التمويل والاستثمار، وتأسيس الأعمال التجارية القائمة على مخرجات الابتكار، وذلك للوصول إلى الغاية الكبرى وهي خلق اقتصادات متجددة بالابتكار، وتضمينية للأبعاد الاجتماعية والبيئية على حدٍ سواء. إن دور المعرفة في الاقتصاد يتنامى بوتيرة سريعة تسابق الفكر المعاصر للتنمية، مما يتطلب الإسراع في تغيير قواعد اللعبة، وإلهام جيل جديد من المفكرين الاقتصاديين الذين يمكنهم إعادة صياغة فهم التنمية الاقتصادية في سياق الاستدامة بجميع أبعادها، وإبراز وتفعيل أدوار غير تقليدية للمعرفة والابتكار، وهي غايات مستقبلية تستلزم العمل التشاركي بين جميع القطاعات المتعلقة بإنتاج المعرفة، واكتساب القيمة من توظيف مخرجاتها، وبذلك تبدأ سلسلة التكامل بالتركيز على أولويات بحثية وتطويرية موجهة نحو الاستدامة الكاملة، ثم إيصال مخرجات هذه الجهود إلى الجهات المستفيدة لضمات تقليل الهدر في إنتاج معارف وتقنيات غير مستغلة، ويرافق كل هذه الخطوات دراسات تحليلية واستقرائية لضمات الخروج بدروس مستفادة للتغذية الراجعة، والتي يمكنها تعزيز الباحثين والمبتكرين في تحديد النماذج الأكثر توافقًا مع الواقع المحلي، فليست كل الأطروحات المشهورة مناسبة لجميع المنظومات، ولا يستلزم النجاح استنساخ تجارب الآخرين وإن كانت ناجحة ومميزة، فالتنمية القائمة على المعرفة بحاجة إلى وضع نظريات جديدة، واقتراح سياسات محدثة، ودعم الابتكارات غير المسبوقة، وعدم التوقف عن التفكير التجديدي، فكما ظهرت أطروحة اقتصاد الدونات واستحوذت على الاهتمام بعد جائحة كورونا، في المقابل ستظهر نماذج أخرى أكثر تقدمًا، وعلى منظومات الابتكار التعلم المستمر من هذه المعارف، واختيار ما يتناسب مع متطلباتها، وتطوير فكر أصيل يمنحها الميزة التنافسية في العصر الرقمي، لأن عجلة الابتكار والتغيير لا تتوقف. |