عنيت الشريعة الإسلامية بأعمال العباد عناية خاصة متفردة، وأوضحت أن كل عمل يقوم به الإنسان إنما هو مسجل ومثبت فـي صحيفة أعماله، وبناء على ما كتب فـي تلك الصحيفة سيتم حساب الإنسان يوم القيامة، وقد أكد القرآن الكريم هذه الحقيقة فـي الكثير من المواضع وأوردها فـي سبيل البيان والإيضاح وفـي سبيل الوعظ والتذكير، وفـي سبيل استشراف ما سيقع فـي المستقبل يوم القيامة وأحوال المؤمنين الناجين، وأحوال المكذبين المشركين وأقوالهم وأفعالهم يوم القيامة، وهذا يدل دلالة واضحة جلية على أن هذا الموضوع يشغل محورا مركزيا فـي قضايا الشريعة الإسلامية، وهذه الصحيفة هي بمثابة صحيفة إدانة أو إشادة وجزاء حسن على حسب ما امتلأت به تلك الصحيفة. ومن عظم أهمية هذه الصحيفة وجلالة قدرها وعظم خطرها فإن الأعمال المسجلة فـيها سيكون عليها شاهد من الإنسان نفسه فقال تعالى فـي سورة النور «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» وهذا غاية العدل ومنتهى الحق، بأن يقوم على أعمال الإنسان شاهد من نفسه، بل حتى جلد الإنسان سيشهد عليه فـي موقف الحساب وحتى السمع والأبصار، فتصبح جوارح الإنسان هي شهادات إثبات وإدانة ولو تأملنا التفاصيل التي أوردها الله فـي سورة فصلت من هذه الشهادات التي ستقوم بها هذه الأعضاء وعتب الإنسان عليها ومجادلته لها وإقامة هذه الأعضاء الحجة على هذا الإنسان ولجمة بالحجة الدامغة وتبيانها له أنه لماذا قام بتلك الأعمال التي كان لا يستتر من الله أثناء عملها فـي مشهد مهيب تقشعر منه الأبدان وهو مشهد قادم من المستقبل أثبته القرآن الكريم لكي يقيم الحجة على العباد ويبين لهم يقينا ما سيحدث فـي المستقبل من أسباب الخسران، فقال الله تعالى: «حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ «20» وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ «21» وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ «22» وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ «23». وهذا الكتاب أو الصحيفة لا يحصي الأعمال فقط بل يتجاوز ذلك إلى إحصاء الأقوال، فكل قول نطقت به شفتاك ستجده مسطرا مكتوبا فـي تلك الصحيفة، وأوكل الله كتابة تلك الأعمال إلى ملكين يقومان بإحصاء أعمال كل شخص فملك عن يمينك يحصي أعمالك وأقوالك الصالحة ويسمى «رقيب» وملك عن شمالك يحصي أعمالك وأقوالك السيئة ويسمى «عتيد» فقال تعالى فـي سورة «ق»: « إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ «17» مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ «18» وأكثر ما يدخل الناس النار هو ما يجترحونه من خلال هذه اللسان، هذا العضو الخطير الذي يعتبر ملاك الأمر كله كما وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم عندما سأله الصحابي الجليل معاذ بن جبل قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أخبِرْني بعملٍ يُدخِلُني الجنَّةَ، ويباعدني منَ النَّارِ، قال صلى الله عليه وسلم: لقد سألتَ عن عظيمٍ، فذكر له مجموعة من الأعمال الصالحة وصنفها وفصل فـيها، وقال له بعد ذلك «ألا أخبرُك بمِلاكِ ذلِك كلِّه؟ قلتُ: بلَى، يا نبيَّ اللهِ، فأخذَ بلسانِهِ، وقال: كُفَّ عليكَ هذا، فقُلتُ: يا نبيَّ اللهِ، إِنَّا لمؤاخَذونَ بما نتَكلَّمُ بِه؟ قال: ثَكلتكَ أمُّكَ يا معاذُ، وَهل يَكبُّ النَّاسَ فـي النَّارِ علَى وجوهِهِم، أوعلَى مناخرِهم، إلَّا حصائدُ ألسنتِهم». ومن عظيم الغفلة هذه الأيام أن ألسنة الناس هي أهون أمر عليهم، فأصبحوا يتندرون ويستمتعون بالغيبة، بل وأصبحت هذه المعصية المحرمة العظيمة فاكهة لكل مجلس، فقلما تجد مجلسا لا يتم فـيه ذكر الناس فـي غيبتهم بما يكرهون، بل ونجد الناس لا يلقون لذلك بالا ولا يتأثمون، مع عظيم ما يجره هذا اللسان من المصائب فـي الدنيا والآخرة. والله بعدله أخبرنا فـي الحديث القدسي أنما يوفـي الله الناس ويحاسبهم بأعمالهم فقال تعالى فـي الحديث الذي بدأه «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما» وقال فـيه: «إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ». والعاقل من اشتغل بنفسه وأصلحها وزكاها وملأ صحيفته بما يسره يوم يلقى ربه، من صلاة وصيام وصدقة وقراءة للقرآن وذكر كثير، فقد كان الصالحون يملؤون أوقاتهم بالذكر، فهذا التابعي الجليل الحسن البصري يقول: «ما يضر أحدكم إذا جلس فارغا أن يقول للملَك اكتب يرحمك الله ثم يُملي خيرا» وهو يقصد الملك الموكل بكتابة الحسنات، وهذه أم المؤمنين عائشة رضي اللَّه عنها تقول: طوبى لِمن وجدَ فـي صَحيفتِهِ استغفارًا كثيرًا» فالاستغفار يمحو السيئات ويرفع الدرجات، ويجعل صحيفة المؤمن ناصعة البياض يملؤها النور، وهي أداة تبييض لصحيفة المؤمن، ومن أدوات مسح الذنوب وتبييض الصحيفة هي التوبة، فالله بها يمحو الذنوب، وهي أداة نجاة ينجي الله بها الناس من مستنقعات الذنوب والأعمال السيئة ويغفر بها الذنوب جمعا فقال تعالى فـي سورة الزمر: « قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّه إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» فتجديد التوبة والعودة إلى الله مطلب دائم، يصحح بها العبد مساره، ويلتجئ إلى ربه معتذرا مستغفرا نادما عما بدر منه عازما على عدم العودة إلى تلك الذنوب، مرجعا الحقوق إلى العباد، فباب التوبة مفتوح ما لم تدهم الإنسان منيته. |