بحلول نهاية العام القادم 2025، تشرع سلطنة عُمان في استشراف المرحلة التالية من رؤيتها المستقبلية «عُمان 2040»، من خلال الشروع في خطة تنموية جديدة (خطة التنمية الوطنية الحادية عشرة)، وانتهاء خطة تنموية وطنية قائمة (خطة التنمية الوطنية العاشرة)، وقد يكون الوقت مبكرًا للحديث عن التصورات والأجندة المتعلقة بالخطة القادمة؛ ذلك أن الأمر يقتضي جهدا في معرفة تقييم مسارات التنمية الوطنية في الخمسية الأولى من رؤية «عُمان 2040»، من حيث المكتسبات والتحديات، ومن حيث مستويات نجاعة العملية التخطيطية وعتباتها، ومن حيث مدى استثمار الظروف المواتية لإنجاح برامج وخطط التنمية المرسومة. ومن ناحية أخرى يقتضي الشروع في رسم ملامح المرحلة التالية من الرؤية الوطنية 2040 استشرافًا ورصدًا استراتيجيًا للمستقبل؛ ونركز هنا على مفردة الرصد الاستشرافي والرصد الاستراتيجي أي ذلك الذي يمكننا من التقاط الإشارات المستقبلية وتهيئة واقع تنموي يتعاطى معها، ويمكن قطاعات الدولة المختلفة من تحقيق التنافسية المحلية والعالمية، ويركز على المزايا النسبية الحقيقية ويستثمر فيها بشكل فاعل سواء على مستوى السياسة أو الاقتصاد أو الثقافة أو الفعل التنموي بأشكاله المختلفة.

غير أن ثمة ملفات باتت اليوم ملحة، سواء للضرورات المحلية المتصلة بها، أو ما تفرضه المتغيرات الدولية والإقليمية في سياقها، هذه الملفات نرى في تقديرنا بضرورة التركيز عليها في المسار التالي لخطة التنمية القادمة، أولها ملف تنمية الكوادر البشرية، وننظر هنا إلى هذا الملف كمنظومة شاملة غير مجزأة، وبصورة تتعدى المؤسساتية إلى ضرورات الفعل الوطني المتكامل، لنرصد هنا ثلاث إشارات ملحة توجه هذا الفعل:

- تحليلات (McKinsey) التي تشير إلى أن في المتوسط هناك حوالي 600 مليون وظيفة قد تتأثر بفعل الأتمتة وتعديلات الذكاء الاصطناعي عالميًا بحلول عام 2030 وخاصة تلك المرتبطة بإدخال البيانات والعمليات الأولية لتحليل البيانات.

- الصعود العالمي لمهن جديدة، والطلب العالمي على مهارات جديدة؛ حيث تشير منشورات للمنتدى الاقتصادي العالمي إلى أن التفكير التحليلي والتفكير الإبداعي والذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة ستكون من أبرز المهارات المطلوبة عالميًا بحلول عام 2027.

- سيركز العالم بشكل أوسع على مفهوم التعلم مدى الحياة، وهذا يعني التوسع بشكل أكبر في خيارات التعليم الذاتية، والتوسع في المنصات التعليمية والشهادات المهنية والاحترافية، وربط اكتساب المعرفة العلمية بالتعلم الحر والمدمج وخاصة للأشخاص المنخرطين في المهن وسوق العمل.

هذه ثلاث إشارات دالة على تحولات كبرى في مشهد الكوادر البشرية، تتطلب مواكبتها نهجًا استراتيجيًا محكمًا. يمكن القول إن المرحلة الراهنة (الخمس سنوات الأولى من رؤية «عُمان 2040») ركزت على الجوانب التنظيمية لتنمية الكوادر البشرية، من خلال سن قوانين جديدة للتعليم والتعليم العالي والعمل، ومن خلال إيجاد مقاربات جديدة فيما يتصل باعتماد أشكال جديدة من التعلم بما في ذلك الشهادات الاحترافية، في تقديرنا تتطلب الخمسية المقبلة نهجًا يركز على خمسة أبعاد أساسية: إعادة تأهيل مهارات القوى العاملة الراهنة خاصة في القطاع العام وفق محددات وموجهات استراتيجية محكمة، فهم التأثير الفعلي للأتمتة والذكاء الاصطناعي والعمليات الرقمية على المهام ووضع إطار مرحلي للتكيف والتعامل مع هذه المرحلة، إعادة مراجعة وتشكيل أنماط التعلم النظامية لتتواكب مع أنماط التعلم الناشئة في السوق العالمية، وضع الأطر الملائمة للتدريب والتأهيل المستمر خاصة بعد إتمام المراحل التعليمية التنظيمية بما يضمن ديمومة اكتساب المهارات، والانفتاح على سوق المهارات العالمية وعدم الانكفاء على الطلب ومحدداته محليًا فيما يتصل بالمهارات.

الملف الآخر الذي نرى بضرورته وأهميته هو ملف الاقتصاد الاجتماعي، لا شك أن هناك أثرا للسياسات الاقتصادية والمالية على المجتمع بطريقة أو بأخرى، والاقتصاد الاجتماعي بوصفه فعلًا يقوم على التضامنية الاجتماعية لتقديم الخدمات والمنتجات الملائمة للمجتمع والتي تقع في حدود استهلاكه وإمكاناته يعتبر أحد الوسائل التي تستخدمها الدول في سبيل تخفيف أثر السياسات الاقتصادية والمالية على المجتمع، على مستوى المساهمات تشير التقديرات العالمية إلى أن الاقتصاد الاجتماعي يشكل نحو 9 – 10% من الناتج الإجمالي العالمي، ويتفاوت بحسب كفاءة التنظيم والممارسة ودور الدولة من بلد إلى آخر في المساهمة الكلية. في سلطنة عُمان تتيح التجربة والممارسة التاريخية للمؤسسات الأهلية (مؤسسات المجتمع المدني) النشطة في قطاعات ومجالات مختلفة أن تقوم اليوم بأدوار مهمة في عملية تنشيط الاقتصاد الاجتماعي، وهذا يتطلب في البعد الاستراتيجي التركيز على خمسة متطلبات أساسية: تمكين هذه المؤسسات من تقديم بعض الخدمات والمنتجات الاجتماعية التي تقدمها مؤسسات الدولة بما يتماشى مع إطار حوكمة واضح لنقل هذه الخدمات، تمكين منظومة الاستهلاكيات التعاونية وربطها بالتحول نحو اللامركزية والتنمية المحلية، وضع الحوكمة الملائمة للممارسات المتعلقة بشركات التنمية الأهلية وتمكينها كأذرع استثمارية لموارد المحافظات، ربط جزء من الخدمات والممكنات الاستشارية للتنمية المحلية بالجمعيات الرسمية وتحفيز فعل الانضمام لها من قبل المجتمع، تحقيق منظومة الابتكار الاجتماعي في أعمال وخدمات ومنتجات مؤسسات المجتمع المدني.

في تقديرنا تتطلب الخمسية المقبلة تركيزًا أكبر على تمكين الموارد الاجتماعية واستثمارًا أكبر في فعل هذه الموارد وقوتها وتنظيمها، فحوكمة الاقتصاد الاجتماعي، والاستثمار في التحول في مهارات الكوادر البشرية أدوات مهمة للتكيف مع مستقبل سريع التغير ومتشابك المعطيات، فبقدر ما كانت الخمسية الأولى تركز على التمكين والاستدامة والحوكمة المثلى للموارد المالية والاقتصادية – وقد حققت نجاحات مشهودة في هذه الملفات – بقدر ما تتطلب الخمسية التالية تمكين الفعل الاجتماعي لمواصلة عملية التنمية ولتحقيق المستهدفات المرجوة من منظومة التنمية المستدامة بمفهومها الواسع والمتكامل.

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عُمان