شكلت الخطابات الفكرية والفلسفـية عبر القرون الماضية أرضية صلبة تأسست عليها حركات اجتماعية وسياسية واقتصادية وساهمت فـي بناء أنظمة قوية، وقيم أخلاقية ما زالت إلى اليوم، رغم تآكل بعضها نتيجة التحولات الجديدة، تحكم العلاقات الإنسانية. كانت تحركات المجتمعات فـي الشرق وفـي الغرب محكومة بأطروحات فكرية وفلسفـية تؤطر مساراتها وترسم نظرياتها السياسية والاقتصادية والأخلاقية.. كانت تحركات الجماهير مفهومة التوجهات وفق الأطروحات الفكرية والمقولات الفلسفـية التي تنتجها الطبقة الثقافـية والفكرية وحتى الدينية المستنيرة.

نستطيع أن نتذكر الآن الدور الكبير الذي شكلته أفكار أمثال: جان بول سارتر وكارل ماركس وجان جاك روسو ومحمد عبده وطه حسين ونور الدين السالمي مع اختلاف المرجعيات الأيديولوجية لكل مسار. كان ثمة مسار فكري واضح المعالم حاول أن يؤسس لمرحلة ويبشر بها فـي مساحة زمنية وإطار جغرافـي.. وكانت تلك الأفكار حافزا لإحداث تغيرات جذرية فـي المجتمعات التي ظهرت فـيها أو تلك التي تأثرت بها.

لكن هذا النمط تم تفكيكه مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي مع بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ويكاد يكون غائبا تماما فـي العالم العربي الذي لم يعد يتعاطى بشكل حقيقي، فـي الغالب، مع المصادر الفكرية مثل الكتب والمجلات العميقة التي لم يبق منها الكثير، كل ذلك حصل لصالح المحتوى الرقمي السريع الذي يُفقد العمق المرجعي ويتبنّى تبسيط المقولات الفكرية والفلسفـية السابقة ويخرجها من سياقها الأصلي ويتسبب فـي سوء فهم عميق لمفاهيمها.. وهذا بالضبط ما نشاهده الآن فـي وسائل التواصل الاجتماعي.

يعيش العالم أجمع الآن أمام لحظة فارقة فـي تاريخه، تتشكل فـيها منظومة قيمية وأخلاقية جديدة بعيدا عن أي مرجعية ثقافـية أو فكرية أو فلسفـية يمكن أن تكون منطلقا لهذا التحول ودليلا له، وحدها وسائل التواصل الاجتماعي، بكل ما فـيها وما يحيط بها، هي التي تشكل المشهد الجديد وتوجهه، ومع الأسف، تُعيد عَبره تشكيل منظومة القيم والأخلاق والمبادئ.. يحدث ذلك فـي ظل غياب الخطاب الثقافـي العميق والناقد.

كان عقد التسعينيات آخر العقود التي بُنيت على مرجعيات فكرية، مهما كان موقف الناس منها، مثل نهاية التاريخ، ونهاية الحرب الباردة، وصراع الثقافات والعولمة وما بعد الحداثة، وما بعد الكولونيالية، والديمقراطية، والتنمية والاستدامة.. كان الناس يتعاطون مع هذه النظريات فهما لها وتطبيقا أو تخويفا منها وتحذيرا كما كان الحال بالنسبة للعولمة التي كانت حديث الجميع فـي المنتديات الثقافـية وفـي المقالات الصحفـية وحتى فـي المدرسة رغم أن الطلاب، وأنا أحدهم، لم نكن نعي ماهية العولمة بشكل دقيق! وربما استطاعت تلك النظريات وما تطرحه من أفكار ومفاهيم أن تساهم فـي إحداث تحولات اجتماعية وسياسية على اتجاهات مختلفة.

اختلف الحال فـي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين الذي بدأ بأحداث الحادي عشر من سبتمبر التي أعادت بناء الكثير من المفاهيم فـي العالم وأثّرت جذريا في العالم العربي.

يمكن أن يوصف عقد التسعينيات فـي العالم العربي بأنه عقد «السخط» بامتياز؛ فقد دخل العالم الألفـية الجديدة بقوة التكنولوجيا وثورة المعلومات فـيما دخلها العالم العربي على وقع الغزو الأمريكي على العراق الذي دمّر واحدة من أكثر المدن العربية التي كانت تحمل رمزية التقدم العلمي والفكري عبر التاريخ. ساهم الغزو الأمريكي على العراق فـي تكريس خطاب السخط فـي العالم العربي والشعور بحالة أزلية من الانكسار ومن الإرهاق فـي السعي وراء أحلام عربية لا تتحقق. وعندما جاءت أحداث 2011 فـي العالم العربي كان الجميع يشعر أن العالم العربي قد وصل، فعلا، إلى مرحلة كاملة من الانسداد الحضاري. رأى الكثيرون فـي تلك الأحداث محاولة للقفز فوق ذلك الانسداد الحضاري. لكن الأمر لم يكن كذلك، وبعيدا عن نظرية المؤامرة، التي أؤمن بها شخصيا فـي أحداث ما عُرِف بـ«الربيع العربي» إلا أن العالم العربي لم يكن فـي ذلك الوقت يتحرك وفق خطاب فكري وفلسفـي، ولم تكن تلك الأحداث على فرضية عدم استغلالها من قبل الغرب، نتيجة لحراك ثقافـي وفكري؛ ولذلك سادت العالم العربي أكبر حالة فوضى فـي تاريخه وتدمرت دول كانت فـي يوم من الأيام مصدر قوة واستقرار للعالم العربي. وحدثت صراعات كبرى فـي العالم العربي بين القوى الساخطة وبين الأنظمة.. حدث كل ذلك فـي غياب ثقافـي وفكري وفلسفـي عربي مؤسس، وحضور قوي مؤثر لوسائل التواصل الاجتماعي التي استأثرت بكل المنابر التي أعيد عبرها بناء قيم ثقافـية جديدة فـي المجتمعات العربية، وتم من خلالها الضغط على الأنظمة السياسية من أجل إحداث قيم ثقافـية جديدة لا تنتمي، بالضرورة، إلى القيم الثقافـية العربية والإسلامية.

إن نتائج ذلك التحول وذلك الغياب الغريب للخطاب الثقافـي والفكري العربي كثيرة جدا سواء على المستويات الوطنية الداخلية فـي كل دولة عربية أم على المستوى القومي العربي والذي نستطيع قراءته فـي موقف الشعوب العربية من الحرب الهمجية الإسرائيلية على قطاع غزة وعلى لبنان وسوريا.

إننا فـي أمسّ الحاجة اليوم فـي العالم العربي وفـي الدول القُطرية أن نخرج من عقد السخط الذي عشناه طوال العقدين الماضيين إلى عقد العمل من أجل غد مختلف ومبني على رؤية ثقافـية وفكرية وخطاب فلسفـي مؤسس للتغيير والتحول فـي المجتمعات، ونحتاج إلى خطاب ثقافـي مبني على وعي يستطيع تفنيد القيم التي تشكلها وسائل التواصل الاجتماعي فـي مجتمعاتنا والتي تسيطر على وعي الكثيرين، نحتاج بشكل واضح إلى من يُنهي هذا الانقلاب والانفلات الأخلاقي والفكري فـي المجتمعات العربية. لم يعد هناك أي مبرر لغياب النخب الثقافـية عن المشهد العربي الذي يتداعى فـي الكثير من الأماكن ولتبنّي المثقف العربي لدوره التاريخي فـي بناء الوعي الرصين فـي مجتمعه.

وحتى لا تكون هذه الدعوة عامة بعيدة عن السياق العماني فإنني أدعو بشكل خاص المثقف العماني والمفكّر العماني وكل النخب العمانية للقيام بهذا الدور والمساهمة فـي بناء وتكريس خطابات فكرية عميقة تساهم فـي مسيرة تحولات المجتمع العماني بعيدا عن محتوى وسائل التواصل الاجتماعي التي تكرس، فـي الغالب، لبقاء عقد السخط من كل شيء والتقليل من أي إنجاز تقوم به الدولة نتيجة عدم القدرة على وضعه فـي سياقه الصحيح من مسار المجتمع.

عاصم الشيدي كاتب ورئيس تحرير جريدة «عمان»