مضى أكثر من عام على الحرب في غزة، عام من الدمار والدماء وترويع الأطفال والموت طوال الوقت، لدرجة أنه أصبح من الصعب في نهاية كل يوم حصر عدد الشهداء والمصابين، لم تعد الأرقام تمثل شيئا فقد اختلطت كل الصور، وأصبحت رائحة الموت هي الصورة التي تفرض نفسها على أرض الواقع، ومقابل المشهد المؤلم راح قادة ميليشيا القتل في إسرائيل يتباهون حينما يخرجون علينا في وسائل الإعلام وهم مصرون على مزيد من القتل، يبدو أن عدوهم الذي استعصى عليهم قد أخافهم في موته، لدرجة أننا نرى البيوت تنهار على ساكنيها وجثث الأطفال والشهداء تتناثر والفلسطينيون يتسابقون في جمع أشلاء شهدائهم، ولا نرى في المشهد صورة المقاتل المنهزم، بل المقاتل الذي يزداد إصرارا على القتال وهو على يقين بأن الحقوق لا يضيَّعها إلا أصحابها، بعد أن ازداد الفلسطينيون معرفة بتجارب آبائهم وأجدادهم، الذين احتفظوا بمفاتيح منازلهم على أمل العودة إليها، لكن الوعود طالت والزمن ينقضي عاما بعد آخر، وما تزال الوعود الواهية والرهان على إنسانية العالم، فقد كانت التجربة هي المعلم الأول لهؤلاء المقاتلين، إلا أن المنهزمين من بني جلدتنا في المقابل يخرجون علينا عبر خطاب بائس، يقولون دائما: وماذا تحقق بعد مرور عام فها هي آلة القتل تحصد الناس في غزة بمدنها وشوارعها، وقد أحالها العدو إلى مدن من الركام والحطام، ولم يلتفت هؤلاء إلى أن الحقوق الكبيرة الخاصة بالأوطان لها أثمان كبيرة أيضا.

لقد راهن العدو على استسلام الفلسطينيين وإملاء شروط مذلة عليهم، لكن دهاء التاريخ وعبقريته قد أتى بنتائج مغايرة لما رهنوا عليه، فلم يتمكن قادة إسرائيل من القضاء على الفلسطينيين، الذين يقاتلون من تحت الأنقاض، ولم يتمكن نتنياهو من الوفاء بوعده بعودة المستوطنين إلى بيوتهم في شمال إسرائيل، بعد أن اعتقد بأن قتل زعماء المقاومة في لبنان وغزة، وقذف جنوب لبنان بالصواريخ الفتاكة سوف يرغم المقاومة على الاستسلام، لكن خاب زعمه فها هي المقاومة اللبنانية تطال تل أبيب وما وراءها، ولم يتمكن نتنياهو من تحرير الأسرى، وقد تضاعفت خسائر إسرائيل في الجبهتين اللبنانية والفلسطينية، لدرجة أن عدد قتلاهم في يوم واحد قد وصل إلى عشرة من القتلى وأكثر من ٢٥ من المصابين، وتدمير ست دبابات وهو ما لم يحدث في ظل الحرب الشاملة على غزة، وقد وصف جالانت يوم ٢٥ أكتوبر ٢٠٢٤، بأنه اليوم الأصعب في تاريخ إسرائيل.

أعتقد أن الإسرائيليين قد فقدوا ثقتهم في نتنياهو وجماعته، وهم يشاهدون على التلفاز كل يوم إقامة الجنازات في توديع قتلاهم، في مشهد بائس لا يستقيم وغطرسة إسرائيل، وادعاء قدرتها الفائقة على أنهاء مهمة جيشها في أسبوع أو أسبوعين، وها هي الحرب قد طالت لأكثر من عام، وقد سيطروا على غزة وقتلوا من المقاومين أعدادا يصعب حصرها، ورغم ذلك فلم يتمكنوا من كسر إرادة الفلسطينيين ولا من عودة أسراهم، ولم يتسرب اليأس إلى المقاومين اللبنانيين بقتل قادتهم بل تضاعف حماسهم بعد أن راحوا يستهدفون عدوهم في كل أنحاء إسرائيل، وأصبحت الخسائر رقما صعبا في الحياة الإسرائيلية.

لقد اعتقد قادة إسرائيل أن قتل حسن نصر الله ويحيى السنوار وهاشم صفي الدين وغيرهم من قادة المقاومة سوف يفضي إلى القضاء على المقاومة، وهو ما صورته أجهزة الإعلام الإسرائيلية وتابعوها، فالإسرائيليون قد تمكنوا من غزة والمقاومة في لبنان قد فقدت قادتها ودُمرت منازل اللبنانيين في الجنوب بالصواريخ الذكية، ونزح من جنوب لبنان ما يفوق المليون ونصف مليون نازح في وضع اجتماعي وإنساني غاية في الصعوبة، لكن المقاومين في غزة وجنوب لبنان يفاجئون عدوهم كل يوم من تحت الأنقاض صباح مساء، وهو ما أحدث شعورا جمعيا في إسرائيل باليأس، وأصبحت خسائرهم أرقاما يتداولها الإعلام، ورغم ذلك فلم يستوعب قادة إسرائيل الدرس بعد، ولا يستطيع مراقب للأحداث أن يتنبأ بما يحدث غدا أو بعد غد، بينما المعلومات من داخل إسرائيل تقول بأن الإسرائيليين قد أصابهم اليأس بما في ذلك جنودهم الذين راحوا يشتكون بأنهم يواجهون إهمالا من قادتهم، وفي كل مرة يتأكد الشعب الإسرائيلي بأن حكومته تكذب عليه، فلم تنته المقاومة بقتل السنوار وحسن نصر الله، ولم يتسرب اليأس إلى المقاتلين في غزة، ولم تتمكن إسرائيل من تأمين مواطنيها على كل الحدود اللبنانية.

راح الإعلام الإسرائيلي وتابعوه طوال عام كامل يصورون قائد المقاومة في غزة (يحيى السنوار) بأنه يعيش في عالم افتراضي داخل الأنفاق، بينما يستشهد المقاومون كل يوم، وقد ترسخ في ذهن البعض هذه الصورة ، إلا أن استشهاد يحيى السنوار وما أعقبه من معلومات عن طريقة استشهاده جميعها بمثابة دليل قاطع على أن الرجل كان يقاتل وسط جنوده، ولم يتخل عن جبهة المواجهة ولو ليوم واحد، فهو القائد الذي عاش حياة مقاتليه في نومهم ويقظتهم، وهو مشهد ضاعف من شعور الكثيرين بأننا كنا أمام مقاتل لا تسقط بندقيته إلا بالموت، وهي صورة يتمناها كل المقاتلين الشرفاء، وكانت هي الأمنية لقائدهم يحيى السنوار، فقد كان واثقا من استشهاده، ولكنه استشهاد يقدم درسا لكل الفلسطينيين ولكل المناضلين في العالم.

السؤال الذي يطرح نفسه بعد عام كامل من الحرب على غزة: وماذا بعد؟ فقد استشهد من الفلسطينيين عشرات الآلاف ودُمر أكثر من ٨٠٪؜ من مباني غزة، وكان المشهد في جنوب لبنان صورة مكررة لما يحدث في غزة، ولعل ما حدث يوم ٢٧ أكتوبر الماضي في بلدة (طمرة)، في الجليل الغربي حينما أقدم مواطن فلسطيني على الدخول بشاحنته في محطة للحافلات وقتل أكثر من خمسة إسرائيليين وإصابة أكثر من خمسين، وهو ما يدفعنا إلى طرح السؤال نفسه: وماذا بعد؟ فسيبقى المظلوم مصرا على استعادة حقوقه، وسيبقى المتغطرس المعتدي مصرا على عدوانه. لكن من المؤكد أنه لن ينعم بحياته ولن يجني ثمار عدوانه، فالقضية هنا لا تحسمها الجيوش وإنما تُحسم بعودة الحقوق إلى أصحابها، ولن يظل العالم يشهد هذه المأساة على أنها حرب بين إرهابيين وإسرائيل الديمقراطية المسالمة، بعد أن تكشفت الأمور وأصبح الداعمون للقضية الفلسطينية يزداد عددهم في أوروبا وأمريكا، وخصوصا وسط الشباب، ولن تَسلَم إسرائيل حتى ولو نجحت في فصل جبهة لبنان عن غزة، فستبقى القضية معلقة في رقاب العالم الحر، وسيبقى الفلسطينيون يواصلون نضالاتهم من تحت الأنقاض أو من الحارات الضيقة في مدن غزة، إنها الأرض التي دفع الفلسطينيون ثمنها باهظا من دمائهم، إنها القضية التي لا تسقط أبدا بالتقادم.

د. محمد صابر عرب أكاديمي وكاتب مصري