ليس لك وأنت تقرأ ما تكتبه أميرة غنيم إلاّ أن تُعجَب بلغتها وحِيل تراكيبها وجمال ما تنحوه من أسلوبٍ، وما تُرشّحه من أشكال الحكاية ووسائط تعبيرها، ولقد أخذتني فـي روايتها الأولى صُدورا «نازلة دار الأكابر» بهذا وبما وزّعته من حكايا على شخصيّاتها فـي إثارتها لعوالم قابلة للسرد، تُبْنى فـيها حكاية واقعة أحداثها ووقائعها فـي بدايات القرن العشرين، تدخل عوالم مغلقَة من حكايا النساء والرجال، وتضع عمادًا سرديّا يشي بارتباط الرواية بقضايا النسويّة، وهو المصلح التونسي الطاهر الحداد صاحب الأوليّة فـي تأليف كتاب يدعو إلى تحرير المرأة وضرورة تعليمها. وبمناسبة فوز الكاتبة التونسية أميرة غنيم بجائزة الأدب العربي 2024، فقد أردتُ أن أعرض إلى تجربتها بإيجازٍ.

هذه الجائزة الفرنسيّة المخصّصة للأدب العربيّ المترجم إلى اللّغة الفرنسيّة، والتي تشترك فـي إنشائها مؤسسة جان لوك لاغاردير ومعهد العالم العربي، عن روايتها «نازلة دار الأكابر»، بعد أن تكفّلت بترجمتها عن العربية سعاد لبيز، منشورات فـيليب ري وبرزخ للنشر فـي أوت 2024، ولقد سبق أن فازت الروائيّة العُمانيّة جوخة الحارثي بهذه الجائزة فـي نسختها سنة 2021 عن ترجمة ممتازة لخالد عثمان. رواية «نازلة دار الأكابر»، الفائزة هذه السنة، هي روايةٌ أثبتت وجودها فـي خارطة الروايات ذات الصدارة فـي القراءة والتقدير. تُلامسُ الروايةُ عوالم تحتاجُ إلى حكايةٍ، عوالم المرأة فـي بدايات القرن العشرين، وما يدعو فعلا إلى الإشادة بقدرة الذات الراوية على التميّز، هو ما تختصّ به المرأة -حسب تصوّري البسيط للرؤية النسويّة فـي السرد الروائيّ- من قُدرة على سرد التفاصيل، المرأة الراوية فـي هذه الرواية لها عينٌ رائيّة قادرةٌ على التقاط وتصيُّد تفاصيل قد يغفلها السارد الرجل، المرأة الراوية لها قُدرة على التعبير على روائح الأشياء، على وصف دقائق أواني الطبخ، على تتبّع هندسة الدُور العربيّة القديمة ومختلف توزيع غُرفها، على اعتبار سرديّة المشاعر والأحاسيس، على إدراك طبيعة الحياة فـي بدايات القرن العشرين، وحكاية ما لا يقدر التاريخ على تثبيته وإقراره، حكاية ما عاشه الناس فـي خلواتهم، وما أدركوه من ألم ومن أمل، حكاية أحلام النساء وواقعهن فـي عالم ذكوريّ تسيطر عليه رغبات الرجال وأحكامهم، فـي هذه العوالم الكائنة القابلة للسرد، يظهر المصلح الطاهر الحدّاد شخصيّةً محبَّةً، تخرج من دائرة الدعوة إلى تعليم المرأة وإخراجها من سجن البيت الذي حُبست فـيه، ويؤصِّل ذلك فـي الشرع قبل المجتمع، إلى إحيائه شخصيَّة متفاعلة، باحثة عن الحياة فـي حبّ يربطها بذاتٍ تتحقّق بها.

أميرة غنيم صاحبة الأمرين، والوجهين، وجه البحث فـي علوم اللّسان، ووجه الإبداع فـي الحكاية -أفَضِّلُ دوما أن أستعمل القُدرة على الحكاية دون القدرة على الرواية، لأنّه بالنسبة إليَّ إمَّا أن تكون حكّاءً، وبذلك تمتلك القدرة على مختلف أجناس القصص، وإمَّا ألاَّ تكون، وبذلك فأنت الأعجز عن الفعل تماما- وفـي الغالب الأعمّ فإنّ الأكاديميين دمهم ثقيل على الرواية، وخاصّة منهم أهل اللّغة، غير أنّ لكل قاعدة استثناء يصنع قاعدة، فأميرة غنيم من طينة الحكّائين الذين عجزت تونس عن ولادتهم منذ زمن البشير خريف وعلي الدوعاجي، وها هي ترأب الصدع، وتتّصِل بأجدادها القصّاصين، وتصنع عوالمها التي يبدو أنّها -لحدّ الآن- تنحصر فـي الرواية التي تتفاعل مع التاريخ ومع قضايا النسويّة ومشاغل السياسة.

أقول هذا الكلام، لأنّ الكاتبة، كتبت -فـي ما اطّلعت عليه- ثلاث روايات أوّلها إبداعٌ وآخرها ابتداعٌ ووسطها وهنٌ ونزولٌ عن العلوّ السرديّ الذي كان فـي الرواية الأولى، فقد كتبت أميرة غنيم، «نازلة دار الأكابر»، بوفْرَةٍ من الحكايات، وبقُدرة على ضبْط خيطِ السرد، وباستطاعةٍ على تكوين الشخصيّات وبناء ملامحها ومشاعرها وتحديد علاقاتها، وبلغةٍ ملائمةٍ لطبيعة الفضاء المحكيّ، أمّا فـي رواية «الملفّ الأصفر»، فإنّ ارتباكًا بدا فـي تبئير الشخصيّة المركز، واختلالا ظهر فـي طبيعة العلاقات بنيةً وصلةً وقولاً، وهي أمورٌ كان يُمكن ألاّ تُشكّل عثرةً فـي مقروئيّة الرواية لولاَ أنّ القارئ الناقد كان يتوقّع من الرواية الثانية أن تكون فـي مستوى الأولى نفسه أو أنضج منها، غير أنّ الرواية الثالثة، «ترابها سخون»، استعادت هذه القدرة وهذه الاستطاعة، وكأنّ الروائيّة أعلق بالسرد التاريخي منها بالسرد النفسي، وكأنّ قُدرتها على تمثّل التاريخ وتحويله إلى حكايةٍ مُرغِّبة أقوى من قدرتها على الدخول فـي مجالات حكائيّة أخرى. إنّ فوز أميرة غنيم بجائزة فرنسيّة للرواية العربيّة المترجمة إلى الفرنسيّة، وترشّح رواية «نازلة دار الأكابر» قبل ذلك إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) لدليلٌ أوّل على أنّنا إزاء مشروع روائيّة واعدة، عالمة، عارفة، واعية بدقائق ما تدخل فـيه من بَسْطٍ للحكايات، وأعتقد أنَّ التاريخ سيكون المجال الأفضل الذي تجول فـيه الحكّاءةُ وتلقي بشباك حكاياها. المرأةُ الحكّاءةُ موروثٌ ثريٌّ فـي تراث العرب وفـي واقع الرواية العربيّة، ما زالت تُعاني من الرؤية الدونيّة الذكوريّة، وما زالت تثير قضايا المرأة المقهورة والمظلومة، ولكن أميرة غنيم اختارت فـي روايتها الجديدة «ترابها سخون» امرأة سلطة، لها صُورة فـي واقع المجتمع التونسي ملؤها الاستبداد والاستطاعة وإدارة الحكم، هي زوجة الرئيس التونسي التاريخي الحبيب بورقيبة الذي إليه تُرَدُّ نهضة البلاد، ولكن كانت أمامه امرأة صنعت معه هذا التاريخ، وانتهت مُطلَّقةً فـي آخر أيّام حكمه، بحكم محكمةٍ، وإرادة مشكوكٍ فـيها من رئيس بلغ «أرذل العمر» ورُفِع عنه القلم، حكاياتٌ تثيرها أميرة غنيم من عمق التاريخ المعاصر، وتتقن إخراجها من جفاف التأريخ إلى حيويّة الحكاية وألق تأثيرها وحسن تدبيرها