توقفت طويلًا أمام التقارير الصحفية وإن شئت فقل التقرير الصحفي الموحد الذي نشر أمس الأول الاثنين عن الاجتماع الثاني لهذا العام للجنة الحريات بجمعية الصحفيين العمانية والذي أكد أن اللجنة «لم تتلق أي بلاغات أو شكاوى لأي تجاوزات صحفية أو تجاوزات للصحفيين والإعلاميين العاملين في كافة المؤسسات الصحفية والإعلامية بسلطنة عُمان، سواء بالفصل أو الإنذار أو الإحالة إلى المحاكم أو النقل التأديبي، وذلك منذ بداية تشكيل اللجنة في السابع والعشرين من شهر مارس لعام 2024 ولم يطلب منها أي تدخل أو مساعدة تجاه أي قضية تخص الصحفيين والإعلاميين»، بالإضافة إلى «عدم وجود أي قضايا للمؤسسات الصحفية والإعلامية في سلطنة عُمان خلال العام الحالي».

عندما قرأت هذا التقرير «الموحد» الذي نشرته الجمعية على منصاتها الإعلامية المتعددة سواء في موقعها الإلكتروني أو حساباتها على شبكات التواصل وأرسلته لأعضائها على تطبيق «الواتساب»، وتناقلته صحف ومواقع عديدة، قلت في نفسي: هل نفرح بهذا التقرير الذي يشهد لنا بعدم الاعتداء على الصحفيين وعدم إقامة دعاوى قضائية ضدهم؟ أم نحزن لأن الصحافة لم تعد تثير الجدل وأن الصحفيين أصبحوا يتجنبون الخوض في القضايا الشائكة، و«يرضون من الغنيمة بالإياب»؛ حتى لا يقعون تحت طائلة القانون أو غضب المؤسسات التي تزودهم بالأخبار الجاهزة للنشر عبر إدارات الإعلام والعلاقات العامة التي تملكها. بتعبير آخر، هل يمثل غياب القضايا الصحفية عن الساحة دليلا على اتساع مساحة حرية الصحافة وتمتع الصحفيين بعدم الملاحقة الأمنية والقضائية؟ أم دليلا على غياب الصحافة نفسها عن الساحة التي تركتها للمواطنين الصحفيين والمؤمنين على شبكات التواصل الاجتماعي.

الصحافة الحية والقادرة على البقاء في السوق، ومواجهة المنافسة الشرسة من منصات الإعلام التلفزيونية والرقمية، في تقديري، هي التي تدخل في معارك من أجل الصالح العام، ويدفع فيها الصحفيون من حياتهم واستقرارهم وحريتهم ثمن جرأتهم وإصرارهم على البحث عن الحقائق ونشرها، وليست الصحافة التي تهادن الجميع وتمارس النفاق السياسي والاجتماعي وتأتمر فقط بأوامر الأجهزة الأمنية والسيادية. ولذلك لا غرابة في أن يستمر قتل الصحفيين وسجنهم في العالم. ووفقًا لتقارير منظمة «مراسلون بلا حدود» لحصيلة الصحفيين المحتجزين والقتلى والرهائن والمفقودين عبر العالم خلال العام الماضي، قتل 45 صحفيًا أثناء ممارسة نشاطهم المهني من بينهم 13 صحفيا مع اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة، ولا يزال 521 صحفيا خلف القضبان في مختلف أنحاء العالم لأسباب تعسفية تتعلق بطبيعة عملهم. وتتصدر الصين قائمة أكثر الدول سجنًا للصحفيين تليها بورما، ثم بيلاروسيا.

وتشير منظمات حقوقية إلى أن «ما لا يقل عن ثمانية صحفيين في الولايات المتحدة، يواجهون حاليًا تهمًا جنائية. يشمل ذلك حالات مثل حالة مراسلة الراديو أبريل إيرليش، الصحفية الحالية بإذاعة اوريجون العامة، والسابقة في إذاعة جيفرسون العامة، وقد تم اعتقالها في سبتمبر 2020، عندما كانت تشغل منصب نائبة رئيس مجلس إدارة جمعية الصحفيين المحترفين في جنوب ولاية أوريجون، أثناء تغطيتها لإزالة الشرطة لمخيم للمشردين في مدينة ميدفورد بولاية أوريجون. خلال الحادث، تم توجيهها للبقاء في المنطقة المخصصة لمراسلي وسائل الإعلام، لكنها جادلت بأن ذلك يعيق قدرتها على التغطية بفعالية. وعندما اقتربت لتصوير الأحداث، تم اعتقالها ووجهت لها تهم التعدي على ممتلكات الغير، ومقاومة الاعتقال، والتدخل في عمل ضباط الشرطة. وتم إسقاط جميع التهم ضد إيرليش في النهاية، لكنها رفعت دعوى قضائية ضد مدينة ميدفورد، مدعية أن اعتقالها انتهك حقوقها الدستورية وأعاق حرية الصحافة.

لا نريد بالقطع أن يتعرض الصحفيون للقتل أو الاعتقال أثناء تأدية مهام عملهم حتى نبرهن على أن لدينا حرية صحافة، ومع ذلك في اعتقادي أن غياب القضايا الصحفية عن المحاكم لا يمكن الاعتماد عليه وحده كمؤشر من مؤشرات قياس حرية الصحافة خاصة في المجتمعات العربية، التي تفرض فيها الأنظمة وأصحاب المصالح الصمت على الصحافة والصحفيين في تناول أحداث وقضايا مجتمعية محددة، أو ما يطلق عليه «محظورات النشر» أو «الخطوط الحمراء»، وهو صمت يشكل خطرا على الصحافة وعلى المجتمع بوجه عام أشد من خطر اعتقال الصحفيين أو جرهم إلى المحاكم أو حتى سجنهم. هذا الصمت المفروض على الصحافة والصحفيين يضرب حرية الصحافة من الأساس ويخصم من رصيدها الوطني لدى الشعوب ويشكك في دورها ووظائفها الأساسية كسلطة رابعة تراقب كل ما يحدث في المجتمع، وتنوب عن الجمهور في متابعة كل ما يجرى من أحداث وما يثار من قضايا.

لا شك أن الصحافة تعاني منذ ظهور منصات الإعلام الرقمي من أزمة كبيرة قد تنتهي بخروج الصحف والمنصات الورقية من صناعة الإعلام، وربما قد تؤدي على المدى الطويل إلى زعزعة ثقة المجتمعات في صحافتها وعدم جدوى استمرارها. ولا سبيل أمام الصحف لاستعادة الثقة والحفاظ على حياتها لأطول فترة ممكنة سوى منحها المزيد من الحريات في تناول أحداث وقضايا المجتمع، حتى وإن نتج عن ذلك الوقوف أمام المحاكم أو الحرمان من إعلانات المؤسسات العامة أو الخاصة. ولعله من المناسب هنا أن نعيد التذكير بالعبارة الشهيرة المنسوبة للرئيس الأمريكي الأسبق، وأحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية، التي يقول فيها: «إذا خُيّرت بين حكومة بلا صحافة حرة وبين صحافة حرة بلا حكومة، ما ترددت في اختيار الثانية».

لا يمكن بأي حال أن نلوم لجنة الحريات بجمعية الصحفيين العُمانية، فقد أعلنت ما وجدت ومن حقها أن تتفاخر به، ولا يمكن أن نلوم الصحفيين على نجاحهم في حماية أنفسهم من الدعاوى القضائية والاحتفاظ بعلاقات عمل جيدة مع الحكومة ومع المؤسسات المختلفة وأصحاب المصالح، كما لا يمكن أن نلوم المؤسسات الصحفية والإعلامية لكونها لم تفصل صحفيًا واحدًا، أو تنذر أحدا من الصحفيين أو تحيله إلى المحاكم أو تقوم بنقله تأديبيا، لكننا فقط نثير السؤال الذي تبدو إجابته واضحة، وهو هل يعني ذلك أن الصحافة وحرية الصحافة بخير وأنه ليس بالإمكان أفضل مما كان؟ لا يجب إن نفرح كثيرا بحضور الحريات الصحفية وغياب الصحافة نفسها عن المشهد.

بقي أن أشير إلى أمر آخر ورد بتقرير اجتماع لجنة الحريات بجمعية الصحفيين، ويتمثل في التوصية الأولى من التوصيات التي انتهى إليها الاجتماع وهي حسب نص التقرير «تفعيل زيارات خارجية للتعرف على تجارب الدول العربية في مجال الحريات الصحفية». ويحق لنا التساؤل هنا عن أي دول عربية تتحدث اللجنة، وهل لدينا حاليا تجارب ناجحة في الحريات الصحفية يمكن الاستفادة منها من خلال هذه الزيارات؟

إن أوضاع حرية الصحافة في سلطنة عُمان تبدو، وفقًا لما انتهي إليه اجتماع اللجنة، أفضل بكثير من تجارب كل الدول العربية مجتمعة في الحريات الصحفية، إذ لا تكاد تخلو دولة عربية من المحيط إلى الخليج من صحفيين تم اعتقالهم لسنوات طويلة، وآخرين تمت مطاردتهم حتى خارج حدود أوطانهم، وصحفيين تم قتلهم وإخفاؤهم، بالإضافة إلى الحجر على حريات التعبير ليس فقط في المنصات الإعلامية ولكن أيضا في شبكات التواصل الاجتماعي.