جريدة « ».. نشرت لي مشكورةً عدة مقالات تحدثتُ فـيها عن كَدم، عرّفت فـيها بهذه الحوزة العريقة وأنظمتها البديعة، التي نشأت حضاريا فـي الألفـية الثالثة قبل الميلاد، وبعض آثارها تعود إلى ما قبل ذلك، أرجو الاطلاع على ما كتبت عنها للوقوف على أهمية الحوزة حضاريا، ولربط ما يرد هنا بما أثبته هناك. وكَدم.. كما حددها أحد قاطنيها؛ الشيخ المفتي إبراهيم بن سعيد العبري (ت:1975م) هي حوزة (تقع شمالي بَهلا إلى سفح الجبل الأخضر، تجمع عدة قرى؛ منها: بلادسيت والحمراء والقرية والقلعة والعارض ودات خيل)، إضافة إلى غمر والمحمود.

حوزة كَدم.. مدينة مثالية لدراسة تطور الحضارة العمانية؛ بأنظمتها وعمرانها وأفلاجها عبر خمسة آلاف عام، وإذا كانت واحة بَهلا قد ضُمّت عام 1987م إلى قائمة التراث العالمي باليونسكو لمحافظتها على سورها المهيب وحصنها الشامخ وجامعها العتيق؛ فبالأحرى ضم كَدم إلى هذه القائمة، ففـيها من الآثار ما لا يقل عن شقيقتها الصغرى بَهلا.. بل وزيادة. ويشهد على علو كعبها «معبد ني صلت»، بآثاره الدالة على مناسكه وتَقْدُمات أضاحيه، وصخورها التي تحتفظ برسمات لحكامها ورموزها الدينية والأسطورية والاجتماعية، وكتاباتها المسندية والعربية، وأطلال قراها الحجرية.

مما تتميز به كَدم شبكة الأفلاج، ففـي ولاية الحمراء -الذي يشكّل منها الجزء الأكبر من كَدم- بحسب «الموسوعة العمانية» 38 فلجًا، منها 33 فلجًا حيا، وأفلاجها الجارية تروي بساتينها ذات النخيل الباسقة والأشجار المثمرة والحقول النضرة، فسكان هذه الولاية جبلتهم الحقب الغابرة على الزراعة. ومن أفلاجها الحية: فلج الحمراء، وفلج المسفاة، والحَمّام بالقلعة، وفلج القرية. بالإضافة إلى أفلاج بلادسيت وغمر والمحمود بولاية بَهلا.

المؤرخ البريطاني المعاصر جون ولكنسون.. يرجع إليه الفضل كونه أول من اهتم بدراسة الأفلاج العمانية، وقد درسها نظاما متكاملا؛ من حيث شبكتها المائية وحقلها الزراعي وبُنيتها الاجتماعية وموردها الاقتصادي ومنظومتها الفقهية وبُعدها التأريخي وعمقها الحضاري. وله فـي هذا النظام المعقد أكثر من دراسة، منها «الأفلاج ووسائل الري فـي عمان»، وتطرق إليه فـي كتابه «الإمامة فـي عمان». هذه الأسبقية لولكنسون -على أهميتها التي ينبغي أن تحضر فـي بحوث الأفلاج- لها جانب سلبي على دراسة نظام الفلج، من المهم تلافـيه علميا ورسميا، وهو أن ولكنسون يرى بأن نظام الفلج -وليست تقنيته فقط- جاء من فارس، وقد أجهد نفسه فـي تفسير التأثير الفارسي على البُنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية فـي عمان، وهو أمر أثبتت البحوث العلمية عدم صحته. وقد فندت هذا الرأي فـي أكثر من موضع؛ كتابةً وحديثا، لقد نسي ولكنسون بأن بعض الشعوب لديها أفلاج، فرضتها الحاجة للمياه، دون أن يَثْبُت التقليد بينها.

من خلال اطلاعي على العديد من دراسات الآثار العمانية، وتتبعنا لعاديات كَدم وكيد وبَهلا وما حولها، لم نجد ما يثبت تأثير الفرس على عمان، اللهم إلا وجودهم على ساحل الباطنة ما بين القرن الثالث الميلادي وظهور الإسلام؛ وهو تأريخ لا يزال بحاجة لبحث تحقيقي ودراسة ناقدة، وكذلك؛ التدخل العسكري فـي بعض الفترات الإسلامية. وأما ما وجد فـي الحضارة العمانية من تأثير متبادل فقد كان ما بين عمان والعراق من جهة، وما بين عمان واليمن من جهة أخرى، وفـي كَدم شواهد على ذلك.

أتى بعد ولكنسون بعض الباحثين -ومنهم آثاريون- فـي الشأن الحضاري العماني تأثر به، وبنى على رأيه بأن الأفلاج فـي عمان قامت بتأثير فارسي، واطّرح جانبا نتائج التنقيبات الآثارية التي وَجَدتْ بأن أقدم فلج فـي عمان يرجع إلى الألفـية الثالثة قبل الميلاد، وأن نظامه اكتمل فـي الألفـية الثانية قبل الميلاد، أي أن الفلج سبق التوسع الفارسي فـي المنطقة بأمد طويل.

لقد بدأ رأي ولكنسون غير المستند على الأثر العلمي والدليل الموضوعي يتغيّر فـي حقل الدراسات العمانية، ليس بسبب نتائج التنقيب فـي الآثار فحسب، وإنما كذلك لوجود كلمة «فلج palgu» منذ الألفـية الثالثة قبل الميلاد، بحسب البحوث التي قام بها عالم المسماريات العراقي نائل حنون، حيث عثر على نصوص آكادية بخط مسماري تذكر الفلج؛ لفظا ومعنى، تعود إلى النصف الأول من الألفـية الثانية قبل الميلاد، ونفى حنون أن يكون أصل الفلج فـي عمان فارسيا [الاستكشاف الأثري، ص605] لأجل ذلك؛ فإن حوزة كَدم موقع مثالي لدراسة الأفلاج العمانية وتطورها، منذ الألفـية الثالثة قبل الميلاد حتى اليوم.

إن وقوفنا على ما نقدّره بأنه المستوطنة الأقدم فـي كَدم؛ والتي تحتفظ بأطلال حجرية بين شعاب الجبال جهة الشرق من المحمود، نخالها ترجع إلى ما قبل الألفـية الرابعة قبل الميلاد، وشاهدنا عليها؛ عدم عثورنا على قطع فخارية فـي بواقي آثارها، وفـيها يوجد ما نقدره بأنه تقنية قديمة لتوجيه مسايل المياه بالسدود والإحالات الحجرية.

وبحسب تتبعي -مع الابن عبدالرحيم- شبكة الري فـي كَدم؛ يبدو أن أقدم أثر للفلج؛ هو «غيلي»، فقد أُنشئ سدان فـي أحد الشعاب أعلى منطقة الضبانية، وكانت بداية اكتشافنا لهما شتاء 2019م، عندما عثرنا فـي الطريق إلى الشعب على رسمة بصخرة تقرعها أقدام المارة، فسّرناها بأنها تتعلق بنظام مائي، وأن سدين قد يوجدان فـي الشعب. حينها؛ اكتشفنا سدا واحدا، وعندما رجعنا لاستكشاف الشعب بتاريخ 2 يونيو 2020م، بصحبة عالم الأفلاج عبدالله بن سيف الغافري من جامعة نزوى، عثرنا على السد الثاني. غيل السدين يغذي السهل الزراعي «للمنطقة الإدارية»، التي تقع فـي الجانب الجنوبي من حوزة كَدم، التي ربما تكون بها حينذاك مزارع لحكام هذه المملكة. ويبدو أن نظام الفلج تطور ليُشَق «فلج عِدّي» من جهة الشمال الغربي؛ من صوب قريتي غمر وبلادسيت الحاليتين، حيث يمر كذلك على «المنطقة الإدارية» بقرية المحمود، ويمرق من سور الحوزة متجها نحو سهل كيد، الذي شكّل واحة زراعية طيلة تأريخه حتى عهد قريب.

فـي «المنطقة الإدارية».. فلجان قادمان من جهة غمر وبلاد سيت يسيران متوازيين، أحدهما قديم؛ ربما يعود لما قبل الإسلام، والآخر أنشئ زمن اليعاربة ما بين سنتي 1034-1131هـ. ويبدو أنهم أحيوا فلجا قديما، حيث وجدنا آثار طبقتين لساقية الفلج، إحداهما قديمة جدا، بنيت فـيما يبدو أثناء القحط، لأن مستواها منخفض، أو أنها كانت ساقية لـ «فلج غيلي» يأتي من مجمّع الأودية المنحدرة من جبال الحمراء. أما الفلج الأحدث والذي رُكّب على ساقية الفلج القديم؛ فجدر ساقيته واسعة، مبنية بالحجارة والصاروج، وهو يرجع إلى زمن اليعاربة، وتقديرنا هذا مبني على رأي الدكتور الغافري. وقد عثرنا بجوار ساقية الفلج على محجر، نقدّر بأنه لتشذيب الحجارة المستعملة فـي ضفر الساقية، وأعلى الفلج على سفح الجبل وجدنا محجرا آخر يضرب بتقديرنا إلى حقب عتيقة جدا.

لقد تتبعنا شبكة الري فـي «المنطقة الإدارية»، ووثّقنا بالإحداثيات ما ظهر من جداول سواقيها، حيث وجدنا فـي الجهة الغربية التي تبدأ من الوادي السواقيَ تمر بين حارات ذهبت الأيام بأطلالها، وحولتها إلى أكداس ترابية مختلطة بالحصى الدقيق، وتحتفظ بقطع فخارية كثيرة، وتنتهي هذه الجهة عند قرية المحمود المتهدمة، لتبدأ بعدها الجهة الشرقية، حيث شبكة الري تسقي منطقة زراعية باقٍ ما يدل عليها.

أقدم شبكة مائية متطورة فـي كَدم تروي «المنطقة الإدارية»، وهي بتقديري مقر حكّام كَدم الأقدمين، وذلك؛ لأنه يوجد بها:

- صور بشرية.. حوالي عشر رسمات، بعضها بحجم الإنسان كاملا، وبعضها تمثّل نصفه الأعلى، وبعضها متوسطة، وقد رسمت بتقنية الألفـية الثالثة قبل الميلاد؛ حقبة «معبد ني صلت».

- أطلال شبكة المياه والحارات وكهوف التعبد، والرسمات الصخرية التي أعقبتها الكتابات الأبجدية.